الاستمرار التغيير: تحديات السياسة الخارجية السعودية في ظل الملك الجديد

الاستمرار التغيير: تحديات السياسة الخارجية السعودية في ظل الملك الجديد

1201523113750

ترجّل الفارس عن جواده ورحل. غاب الملك عبد اللـه بن عبد العزيز ليترك مكانه خاليا، ربما لفترة من الوقت حتى تتضح معالم السياسة السعودية الجديدة بعد تولية أخيه غير الشقيق الأمير سلمان بن عبد العزيز، شئون الحكم في البلاد. كان الملك عبد اللـه ـ رحمه اللـه ـ عروبيا حتى النخاع. وقد وضع مصالح السعودية وأشقائها فوق الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة، التي شهدت علاقاته معها أشد مراحل البرود منذ الحظر النفطي الذي بدأه وعززه الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز في سبعينات القرن الماضي.

تمتعت السياسة الخارجية السعودية ولا تزال بقدر كبير من الاستقرار، إلا أن الأوضاع الإقليمية والدولية تطرح تساؤلات عميقة مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز

ومع أن السياسة الخارجية السعودية تمتعت ولا تزال بقدر كبير من الاستقرار، إلا أن الأوضاع الإقليمية والدولية تطرح تساؤلات عميقة في دوائر الحكم في السعودية مع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الملقب داخليا بـ “حكيم أبناء عبد العزيز”. فالأوضاع في شبه الجزيرة العربية تتغير على مدار الساعة نظرا لما يحدث على حدود السعودية في كل من اليمن والبحرين. والأوضاع في المنطقة العربية لا تزال حبلى بالكثير من التغيرات وربما المفاجآت التي ربما لن تكون في الحسبان. ومن ذلك ما يحدث في سوريا، وتخلي الولايات المتحدة عمليا عن هدف إسقاط بشار الأسد الذي كانت السعودية تعتبره حجر زاوية في إعادة ترتيب النظام الإقليمي العربي. ومن ذلك التوتر في لبنان وعلى حدوده مع كل من سوريا وإسرائيل. ومن هناك تمتد مصادر القلق إلى الوضع في فلسطين وفي العراق. وتحتل مصر مكانة خاصة، حيث كانت السعودية قد وضعت كل إمكاناتها لمساندة النظام الجديد بعد 30 يونيو وراهنت عليه في تغيير معادلات القوة في الشرق الأوسط. بينما تمثل إيران صداعا شديدا بالنسبة للسياسة الخارجية والإقليمية السعودية، في الوقت الذي تكاد فيه إيران أن تفرض حصارا على الرياض من بغداد إلى دمشق إلى بيروت إلى غزة إلى صنعاء إلى المنامة.

وعلى الصعيد الدولي تعتبر الحرب على الإرهاب والاختلالات الراهنة في سوق النفط وتراجع النمو في العالم والموقف من التحالفات الدولية، بما في ذلك الموقف من روسيا والصين والهند، من القضايا الرئيسية التي ستحتاج السياسة الخارجية السعودية إلى إعادة النظر فيها، خصوصا وأن الرياض تملك مقعدا رئيسيا في مجلس الإدارة الموسع للعالم ألا وهو مجموعة العشرين. حكيم آل سعود إذن الملك سلمان يجد أمامه جدولا حافلا بالقضايا السياسية والإقتصادية والعسكرية التي تعامل معها الفارس الراحل الملك عبد اللـه بهدوء وروية وحكمة بالغة خلال السنوات القليلة الماضية، خصوصا منذ عصفت بالمنطقة رياح التغيير في العام 2011. وبينما نجح الملك السعودي الراحل في المحافظة على أكبر قدر من الاستقرار للسفينة العربية المبحرة في بحور هائجة، فإن الأنظار تتطلع الآن إلى ما سيقدم عليه الملك الجديد في الرياض.

