ضغوطات متبادلة: أبعاد التشابك بين أهداف المتنازعين في معركتي الموصل وحلب

ضغوطات متبادلة: أبعاد التشابك بين أهداف المتنازعين في معركتي الموصل وحلب

34

تتزامن معركة تحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في العراق مع معركة حلب في سوريا، وهما معركتان مهمتان لمختلف القوي (الإقليمية والدولية)، سواء المشاركة فيهما أو المعنية بهما، ما يضفي تعقيدًا كبيرًا على مجرياتهما. ذلك أن تعدد أوراق الضغط التي من الممكن للمعنيين بها استخدامها، يجعل من تأثير تطورات ونتائج معركة الموصل تنعكس بشكلٍ كبير على نظيرتها في حلب وبالعكس؛ لوجود أغلب أطراف المعركة الأولى كعناصر مؤثرة في ساحة الثانية، وإن تباينت بعض الأهداف واختلفت بعض وسائل التأثير بينهما.

 أهمية الموصل وحلب:

تُعد مدينة الموصل ثاني أكبر مدن العراق من حيث السكان، وأول مدنه التي استولى عليها تنظيم داعش في 10 يونيو 2014، وأعلن منها “خلافته” المزعومة، وانطلق منها صوب باقي المدن والمحافظات العراقية، كما تُعد هذه المدينة آخر المعاقل التي بتحريرها يتم إسقاط داعش عمليًّا في العراق.

وللموصل أهمية كبيرة بالنسبة لمختلف الأطراف، كونها تتميز سكانيًّا بتنوع عرقي وديني، وجغرافيًّا بجوارها لإقليم كردستان العراق وقربها من الحدود التركية ومحاذاتها للحدود السورية، ما يجعلها محط أنظار اهتمام كافة القوى الدولية والإقليمية. وتعد تلك المدينة مهمة لتنظيم داعش لكونها آخر معاقله في العراق، وكونها إحدى منطقتي نفوذ التنظيم (الموصل والرقة) في العراق وسوريا، وبذلك تكون السيطرة على هذه المدينة مسألة مصيرية لمختلف القوي.

أما مدينة حلب فهي العاصمة الاقتصادية لسوريا، وتمثل أقدم وأهم المدن السورية من حيث السكان، وفيها تنوع سكاني عرقي وديني. وقد تحولت حلب منذ عام 2012 إلى ساحة صراع بين قوى المعارضة السورية المختلفة من جهة وقوات نظام الأسد وحلفائه من جهة أخرى، فكانت الأحياء الشرقية تحت سيطرة قوى المعارضة، والأحياء الغربية تحت سيطرة قوات الأسد والفصائل المتحالفة معها.

ويُعتبر الصراع على حلب مصيريًّا لكافة الأطراف، فقوى المعارضة ترى في حلب مركز ثقل لا يمكن التخلي عنه، ومحل اختبار لقدرتها على الاستمرار، ونجاحًا للثورة السورية، وتغييرًا لنظام الأسد، إن هي حققت الانتصار في معركتها. أما نظام الأسد فإن معركة حلب مفصلية لديه لأنها تحدد مدى قدرته على البقاء من عدمه. وبذلك فإن هذه المعركة باهظة التكاليف، وتشكل رهانًا لكافة الأطراف على الانتصار بها. ولهذا شهدت ساحة الصراع بين القوى المحلية دعمًا وتدخلا من القوى الإقليمية والدولية لتعضيد وتعزيز موقف حليف كل جانب في الداخل السوري.

 أهداف القوى المتنازعة:

على الرغم من تعدد وكثرة القوي المحلية والإقليمية والدولية في معركتي الموصل وحلب، إلا أنها تكاد تكون ذاتها في المعركتين، وإن اختلفت التسميات وتباينت الأهداف أو تنوعت. فأطراف معركة الموصل تتوزع داخليًّا بين القوات الأمنية العراقية وقوات البيشمركة الكردية وقوات الحشد الشعبي، وإن كان هناك جدل في مسألة مشاركة هذا الطرف أو ذاك في معركة تحرير الموصل. وإقليميًّا هناك قوات تركية تتمركز في منطقة بعشيقة للمشاركة في المعركة، ودعم إيراني أيضًا للقوات العراقية.

