باقري في أنقرة: درس من دروس الواقعية السياسية

باقري في أنقرة: درس من دروس الواقعية السياسية

معمر فيصل خولي*

من فوق تباين وصل في بعض محطاته مرحلة الصدام غير المباشر، تمد أنقرةوطهران أيديهما لتلتقيا من أجل مواجهة تحديات مشتركة فرضتها التطورات العاصفة في المنطقة.الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يلتقي في أنقرة رئيس الأركان الإيراني اللواء محمد باقري الذي يزور تركيا في أول زيارة لمسؤول إيراني على هذا المستوى منذ العام 1971. فقد شكّلت الزيارة علامة فارقة في العلاقات بين البلدين. حيث أظهرت قدراً كبيراً من التنسيق الأمني والعسكري إزاء القضيتين الكردية والسورية، بعد سنوات من الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، وشن الحرب بالوكالة ومباشرة في ساحات سورية والعراق. وما زاد من مغزى الزيارة تزامنها مع فترة أرخت فيها المستجدات الإقليمية بظلالها على القضايا الأمنية والعسكرية، ويلعب فيها الجيش الإيراني دورًا فعالًا.

تشكل الحروب الداخلية المستمرة في المنطقة، والدول التي ضعفت أو انهارت، والتنظيمات التي زادت قوتها وأدوارها، والإرهاب، والهجرة، والشبكات الإجرامية وأمن الحدود، الطابع الرئيسي للمشاكل الأمنية في المرحلة الجديدة. وتمثل زيادة أنشطة تنظيم داعش وحزب العمال الكردستاني على الأخص، إضافة إلى تصاعد الأنشطة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية والغربية والروسية، اهتمامًا مشتركًا بالنسبة للبلدين. وهناك حقيقة لا غبار عليها، وهي أن هذا المشهد المعقد غيّر جذريًّا القواعد وعلاقات التحالف التقليدية ووسائل التدخل. فما دلالاتها؟

شهدت العلاقات التركية الإيرانية مدًّا وجزرًا منذ الثورة الإيرانية عام 1979. تواصلت العلاقات على الصعد السياسية والدبلوماسية والاقتصادية. بيد أن انخفاض مستوى التعاون العسكري شكل الحلقة الأضعف في علاقات البلدين. ويعود ضعف العلاقات العسكرية إلى مفهوم وأولويات والأمن وخياراته الإيديولوجية لدى الجانبين.ولضعف العلاقات العسكرية أسباب أخرى منها وجود تركيا ضمن نظام الدفاع الغربي بصفتها عضو في الناتو، وموقف الجيش التركي المرتاب من النظام الإيراني، والجو السلبي الناجمة عن العلاقات الأمريكية الإيرانية، إضافة إلى علاقات إيران مع حزب العمال الكردستاني. واصلت إيران، في إطار سعيها للتخلص من عزلتها واكتساب الشرعية، جهودها من أجل توسيع وتعزيز علاقاتها العسكرية مع تركيا. وفضلًا عن طلبها المعدات العسكرية من حين لآخر عملت على إجراء زيارات على مستوى رفيع وإقامة علاقات وثيقة. وعلى الرغم من أن عسكريي البلدين يجتمعون باستمرار من أجل بحث قضايا أمن الحدود إلا أن العلاقات بقيت رمزية.

يبدو أن كل هذه التطورات بلورت لدى صناع القرار في تركيا وإيران فكرة حدوث تغير خطير في المنطقة. ومن الواضح أن الرد المناسب على ذلك سيكون عبر تعاون ووسائل ذات طبيعة مختلفة. فهناك قائمة طويلة من القضايا ذات الاهتمام المشترك  فالمحادثات أظهرت توافقاً إزاء ثلاث قضايا أساسية هي:

1- رفض الجانبين الاستفتاء المقرر في إقليم كردستان العراق، بل تجاوز الرفض إلى حد التهديد بعمل مشترك، على اعتبار ان هذا الاستفتاء يهدد استقرار المنطقة، وهو ما يعني وجود خوف حقيقي لدى الجانبين من ان تنعكس نتائج الاستفتاء على القضية الكردية في تركيا وإيران على اعتبار ان اكراد البلدين قد يطالبون لاحقاً بمثل هذا الاستفتاء.

2- الاتفاق على التنسيق والتعاون العسكري والأمني ضد «حزب العمال الكردستاني» بشقيه التركي والإيراني (حزب «بيجاك» الذي يشكل الفرع الإيراني لحزب العمال). ويأتي هذا الاتفاق بعد سنوات من اتهامات تركية لإيران بدعم «حزب العمال الكردستاني» وحليفه السوري «حزب الاتحاد الديموقراطي» وجناحه العسكري «وحدات حماية الشعب».

3- تكثيف التعاون في شأن مناطق خفض التوتر في سورية وتحديداً في الشمال حيث محافظة ادلب التي تحولت إلى وجهة للمجموعات المسلحة على رغم سيطرة «جبهة النصرة» مؤخراً على كامل المحافظة تقريباً، ويأتي هذا التعاون بعد سنوات من الاحتراب المتبادل في الميدان وسط اتهامات متبادلة بممارسة سياسة طائفية، وصلت إلى انتقادات متبادلة على الهواء مباشرة.

هذا التوافق لا يعني أن الدوافع التي تغذي التوتر المتعدد الأشكال في العلاقات التركية الإيرانية قد انتهت، لكن يمكن القول أن التطورات الإقليمية، وحالة السيولة السياسية في المنطقة وتوتر علاقات تركيا مع حلفائها التقليديين، وممارسة إدارة ترمب سياسة “العقوبات والضغوط” ضد إيران، دفعتا الدولتين بمراجعة طبيعة علاقاتهما الثناية من خلال استخدام آليات ومقاربات جديدة في العلاقات التركية الإيرانية، وقد يكون التعاون العسكري والأمني مقاربات جديدة في تعاونها الإقليمي بما يخدم مصالحهما المشتركة. فالواقعية السياسية تؤكد لنا باستمرار أن العلاقات الدولية لا تسير على خط مستقيم.

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية