الليبرالية الدينية كمخرج من أزمة الكراهية والصراعات

الليبرالية الدينية كمخرج من أزمة الكراهية والصراعات

أظهر الاشتباك مع التطرف الديني أن المواجهة هي عمليات اجتماعية واقتصادية معقدة، ففي المواجهة مع العنف والكراهية تبين أنها مواجهة مع الحالة الاجتماعية والثقافية الناشئة عن التوظيف السياسي للدين، وفي ذلك اتسعت المواجهة لتشمل المنظومة السائدة في الخطاب الديني والممتدة في المدارس والمساجد والجامعات والمؤسسات والأسواق كما الجمعيات والمجتمعات، لنجد أنفسنا في مواجهة شبكة معقدة من المصالح والطبقات والمؤسسات التي يهددها زوال العنف والتطرف. هكذا صارت المواجهة تفكيكاً لحالة اقتصادية واجتماعية راسخة ونافذة.

والحال أن وضعية الإغراق الديني التي انتجتها السياسات الدينية المحافظة أنشأت حضوراً واسعاً وعميقاً للمفاهيم والأفكار والتطبيقات الدينية في الحياة والتشريعات والمؤسسات والأسواق، لكن ضعف هذه الحالة في قوتها وهيمنتها، فالمفاهيم والحالات تتسع حتى تتطابق مع الاختفاء. وتسود وتنتصر لدرجة التطابق مع الانحسار. ذلك أنه عندما يتسع مفهوم يصير حاضراً في الفهم والتطبيق والتشريع والحياة لا يعود مميزاً أو واضحاً بسبب حضوره الطاغي والشامل فيتحول إلى غير مرئي.

وفي مثال نظري آخر، إذا اتسعت مفاهيم الحقوق والواجبات فإنها تتحول إلى بديهية تمارس من دون أن يتذكرها أحد. وفي ذلك تنحسر المؤسسات الأمنية والقضائية إلى درجة أنه لا يعود لها حاجة أو تنحسر إلى حالات قليلة لا يشعر بها أغلب الناس، وعلى مستوى سياسي وتطبيقي فإن الوطنية والديموقراطية والإسلامية والمدنية في تحولها إلى حالات شاملة لا يعود ثمة حاجة أن تختص بها مؤسسة أو جماعة أو فئة من المواطنين. وفي الحالة التي ترى مجموعة من الناس حاجة أو ضرورة لتختص أو تقدم نفسها بالوطنية أو الإسلامية أو الديموقراطية، فإنها يحب أن تدرك أنها سوف تختفي بالضرورة أو لا يعود حاجة لها في اللحظة التي تتحقق فيها أهدافها. هكذا فإن الليبرالية الدينية بما هي فردانية التدين أو تحويله إلى شأن فردي لا علاقة به للسلطة والمجتمعات تصبح مآلا حتمياً أو بديهياً، ففي المعرفة الدينية المتسعة والحالة التلقائية لفهم الدين وممارسته لا يعود ثمة حاجة لمؤسسات دينية ولا دور ديني للدولة.

لقد انتصرت الحالة الدينية إلى درجة أنه لم يعد ثمة حاجة لمؤسسات دينية أو رجال دين أو جماعات دينية لأن الأفراد يمتلكون من المعرفة والكفاءة ما يغنيهم عن ذلك كله. هكذا فإن المؤسسات والجماعات الدينية تحقق حضوراً وانتصاراً لدرجة أنه لم يعد حاجة إليها. لكن ذلك يشكل تهديداً لمؤسسة قوية وراسخة مثل المؤسسة الدينية؛ ما يجعل المواجهة أكثر صعوبة وتعقيداً، إذ تستطيع المؤسسات والجماعات الدينية أن تنشئ لنفسها ضرورة وأهمية جديدة مستمدة من مواجهة التطرف، لكن لأجل أن يكون لدينا مواجهة للتطرف يجب أن يكون هناك تطرف!

ويحدث بدلاً من أن تقود الليبرالية الدينية الحالة المتشكلة، أن تنشأ انتكاسة كبيرة وحالة خطيرة من الفساد والتهديد للمجتمعات والأفراد، ففي إدراكها أن الحاجة إليها مستمدة من المبررات التي أوجدتها فإن النخب والمؤسسات القائمة على هذه المبررات سوف تعمل على إدامتها، وتكون الكارثة عندما تكون هذه المبررات هي التطرف أو الإرهاب أو الجريمة أو الخوف أو الفقر أو الجهل أو الهشاشة أو المرض. فتصير الجماعات والمؤسسات تقف وتعمل ضد الأفراد والمجتمعات. وتكون مصالحها في ضعف المجتمعات وهشاشتها وخوفها واعتماديتها بدلاً من تمكينها واستقلالها.

يتوقف الإرهاب في اللحظة التي لا يعود فيها مصلحة أوليغاركية. ولا يعود الإرهاب مصلحة أوليغاركية في اللحظة التي تتوقف فيها السلطات السياسية عن ممارسة دور ديني. وفي ذلك فإن الليبرالية الدينية هي الخطاب المرشح للنجاح في مواجهة الكراهية والتطرف والديني.

إبراهيم غرايبة

صحيفة الحياة اللندنية