من المرجح أن يصبح الأمير محمد بن سلمان صاحب كلمة قوية في كل ما يتعلق بشئون المملكة الاستراتيجية

أولا- الملك سلمان بن عبد العزيز رائد التحديث

ويعتبر الملك سلمان بن عبد العزيز واحدا من رواد التحديث في المملكة العربية السعودية، وهو في ذلك يلتقي مع الملك الراحل ولا يخالفه. ومن ثم فإن من المتوقع استمرار سياسات التحديث وتنويع الاقتصاد وزيادة البعثات التعليمية إلى الخارج خصوصا إلى الولايات المتحدة التي يوجد بها ما يقرب من 80 ألف طالب سعودي يدرسون في مجالات ومراحل التعليم المختلفة. لكن الملك سلمان لن يكون مطلق اليد في عمليات التحديث، حيث سيوازن دائما بين ضرورات التحديث وبين نفوذ القوى المحافظة الدينية والقبلية. وهنا سيكون على الملك سلمان أن يجتاز اختبار “القوة القبلية” الذي كان يعزز مكانة الملك الراحل. وسوف يحتاج الملك سلمان إلى اتخاذ إجراءات من شأنها أن تقلل من الضرر الذي وقع على “آل التويجري” الذي بدأ حكمه بتقليص نفوذهم في البلاط الملكي، وربما يتبع ذلك تقليص نفوذهم في أجهزة الحرس الوطني. ويعتبر “آل التويجري” ومنهم رئيس الحرس الملكي السابق خالد بن عبد العزيز التويجري، من أهم الدعامات القبلية التي اعتمد عليها الملك الراحل عبد اللـه بن عبد العزيز من خارج الأسرة المالكة. وتعرف أوساط الحكم في السعودية أن لآل التويجري فضلا عظيما في تأسيس المملكة، ودعم الملك عبد العزيز في حروبه الأولى ضد القبائل المختلفة، بما في ذلك الدعم المالي.

لكن القضية الأخطر التي تواجهها السعودية داخليا، والتي تترافق مع التحديث كظله هي قضية التصدي للإرهاب. فالإرهاب هو الخطر العاجل الذي يهدد السعودية، خصوصا مع تراكم التهديدات الأمنية التي تتعرض لها السعودية على حدودها البرية والبحرية. وقد جاء اختيار الأمير محمد بن سلمان مستشارا خاصا للملك ورئيسا للديوان الملكي ووزيرا للدفاع لكي يؤكد أولوية التصدي للتهديدات الأمنية الداخلية والخارجية في بداية حكم الملك سلمان. وإذا كان كان الملك سلمان قد اختار الأمير محمد بن سلمان لهذه المهام جميعا، فهو بذلك يمنحه صلاحيات واسعة النطاق تتجاوز كثيرا إختصاصات وزير الدفاع وتجعله القوة الأكبر داخل المملكة في قضايا الدفاع والأمن التي تتصدر اهتمامات المملكة. ونظرا لاعتبارات السن، فمن المرجح أن يصبح الأمير محمد بن سلمان صاحب كلمة قوية في كل ما يتعلق بشئون المملكة الإستراتيجية.

وفي مجال تقييم الأوامر الملكية الستة الأولى التي أصدرها الملك سلمان، فمن الواضح جدا أن اعتبارات الولاء للملك الجديد تتقدم عما عداها، مما قد يشير إلى المزيد من التغييرات الداخلية المقبلة طبقا لحسابات تختلف عن تلك التي كان الملك الراحل قد اعتمد عليها، ولكن بما لا يخل بنظام توزيع القوة داخل بيت آل سعود، وبما يحافظ على القدر الكافي من التوازن بين نفوذ كل من الأسرة والمؤسسة الدينية الوهابية والقبائل. على أننا يجب أن نقرر هنا أن الأوامر الملكية التي تضمنت تعيين الأمير محمد بن نايف وليا لولي العهد تقطع بأن أحفاد الملك عبد العزيز ستنتقل إليهم السلطة بمقتضى نظام البيعة القائم حاليا، حيث تقدم على أبناء عمومته ليصبح نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزارء السعودي بجانب عمه الأمير مقرن بن عبد العزيز الذي انتقل من منصب ولي ولي العهد إلى المنصب الأرفع، ليكون وليا للعهد تحت إمرة الملك سلمان.