أما دوليًّا فهناك قوات التحالف الدولي التي تتوزع بين القوات الأمريكية ذات العدد الأكبر والمهمات الأكثر أهمية؛ حيث يقدم الطيران الأمريكي الغطاء الجوي للمعركة، والقوات الفرنسية والبريطانية. وهذه الأطراف كلها في جهة وتنظيم داعش في جهة أخرى.

وتتفق مختلف الأطراف في معركة الموصل على هدف مشترك وهو تحرير مدينة الموصل، وإنهاء سيطرة تنظيم داعش عليها، ولكن تتناقض هذه الأطراف في الأهداف الأخرى للمعركة. حيث تسعى الحكومة العراقية إلى إعادة السيطرة على جميع المناطق التي استولى عليها تنظيم داعش سابقًا وآخرها الموصل، وإعادة أوضاعها إلى ما كانت عليه قبل 10 يونيو 2014، وعدم ترك المجال لأي جهة بأن تسيطر على أي من مناطق وبلدات محافظة نينوى. ويأتي أهم أهداف حكومة كردستان في العمل على فرض السيطرة على المناطق المتنازع عليها بين العرب والأكراد في محافظة نينوى، وتقوية النفوذ الكردي في إدارة الموصل في مرحلة ما بعد داعش.

وبالنسبة للأطراف الإقليمية فإن إيران تهدف لإيجاد مناطق نفوذ لها في شمال العراق لكسب المزيد من أوراق التأثير السياسية في الساحة العراقية من جهة، والتأثير على الأطراف الكردية وعدم السماح بإقامة دولة كردية في العراق من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة تسعى إيران لتأمين طريقها إلى سوريا عبر مدينة الموصل.

بينما تهدف تركيا من مشاركتها في معركة الموصل إلى إيجاد موطئ قدم لها في شمال العراق، وتدعيم حلفائها من أحزاب سياسية عربية وكردية، ورفع شعار حماية التركمان في الموصل، ومحاربة حزب العمال الكردستاني الذي أصبح له تواجد واضح في شمال العراق، فضلا عن محاربة تنظيم داعش.

وفيما يخص الأهداف الدولية، تتضح الأهداف الأمريكية من وراء معركة الموصل من كونها تحتل محطة حاسمة في السياسة الأمريكية الرامية إلى القضاء على داعش في العراق، قبل انتهاء فترة حكم الرئيس “باراك أوباما”.

أما معركة حلب، فالأطراف الأخرى المشاركة فيها مختلفة ومتعددة كذلك، فهناك قوى المعارضة السورية ومنها فصائل جيش الفتح وجيش المجاهدين وحركة أحرار الشام والعديد من الفصائل السورية المعارضة الأخرى، والعديد من هذه الفصائل مدعوم من قوى إقليمية (تركيا) ودولية (الولايات المتحدة الأمريكية). وفي المقابل، توجد قوات نظام الأسد وحلفاؤها من حزب الله اللبناني وحركة النجباء وعناصر من الحرس الثوري الإيراني مدعوين في هذه المعركة بغطاء جوي روسي، وهناك تواجد تركي يتمثل في قوات “درع الفرات” لمساندة المعارضة السورية في معركها ضد قوات الأسد.

وتهدف قوى المعارضة السورية وداعموها إلى فك الحصار عن أحياء حلب المحاصرة، ومواجهة قوات نظام الأسد، وصولا إلى القضاء عليها وإسقاط النظام. وفي مقابلها، يسعى نظام الأسد والقوات المتحالفة معه إلى القضاء على قوى المعارضة السورية، وإعادة السيطرة على مختلف مناطق سوريا.

أما بالنسبة للأطراف الإقليمية، فإن تركيا تهدف إلى دعم حلفائها من قوى المعارضة السورية، وإثبات الوجود من خلال تواجدها واستخدامها السلاح والمشاركة في مواجهة داعش لإضفاء الشرعية على مشاركتها، وإيجاد موطئ قدم لها في سوريا، ومواجهة الحركات الكردية مثل حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردي، وموازنة النفوذ الإيراني في الساحة السورية.

وفي المقابل تهدف إيران من الانخراط في معركة حلب السورية إلى دعم نظام الأسد والقوى التي تحارب إلى جانبه، وإيجاد مراكز نفوذ لها في سوريا تمكنها من إيجاد موطئ قدم لها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، ومحاربة قوى المعارضة السورية بمختلف تسمياتها.

وعلى المستوى الدولي، تبرز الأهداف الروسية المتمثلة في تحقيق تواجد مباشر على الأراضي السورية وعلى سواحل البحر الأبيض المتوسط التي لا تملك روسيا غيرها في المنطقة، وفي دعم قوات الأسد ضد المعارضة السورية، ومحاربة تنظيم داعش وباقي الفصائل السورية الأخرى.

تأثيرات متبادلة:

نظرًا لتعدد القوي المشاركة والمعنية بمعركتي الموصل وحلب، وتقاطع وتباين الأهداف والمصالح، فلن يكون الأمر بمنأى عن انعكاس تطورات الأحداث بينهما، ومن يحقق انتصارًا في إحدى المعركتين سيسعى إلى تحقيق الانتصار له أو لحلفائه في المعركة الأخرى.

ولعل أبرز تأثير يتضح للعيان سيكون بخروج عناصر داعش من الموصل بعد تحريرها إلى الأراضي السورية، وهذا الأمر له انعكاسات ذات حدين: الأول، من الممكن أن يؤدي تركز عناصر داعش في سوريا إلى احتدام الصراع بينهم وبين قوات الأسد وحلفائه والقوات الروسية الداعمة لها؛ ما يعني فتح جبهات جديدة ضدهم لصالح قوى المعارضة السورية، وورقة ضغط يمكن الاستفادة منها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.

أما الثاني فيتعلق بأن داعش كان أكثر ضررًا على قوى المعارضة السورية من قوات الأسد، وغالبًا ما تدخل في مواجهات مع الأولى ينتج عنها استيلاؤه على المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، وبعد مدة تنسحب منها عناصر داعش أمام تقدم قوات الأسد.

ويتبين تأثير آخر من خلال العامل الأمريكي الذي يشكل الطرف الأساسي والمحرك لمعركة الموصل من جهة، ومؤثرًا فاعلا في معركة حلب من جهة أخرى. إذ تسعى السياسة الأمريكية للموازنة بين حلفائها في العراق وسوريا. فمرة تدعم التدخل التركي في سوريا، وأخرى تدعم المطالب العراقية بعدم مشاركة تركيا في معركة تحرير الموصل، ومرة ثالثة بمحاولة جمع الأطراف المتضادة والتنسيق بينهم لإنجاح تحرير الموصل بالشكل الذي يناسب المصالح الأمريكية، وكل ذلك من شأنه التأثير على مجريات الأمور في كل من العراق وسوريا.

كما أثار انطلاق معركة الموصل ردود فعل روسيا التي أصبحت طرفًا مباشرًا في الأزمة السورية بعد تدخلها العسكري، فأطلقت تحذيراتها من أن هذه المعركة قد تؤثر على ميزان القوى في سوريا، فكانت تزيد من غاراتها الجوية على حلب بحجة انتقال عناصر داعش من الموصل إلى أطراف حلب، يُضاف إلى ذلك التأثير الروسي على الطرفين الإيراني والتركي من خلال تحالفها مع إيران الداعمة لنظام الأسد وإعادة علاقتها مع تركيا مؤخرًا.

وينعكس نجاح تركيا في عملية “درع الفرات” في الساحة السورية بإصرارها على المشاركة في عملية تحرير الموصل، وعدم ترك المجال لحزب العمال الكردستاني للمشاركة أو البقاء في العراق. أما إيران فحصولها على موطئ قدم لها في شمال العراق وسرعة انتهاء معركة الموصل يقوي دورها في سوريا، لكن إطالة المعارك في الموصل وحلب يزيد من كلفة الأعباء عليها لانخراطها الكبير في الساحتين العراقية والسورية.

 من كل ذلك يتضح مدى التفاعلات والتأثيرات المتبادلة بين معركتي الموصل وحلب، وتشابك الأهداف والمصالح بينهما، وتقارب المعطيات وتداخل الساحات المحلية والإقليمية والدولية وتضارب المشاريع.

وخلاصة القول، فإن تعقد الأوضاع لن يجعل من السهل أن يحصد طرف ما جائزة النصر ويفرض رأيه على الأطراف الأخرى، وأن نتائج الأحداث المتسارعة في الساحتين السورية والعراقية هي التي ستحدد معالم المنطقة في المستقبل القريب، كما أن من يحسم إحدى المعركتين لصالحه ليس بالضرورة أن تصب الأمور في المعركة الثانية لصالحه.

د. مثنى العبيدي

مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة