الضربة الإسرائيلية على المفاعل النووي السوري عام 2007: الدروس المكتسبة للتعامل مع إيران

الضربة الإسرائيلية على المفاعل النووي السوري عام 2007: الدروس المكتسبة للتعامل مع إيران

ينطوي تدمير المفاعل النووي السوري في عام 2007 على عدة دروس، طغى عليها الجدل المحتدم بشأن من يحصل على الثناء. وحيث كنتُ أشغل منصب رئيس ديوان مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الحين، اتّبعْتُ عملية صنع القرار عن كثب. ومن هنا، أود أن أسلط الضوء على ثلاثة أبعاد رئيسية.

الاستخبارات

كانت حقيقة الأمر هي أن دولة مجاورة معادية لإسرائيل كانت تقوم ببناء مفاعل نووي لأغراض عسكرية لمدة خمس سنوات تقريباً قبل أن تكتشف إسرائيل أمره، أي بعد أن بات على وشك أن يصبح قيد الإنتاج. ومن وجهة نظر قائمة على النتائج، نجحت الاستخبارات الإسرائيلية في اكتشاف المفاعل في الوقت المناسب، لكن فيما يتعلق بعملية الاكتشاف، يحتاج الموضوع إلى محاسبة النفس. وفي نظري، خلال السنوات التي سبقت اكتشاف المفاعل، شاركَتْ الاستخبارات الإسرائيلية في المفهوم الخاطئ بأنه من غير المعقول أن يحاول الرئيس السوري بشار الأسد تطوير قدرات عسكرية نووية. ونتيجة لذلك، لم تكن جهود جمع المعلومات [الإستخبارية] المناسبة موجهة نحو هذا الموضوع وتم تفسير المعلومات ذات الصلة بشكل خاطئ.

لقد كان هذا المفهوم صحيحاً في عهد حافظ الأسد، والد  الرئيس الحالي. ولكن بعد أن تولّى بشار الأسد السلطة عام 2000، كان ينبغي أن يكون هناك اهتمام استخباراتي يركّز على ما إذا كان اللاعب الجديد العديم الخبرة، سيميل إلى التوجه نحو اتجاهات جديدة، أولاً وقبل كل شيء نحو [الحصول على سلاح] نووي. ومع ذلك، فبسبب القصور الذاتي، ظلت المخابرات الإسرائيلية غارقة في مستنقع المفهوم القديم لعدة سنوات.

وهكذا، في عام 2004، عندما شغلتُ منصب السكرتير العسكري لوزير الدفاع، تلقينا تقريراً استخباراتياً مفاده أن النظام السوري يتناول قضايا عسكرية نووية. فطلبتُ من مدير الاستخبارات العسكرية أن يبحث التقرير في اجتماع مع وزير الدفاع، ولكنه رفض هذه الإمكانية بسبب نقص الأدلة الداعمة وعلى أساس أنها “غير منطقية” على السواء. وكما نعلم، كانت سوريا في ذلك الوقت تمضي قدماً في المشروع، مع وجود تقسيمات صارمة داخل صفوف الحكومة السورية نفسها (ومقابل حلفائها الإيرانيين). وقد أخطأَتْ الاستخبارات الإسرائيلية في تقدير منطق تفكير بشار الأسد، وحقيقة أنه بدلاً من قيامه ببناء بنية تحتية نووية محلية، كان قد قرر شراء كل شيء “جاهزاً” من كوريا الشمالية.

وتتمثل دروس المنهجيات هنا في أنه يتوجب على الاستخبارات الإسرائيلية أن تعطي باستمرار أولوية حقيقية وعملية لموضوع قيام دول المنطقة باكتساب قدرات نووية، نظراً للأهمية الاستراتيجية لهذه القضية. بالإضافة إلى ذلك، يجب عليها أن تتحقق دائماً من صحة افتراضاتها عندما يتغير زعيم أي بلد في المنطقة. وكان الأسد شخصية غير معروفة نسبياً خلال سنواته الأولى في الحكم، ولكن بإمكان المرء أن يميز بشكل متزايد الجانب المغامر لشخصيته غير الناضجة.

وتستحق المخابرات الإسرائيلية الثناء لحصولها على المعلومات الهامة في الوقت المناسب وعلى المرافقة الدقيقة لعملية [القصف]، التي شملت تقييماتها للردود المحتملة عليها. ولكن إلى جانب كيل المديح لنفسها، يجب أن تحقق في هذه الحالة وتتعلم دروسها، مَثَلُها مثل قيام “سلاح الجو الإسرائيلي” بالتحقيق في “الضربات القريبة جداً” التي كانت على وشك أن تصيب طائراته كما لو كانت ضربات فعلية حقاً.

عملية صنع القرار

من خلال سنوات عملي وتتبعي لعلاقة الترابط بين عمليات صنع القرار، لا أستطيع أن أتذكر عملية صنع قرار واحدة شاملة ومنظّمة كما في هذه الحالة. فعلى مدى أشهر، عقد منتدى صغير لرؤساء المؤسسات الأمنية اجتماعاً كل يوم جمعة في مقر رئيس الوزراء لمناقشة كل جانب من جوانب الهجوم وعواقبه.

وخلال تلك المناقشات، تقرّر تزويد الأسد بـ “مساحة إنكار” لمنعه من اتخاذ تدابير انتقامية [ضد إسرائيل] بسبب تدمير المفاعل. ومن بين جملة أمور أخرى، استند هذا القرار إلى تقييم للرئيس السوري أعدّته مجموعة مختارة من علماء النفس. وخلال هذه العملية جرى حوار مثمر بين القادة الإسرائيليين والأمريكيين وعُقدت سلسلة من المناقشات السرية بين أعضاء الحكومة قبل اتخاذ القرار. وقد استغلت إسرائيل الميّزة التي كانت تمتلكها – وهي أن الأسد لم يكن يعلم أن الدولة اليهودية على معرفة بما يقوم به – لكي تجتاز الأمر من خلال عملية مفصّلة نجحت أيضاً في الحفاظ على سريّتها.

وما أثقل كاهل هذا المسار المنظّم كان التوتر الشديد بين رئيس الوزراء إيهود أولمرت ووزير الدفاع إيهود باراك، الذي جمع بين صراع شخصي وخلافات حقيقية في النهج المتّبع. وقد كان باراك يرى أن أولمرت يفتقر إلى الخلفية والمهارات اللازمة لاتخاذ مثل هذه القرارات المصيرية. وكثيراً ما سمعناه ينتقد الإدارة الإشكالية لـ “حرب لبنان الثانية” في العام الذي سبق، ولا سيّما كيفية شن الحرب دون مراعاة جميع أبعادها أو احتساب بضع خطوات إلى الأمام.

وعندما تولّى باراك منصب وزير الدفاع في حزيران/يونيو 2007، وجد أن الخطة الرئيسية للعملية لضرب المفاعل ستترك آثار تتبعية شديدة من شأنها أن تجعل إسرائيل عرضة لرد سوري. بالإضافة إلى ذلك، قال إنه بما أن العملية تنطوي على مخاطر – مهما كانت منخفضة – قد تؤدي إلى تصعيد الحرب، يتعيّن على إسرائيل أن تكون مستعدة وأن يكون جيشها جاهزاً لتحقيق انتصار لا لبس فيه إذا اندلعت الحرب، عوضاً عن انتصار غامض كما كان عليه الحال في “حرب لبنان الثانية”. فقد كانت قوات “جيش الدفاع الإسرائيلي” في خضم عملية هامة لإعادة تأهيل نفسها من تلك الحرب، ورأى باراك أن هناك حاجة إلى مزيد من الوقت من أجل الاستعداد لوقوع نزاع رئيسي محتمل آخر، وأنّ إسرائيل كانت تملك الوقت الكافي لذلك.

وبالتأكيد، كان لدى باراك وجهة نظر محقة في تأكيداته، كما وأضافت مدخلاته بُعداً عميقاً لعملية صنع القرار. فالخطة التي تم تنفيذها في النهاية تركت آثار تتبعية ضئيلة، وقد استفاد “جيش الدفاع الإسرائيلي” بشكل كبير من الوقت الممنوح له لتحسين استعداده. ومع ذلك، ففي مرحلة ما خلال فصل الصيف، لم يعد من الواضح لماذا استمر باراك في تأخير العملية. وقد تساءل الكثيرون في أوساط صنع القرار عمّا إذا كان لديه دافع خفي. إذ أن باراك يتمتع بمعرفة وخبرة كبيرتين في المجال الدبلوماسي -الأمني الحقيقي، ولكن في كثير من الأحيان كان من الصعب معرفة ما هو دافعه الأساسي في أي وقت كان ضمن مجموعة الدوافع التي تتواجد في شخصيته المعقدة.

وبعكس ما كان متوقعاً، ساهمتْ تركيبة التناقضات التي مثّلها أولمرت وباراك في تحقيق النتيجة الناجحة، على الرغم من العقبات التي اعترضت الطريق. ولكن المسؤولية النهائية تقع على كاهل رئيس الوزراء، وكما تم توجيه انتقادات مبررة لأولمرت بسبب إدارة حرب لبنان الثانية، فإنه يستحق الفضل في تدمير المفاعل السوري.

تحدي لـ “عقيدة بيغن”

يعكس تدمير المفاعل ما تمثّله “عقيدة بيغن” Begin Doctrine، التي لا تسمح بتطوير أي قدرات نووية مهدِّدة في منطقة الشرق الأوسط. ومن بين الجهات المعنية [باتخاذ قرار قصف المفاعل السوري]، كان هناك إجماع واسع على عدم وجود خيار آخر سوى تدمير المفاعل في عملية عسكرية، حتى وإن كان ذلك قد يؤدي إلى حدوث تصعيد محتمل.