ويوجد تيار داخل الأسرة الحاكمة، خصوصا بين جيل أحفاد الملك عبد العزيز، وبين رجال الأعمال، يتشكك في جدوى استمرار المساعدات الاقتصادية لمصر بدون إحراز تقدم اقتصادي ملموس

ثانيا- تحديات الثمانية للسياسية الخارجية

وبعد إعادة ترتيب البيت السعودي من الداخل، فإن السياسة الخارجية السعودية ستواجه ثمانية اختبارات رئيسية منذ اللحظة الأولى لتولي الملك سلمان. وهذه الاختبارات الثمانية هي:

  • الحرب على الإرهاب، وكيفية التعامل مع التشابكات والتعقيدات الناشئة عن تخلي الولايات المتحدة عن هدف إسقاط بشار الأسد. ويشمل ذلك مستقبل الدور السعودي في التحالف الدولي ضد داعش والحرب على الإرهاب في مناطق أخرى في الشرق الأوسط والعالم.
  • معالجة الاختلالات في سوق النفط، وما إذا كانت السعودية ستستمر في قيادة أوبيك بمقتضى سياسة “البقاء للأقوى” أم أن السعودية ستخضع لضغوط الولايات المتحدة وبعض شريكاتها في أوبيك مثل العراق وإيران من أجل تخفيض الإنتاج لغرض رفع المستوى العام للأسعار التي انخفضت إلى ما دون 50 دولارا للبرميل.
  • إعادة النظر في العلاقات السعودية – الأمريكية على ضوء موقف الولايات المتحدة من إيران، والصفقة التي يحاول الرئيس الأمريكي أوباما تمريرها، والتي بمقتضاها سيتم رفع العقوبات الدولية عن إيران. ويرتبط بذلك إعادة تقييم العلاقات السعودية- الإيرانية على ضوء التمدد الإيراني في المشرق وشبه الجزيرة العربية. ومن الواضح أن السياسة الأمريكية في اليمن لا ترى غضاضة من سيطرة الحوثيين على حساب سلطة الدولة. وأن قوات الأسطول الخامس الأمريكي في بحر العرب وقيادة القوات المركزية في قطر تعمل بوضوح في دعم الحوثيين، بما في ذلك تصفية عناصر القاعدة لمصلحتهم وليس لمصلحة الدولة اليمنية.
  • إعادة ترتيب الأوضاع في شبه الجزيرة العربية، سواء فيما يتعلق بالمصالحة القطرية- الخليجية التي بدأت ولكنها لم تكتمل بعد، أو فيما يتعلق بالوضع المتوتر في البحرين، وكذلك الوضع في اليمن حيث تبدو الجماعات الموالية لإيران في موقع السيطرة الفعلية، ربما لفترة طويلة مقبلة ما لم تتغير توازنات القوى.
  • كيفية إعادة ترتيب الأوضاع مرة أخرى في منطقة شرق البحر المتوسط، بما يحفظ أمن الحدود السعودية مع كل من العراق والأردن، والعودة مرة أخرى إلى تشديد الحصار على بشار الأسد في سوريا، وضمان قدرة الجيش اللبناني على مواجهة تحديات القوة المسلحة لحزب اللـه الموالي لإيران، ومساندة القوى السياسية اللبنانية في سعيها لانتخاب رئيس للجمهورية وإنهاء حالة الفراغ الدستوري القائمة حاليا.
  • تطوير العلاقات الإستراتيجية مع مصر وتوسيع نطاق التعاون الإقتصادي والسياسي والعسكري بين البلدين. ويوجد في السعودية تيار داخل الأسرة الحاكمة، خصوصا بين جيل أحفاد الملك عبد العزيز، وبين رجال الأعمال، يتشكك في جدوى استمرار المساعدات الاقتصادية لمصر بدون إحراز تقدم ملموس على صعيد الإصلاح الاقتصادي والسياسي. ويجدر بالذكر هنا أن فكرة المؤتمر الاقتصادي المزمع عقده في شرم الشيخ في شهر مارس المقبل، تبلورت أصلا في السعودية، ليكون المؤتمر بمثابة إطار بديل عن المساعدات الخليجية لمصر. كذلك يرتبط بالعلاقات مع مصر خيارات متعددة تتعلق بالأوضاع في ليبيا والعلاقات مع الولايات المتحدة.
  • القضية الفلسطينية، ومن المعروف أن المملكة العربية السعودية، والملك الراحل عبد اللـه بن عبد العزيز شخصيا، لعب الدور المحوري في صياغة المبادرة العربية للاعتراف الجماعي بإسرائيل في حال تنفيذها قرارات مجلس الأمن وانسحابها من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس. وهناك ما يشبه الإجماع في العالم كله على أن هذه المبادرة تمثل أساسا ملائما لإنهاء الصراع التاريخي في الشرق الأوسط. وتتعرض القضية الفلسطينية حاليا لمزايدات سياسية صارخة سواء على الصعيد الفلسطيني نتيجة للصراع بين حماس وبين السلطة الوطنية الفلسطينية، أو على الصعيد الإقليمي نتيجة للمنافسة على قيادة المنطقة من جانب كل من إيران وتركيا، أو على الصعيد الدولي حيث تحظى السياسات الصهيونية المتطرفة في فلسطين، خصوصا الاستيطانية منها بدعم القوى السياسية المحافظة في أوربا والولايات المتحدة. ونظرا لضعف مصر، فقد أصبحت السعودية تتحمل العبء الرئيسي في إعادة طرح القضية الفلسطينية على العالم.
  • الانطلاق من المصالحة الخليجية إلى المصالحة العربية. لقد نجح الراحل الملك عبد اللـه بن عبد العزيز في جمع دول مجلس التعاون الخليجي في القمة الطارئة في الرياض، ثم في قمة الكويت الخليجية، بعد أن كانت العلاقات بين دول المجلس قد وصلت إلى حالة التدهور تهدد بقاء المجلس نفسه، وارتفعت دعوات تطالب بطرد قطر من عضويته. واستخدم كل من أمير الكويت والعاهل السعودي الراحل كل المهارات الديبلوماسية الممكنة، إلى حد التهديد بسياسة “العصا والجزرة” لإعادة قطر إلى الصف الخليجي. أما وقد نجحت هذه المصالحة، فإن الوضع العربي يفرض قدرا عظيما من المجهود لإعادة التضامن العربي إلى ما كان عليه قبل 2011 على أقل تقدير. ونظرا لأن السعودية امتنعت عن مساندة سياسة المحاور في المشرق والمرب على السواء، فإن الملك سلمان ستقع عليه مسئولية إجراء مصالحة عربية من المغرب إلى العراق، لكي تتمكن سفينة السياسة الخارجية السعودية من الإبحار في بحور هادئة غير مضطربة.

