مكافحة الخطأ: فصل الحقيقة عن الخيال في الشرق الأوسط

مكافحة الخطأ: فصل الحقيقة عن الخيال في الشرق الأوسط

“في 21 تشرين الأول/ أكتوبر، خاطب مارتن كريمر وبيني موريس وحسين إبيش منتدى سياسي في معهد واشنطن. والدكتور كريمر، هو أستاذ في تاريخ الشرق الأوسط الحديث في كلية شاليم في إسرائيل، وقد نشر مؤخرًا مختارات بعنوان الحرب على الخطأ: إسرائيل والإسلام والشرق الأوسط. ودالدكتور موريس هو أستاذ إسرائيلي زائر متخصّص في الشؤون الحكومية في زمالة غولدمان في جامعة جورج تاون وأستاذ في التاريخ في جامعة بن غوريون. أما الدكتور إبيش فهو باحث ذو أقدمية في معهد دول الخليج العربية في واشنطن. وفي ما يلي تقرير ملخص عن ملاحظاتهم”.

مارتن كريمر

إن كتاب “الحرب على الخطأ” هو عبارة عن مجموعة من المقتطفات كما أنه نوع تحيط به أحكام مسبقة. فكتاب المقتطفات لا ينسج قصة واحدة. ولكن كل المقالات المدرجة في هذا الكتاب يجمعها هدف أساسي: دحض الأخطاء التي تهدد بأن تتحول إلى حكمة مفترضة. ويعرّف الكتاب الأخطاء على أنها هفوات غير مقصودة تترك فجوة بين الواقع وبين تمثيله. ولا تكون هذه الهفوات عشوائية أبدًا، ولكن يتم تحديد الشكل الذي تتخذه بشكل متحيّز.

الجدير بالذكر أن الخطأ الذي تمت معالجته بشكل مستفيض في الكتاب يتعلق بغزو إسرائيل لمدينة اللد في عام 1948 وتحديدًا رأي آري شافيت في كتابه “أرض ميعادي” الصادر في عام 2013 والذي حقّق رواجًا كبيرًا. فشافيت يفترض أن القوات الإسرائيلية التوّاقة إلى الانتقام ارتكبت مذبحة على نطاق واسع بحق المدنيين الفلسطينيين في خلال العملية. هذا ويشمل المشهد الأكثر مأساوية هجومًا إسرائيليًا قام في خلاله، وفقًا لشافيت، جندي يعاني من الصدمة بإطلاق صاروخ مضاد للدبابات على مسجد، ما أسفر عن مقتل سبعين مدنيًا. وأشار الكاتب إلى أنه استمد روايته من المحادثات مع قدامى المحاربين الإسرائيليين التي تم تسجيلها قبل عشرين عامًا.

بالنسبة إلى هذا القارئ، بدت العناصر التي تكوّن وجهة نظر شافيت أشبه بمسرحية ملفقة. فقد اتضح بعد تحقيقات إضافية أن الأشخاص نفسهم الذين قابلهم شافيت أعطوا وجهات نظر مختلفة جدًا عن الحدث نفسه في مقابلات أخرى أجريت معهم، ولم يسردوا قصة مجزرة بل معركة تدور بين طرفين.

يُذكر أن المقطع الأكثر إثارة للمشاعر في فصل شافيت هو ذاك الذي يدعي فيه أنه بعد وقف إطلاق النار، قام الإسرائيليون عمدًا بقتل مجموعة من العرب كانوا يقومون بدفن القتلى العرب ودفنوهم مع هؤلاء الآخرين من أجل التستر على “مجزرة” المسجد. في الواقع، تتناقض هذه الأحداث بشكل مباشر مع شهادة أحد سكان مدينة اللد العرب الذي ادعى أنه كان ضمن هذه المجموعة بنفسه ومع الشهادة الإضافية التي أدلى بها العرب الذين سمعوا عن تلك الأحداث من آخرين كانوا في تلك المجموعة وأسروا بعد ذلك على يد الإسرائيليين وأفرج عنهم في وقت لاحق. وبالتالي، تهاوى بسهولة أهم المقاطع المشحونة بالعواطف في أهم الفصول المشحونة بالعواطف من أحد الكتب الأكثر انتشارًا حول إسرائيل.

يثبت هذا المثال كيف تتم رواية القصص لتتناسب مع الغرض المحدد منها. كما يكشف الكثير عمّا يريد القراء من اليهود الأمريكيين الذين وضعوا الكتاب على لائحة الكتب الأكثر مبيعًا تصديقه وما هم على استعداد لتصديقه حول إسرائيل. فقصص الذنب الإسرائيلي تلقى صداها الآن في صفوف هذا الجمهور، وهو أمر له تداعيات كبيرة في الوقت الحاضر.

تبيّن الفصول الأخرى من كتاب “الحرب على الخطأ” كيف تؤثر أخطاء مماثلة في مجموعة واسعة من الصحفيين والعلماء والكتاب والمخرجين وصناع القرار. في هذه الحالة الأخيرة، يمكن أن تترتب عواقب عملية عن مثل هذه الأخطاء.

على سبيل المثال، عندما كان تشاك هيغل عضوًا في مجلس الشيوخ أيّد بشدة فكرة “الروابط” وهي نظرية دومينو شرق أوسطية تفترض أن مصير المنطقة يتوقف على الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وردًا على سؤال حول حدود هذه النظرية، قال إنه كرر ما قاله له القادة العرب. في هذه الحالة، أظهرت المراسلات الدبلوماسية المسربة عبر ويكيليكس أدلة مخالفة إذ شملت تقارير عن الكثير من اجتماعات هيغل مع هؤلاء القادة بحد ذاتهم ونادرًا ما تم التطرق في خلالها إلى موضوع الإسرائيليين والفلسطينيين. بدلًا من ذلك، تبين المراسلات أن القادة العرب شددوا على المخاطر التي تشكّلها إيران والعراق والتشدد الشيعي. في ذلك الوقت، كان هيغل رمزًا لمجموعة من المسؤولين نسجوا رواية لمشاكل المنطقة محورها إسرائيل وتجاهلوا انقسامات كثيرة مزقت الشرق الأوسط إربًا إربًا. وبالتالي شتّتت “الروابط” في نهاية المطاف صناع القرار عن الصراعات الأخرى التي أعادت رسم المنطقة.

هذا ويحذر الكتاب أيضًا من استخدام أوجه الشبه كأداة لرواية القصص. فأوجه الشبه تضفي الطابع المألوف على ما هو غير مألوف (على العكس المقارنة التي تقيس أمرين مألوفين مقارنة ببعضهما بعضًا). في هذا السياق، يشكل مصطلح “الأصولية الإسلامية” مثالًا مناسبًا بما أن فيه شبه بالاتجاهات السائدة في المسيحية الأمريكية التي تختلف في الواقع كثيرًا عن الإسلام. إن هذا التشبيه يجعل الكثير من الناس مستعدين للتقليل من قوة الإسلام السياسي. وتعالج فصول أخرى من الكتاب مصطلحي “الفاشية الإسلامية” (وهو يطرح مشكلة كتشبيه على الرغم من أنه مفيد من أجل المقارنة) و”الربيع العربي” (تشبيه عملي بأوروبا أدى إلى إخفاء عمق الأزمة العربية).

في يومنا هذا، تشارك كل وكالة حكومية وجامعة ومؤسسة بحثية في الحرب على الخطأ. فالتحيزات والأخطاء منتشرة على مستوى الوطن ولا يملك أحد مناعة تجاهها. نأمل أن يشكل هذا الكتاب مصدر إلهام للجيل القادم ليكون أكثر دقة والتزامًا بالموضوعية.

بيني موريس

تعيد كلمة “خطأ” إلى الأذهان الحديث الذي جرى بين أحد المحاورين وأحمد الطيبي وهو عضو عربي إسرائيلي في الكنيست بشأن جبل الهيكل. ففي خلال المحادثة، أصر الطيبي على استخدام الاسم الإسلامي للموقع، أي “الحرم الشريف”. وعندما تابع المحاور بسؤاله عما إذا كان يعتقد أنه في ما مضى كان هناك معبد في الموقع، أجاب بأن هناك روايات يهودية وأخرى عربية وأنه كعربي يصدّق الرواية العربية. فالرواية العربية، التي تنفي وجود أي معابد يهودية في القدس، وضعها رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات في عام 2000، ولكن ثمة أدلة أثرية وتاريخية كافية لإثبات العكس. إن موقف الطيبي هذا الصادر عن طبيب تلقى تدريبًا في التقييم التجريبي يدل على الميل المتزايد إلى استبدال الحقائق “بالروايات”.

إلى جانب ذلك، يشير هذا الحادث إلى الفرق بين التأريخ الإسرائيلي والعربي. فبعد عام 1948 مباشرة، سيطر طابع صهيوني واضح على التأريخ الإسرائيلي وعرض الأحداث في إطار بطولي في حين أخفى الأحداث المشابهة لمذبحة مدينة اللد. فضل هذا الجيل من “المؤرخين القدامى” تجاهل الأحداث بدلًا من الكذب حيالها. لكن في وقت لاحق حاول المؤرخون الإسرائيليون مواجهة تاريخ البلاد بمصداقية أكبر.

في المقابل، في حين يتوفّر عدد كبير من التقارير والتعليقات الصحافية من العرب الفلسطينيين، يغيب إلى حد كبير التأريخ الحقيقي للنزاع وتُشوَّه الحقائق المؤرّخة تمامًا في كثير من الأحيان. على سبيل المثال، ادّعى أحد أساتذة جامعة بيرزيت أنه تم تنظيم مذابح عام 1948 عمدًا على الأصعدة كافة لدفع الفلسطينيين إلى الفرار. لكن لا وجود لصلة مماثلة: ففي حين حصلت المجازر، ومن ضمنها مجزة اللد، لم يكن هناك سياسة مجازر وقد قامت السلطات الإسرائيلية بالتحقيقات وإدانت حتى هذه الحوادث. يميل التأريخ العربي من جهته إلى فهم الأحداث كجزء من مؤامرة لا مجال فيها للعشوائية أو للصدفة.

حسين إبيش

يرتكز كتاب “الحرب على الخطأ” على الأداء أكثر من الفرضية أو الوصف إذ يختار كل كاتب مواضيع يهتم بها. وتشير كافة الأخطاء والأغلاط المستهدفة في هذا الكتاب، مع إثبات طبيعتها الخاطئة، إلى أجندة سياسية داعمة للرواية الإسرائيلية. من هذا المنطلق، ومن خلال عدم الميول نحو الإدانة، يتحول الكتاب في الواقع إلى جدال. وهو فعليًا عبارة عن جدال حول الجدالات.

ويمكن تطبيق منهجية هذا الكتاب على مواضيع أخرى والوصول إلى نتيجة مختلفة. فلننظر إلى الفصل الذي يعالج التشبيهات الخاطئة بين السلوك الإسرائيلي والنازية. إن تاريخ التشبيه الذي يربط بين الفلسطينيين والنازيين فاضح بالدرجة عينها ولكن لم تتم تغطية هذه الحالات. وكان توسيع إطار المرجعيات ليؤدي إلى دراسة أوسع نطاقًا لكيفية نشر الخطأ.

إن اللغة المشحونة، بما في ذلك استخدام مصطلح “فرار” في إشارة إلى مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، تسقط جانبًا ثانيًا من القصة وتعزز الرواية الإسرائيلية. فمناقشة “الحركة السعيدية” في الخاتمة تميل إلى المبالغة في انتقاد دراسات الشرق الأوسط. ففي حين أن المتعصبين موجودون في هذا المجال، تقلّ الأوساط الأكاديمية التي تقبل بالخطأ ولا تجيز النقد.

تكمن مهمة من المهام الواجبة على جميع المؤلفين في التساؤل حول دوافعهم الخاصة ووضعها بصدق في كتاباتهم. إن كتابة المواضيع الجدلية قد تكون عاملًا منتجًا ولكن لا بد من أن يكون النقد الذاتي واضحًا في خلالها. فتساؤل الكاتب حول معتقداته يسمح له بانتقاد المواقف الأخرى بطريقة أكثر فعالية. يكمن المعيار المفيد في الصدق والنقد الذاتي في عدم الثقة بأي فكرة تعيد تأكيد تعريفات المرء الذاتية أو انتماءاته. ينبغي أن تكون المعلومات التي تغذي غضب الشخص أو تعزز معتقداته بمثابة إنذار: قد لا تكون كاذبة ولكنها تستحق تدقيق معمّق.

على الرغم من أن كتاب الحرب على خطأ هو سلسلة من المقالات، إلا أنه يسرد رواية متماسكة عبر فصوله. فللقصة بطل هو برنارد لويس وشرير هو إدوارد سعيد. وتصوّر هاتان الشخصيتان بطريقة كاريكاتورية. فقد كتب لويس الكثير من الأعمال الأكاديمية الهامة ولكنه كان بطرق عديدة بمثابة كاتب مناشير يلعب دورًا فعالًا سياسيًا. وبينما كان سعيد ناقدًا أفضل من كونه سياسيًا، كان من الممكن تصويره بدقة أكبر تتخطى انتقاد سعيد لحماس الذي وافق عليه المؤلّف. لم يكن تأثير كتاب الاستشراق على الدراسات الشرق أوسطية سيئًا بالضرورة. فقيمته لا تكمن في أي ادعاء معين ولكن في الابتكار المنهجي للجمع بين فلسفة ميشال فوكو وحساسية إنسانية حرجة. على الرغم من أن هذا الابتكار باء بالفشل، إلا أن التجربة كانت رائعة وأظهرت للعلماء الأمريكيين كيف يمكن للنظرية النقدية الفرنسية أن تشكل بديلًا مفيدًا للفلسفة الماركسية.

إجابة كريمر

إن بعض الانتقادات التي طرحها إبيش صحيحة. مع ذلك، لا بد من التأكيد على عدم وجود دوافع مخبأة في كتاب الحرب على الخطأ: أنا رئيس كلية الفنون الحرة في القدس وقد اخترت العيش في إسرائيل والتزاماتي تدفع بفضولي نحو مواضيع معينة. وأنا لا أزعم أنني أتعالى عن الجدال. فكتابي الصادر في عام 2001 بعنوان أبراج عاجية على الرمال مستوحى باعتراف الجميع من النهج الجدلي لحركة الاستشراق الخاصة بسعيد ولكن الجدل لا يحدد إطار كتاب الحرب على خطأ. فقيمته تكمن في الدليل الذي يطرحه. كما أن التركيز لا ينصب على حالات التفسيرات المختلفة ولكن على الحالات التي يكون فيها الاختلاف بين التمثيل والواقع الفعلي كبيرًا.

أما بالنسبة إلى التشابيه النازية، فالفصل المشار إليه يخلص في الواقع إلى الإيحاء بتجنب التشابيه النازية تمامًا. لتوضيح ذلك، يرد في الكتاب اقتباسًا من إيلي ويزل الذي أصر على عدم مقارنة أي حادث بمحرقة اليهود واعتبر أن المقارنة بين إيران وألمانيا النازية “غير مقبولة”. أما بالنسبة لفرار الفلسطينيين، فقد اعتبر بيني موريس أن هناك مزيج من عمليات الفرار والطرد، ويشار إلى الحالتين في الفصل المتعلق بمدينة اللد. هذا ويتضمن الكتاب أيضًا بعض الاستنتاجات التي تختلف عما يتوقع أن يقدمه شخص موالٍ لإسرائيل ومتحيز لها. هذا هو الحال في الفصل المتعلق بمارتن لوثر كينغ وحرب عام 1967 الذي يوثق تناقض كينغ بين نتائج الحرب وبين أسفه لأن توقيعه وجد طريقه إلى رسالة مشهورة مؤيدة لإسرائيل من خلال علماء دين بارزين.

إجابة موريس

إنها لحقيقة أن الزعيم الفلسطيني الحاج أمين الحسيني أمضى سنوات الحرب في برلين كحليف لألمانيا النازية. وهذا يرتبط حتمًا القضية الفلسطينية بالمجهود الحربي النازي. هذا الأمر هو حقيقة تاريخية على الرغم من ذكرها في بعض الأحيان بلا مبالاة في الجدالات حول الموضوع.

جيمس بوكر

معهد واشنطن