إن الاستمرار في سياسات “الحداثة” و”الحرب على الإرهاب” وتأكيد “الاستقرار” والمضي قدما على طريق “التنمية” ستظل كما كانت هي أولويات السياسة السعودية. لكن الظروف المضطربة في العالم وفي المنطقة ستلقي بظلالها الكثيفة على حركة وسياسات الملك الجديد في السعودية. وعلى الرغم من أن الملك سلمان أعلن منذ توليه تمسكه بـ “النهج القويم الذي سارت عليه الدولة منذ تأسيسها”، فإنه ربما يحتاج إلى إعادة تقييم الأوضاع المحيطة بالمملكة على ضوء التحديات والتهديدات المتزايدة التي تواجهها في الوقت الحاضر والتي قد تستمر لسنوات مقبلة. لقد حاول الملك عبد اللـه رحمه اللـه أن يحافظ على حالة من التماسك والهدوء في علاقات المملكة بالخارج وسط ظروف شديدة الاضطراب، والآن يجيء الدور على الملك سلمان لكي يكمل المسيرة ويبحر بالسفينة بعيدا عن البحور الهائجة مع المحافظة على توازنها وضمان تقدمها إلى الأمام في الاتجاه الصحيح.

إبراهيم نوّار

المركز العربي للبحوث والدراسات