ولذلك، لم يُنظر إلى أي خيار آخر بشكل جدي، بما في ذلك اقتراح الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش لأولمرت بإصدار إنذار نهائي للأسد، بأن عليه السماح للمفتشين الدوليين بزيارة المفاعل في غضون فترة زمنية قصيرة أو محددة وإلاّ سيتعرض المفاعل للهجوم. وقد ظهرت مخاوف معقولة بأن خيار “الدبلوماسية أولاً”، قد يوفر للأسد مجالاً لاتخاذ خطوات فورية لإخفاء المفاعل وحمايته بحيث يجعل من المستحيل تدميره. وقد رأى صانعو القرار في قرارة نفسهم أنه يجب على إسرائيل ألاّ تضع العناصر الأساسية الحاسمة من أمنها القومي بين أيدي أطراف خارجية، وإن كانت جهات صديقة جداً. ولا يزال هذا المبدأ ساري المفعول حتى اليوم.

وفي هذا الصدد، يمثّل البرنامج النووي الإيراني تحدياً أكثر جسامة لـ”عقيدة بيغن” من البرنامجين اللذين تم تدميرهما في العراق وسوريا. إذ لا يدور المشروع الإيراني حول مفاعل واحد، بل يجمع بين مسارات اليورانيوم والبلوتونيوم في إطار واسع من القوى البشرية العاملة، والمعرفة الفنية، والمرافق، والبنى التحتية في بلد أكثر بعداً يقوم بإرساء مجموعة كبيرة [من وكلائه ومهاراته] في المنطقة – بعضها قريب من إسرائيل – ولديه القدرة على الرد وإلحاق ضرر كبير بإسرائيل من خلال القيام بعملياته بصورة مباشرة أو من خلال وكلائه مثل «حزب الله».

وعلى عكس الأسد آنذاك، تدرك إيران أن إسرائيل والعالم يتابعان عن كثب برنامجها النووي، وتتصرف على هذا الأساس. فضلاً عن ذلك، يتمتع البرنامج النووي الإيراني بسياق دولي واسع وعميق، وأي إجراء ضده سيؤثر حتماً على هذا السياق ويتأثر به. وقد أدّت الاتفاقية النووية بين إيران والدول الرائدة في المجتمع الدولي إلى اكتساب وقت ثمين، لكنها لم تستبعد طموحات إيران النووية، ولم تحرّم إيران من بنيتها التحتية النووية، وسوف تسمح لها في النهاية بأن تصبح دولة على عتبة حيازة أسلحة نووية. ولا بد من أن نضيف إلى ذلك، العلاقات بين إيران وكوريا الشمالية والتأثير المتبادل الواضح للتقدم الذي يحرزه كل بلد في المجال النووي أو التراجع الذي يشهده.

وفي ضوء جميع هذه الاعتبارات، تتعلق الأسئلة الرئيسية التي تواجه صناع القرار الإسرائيليين بشكل أساسي بفعالية أي مبادرة يقوم بها “الجيش الإسرائيلي” لإحباط عملية ما [قد يقوم بها الإيرانيون] وتأثيرها المحتمل على فرص منع عودة إيران المتسارعة إلى المسار النووي “في اليوم التالي”، وهذه المرة بشكل سرّي مع اندفاع إلى تطوير السلاح النووي. ويمثّل ذلك تحدٍ متفاوت الأهمية. إذ يتطلب مراقبة وثيقة ومستمرة وفكر استراتيجي شامل ومعقد. يجب على إسرائيل أن لا تقف مكتوفة الأيدي نتيجة الوقت الإضافي الذي منحته الاتفاقية النووية، والذي يمكن تقليصه إذا قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاقية. يتعيّن على إسرائيل أن تبدأ اليوم في التحضير لوقت قد يكون فيه من الضروري اتخاذ قرار حاسم، ويشمل ذلك الاستخبارات المركزة، وإعداد الخيارات العملياتية، وإجراء حوار وثيق مع الولايات المتحدة، وإقامة شراكات إقليمية قدر المستطاع.

وقد تتفاقم التحديات التي تواجهها إسرائيل بفعل الاحتمال بأن تؤدي بعض البرامج النووية المدنية التي تنتشر الآن في المنطقة إلى وضع الأساس لبرامج عسكرية مستقبلية. وفي هذا السياق، تطالب المملكة العربية السعودية – التي أصدرت مناقصة دولية لبناء اثنين من أصل 16 مفاعلاً مقرر إنشاؤها – بعدم تقيّد الحكومة الأمريكية بـ “المعيار الذهبي” الذي تطبقه على البرامج النووية المدنية والسماح لها بإقامة منشآت للوقود النووي في أراضيها على النحو الذي يُسمح به في إيران، مع تحذير ولي العهد السعودي من أنه إذا اكتسبت إيران قدرة نووية عسكرية، فإن بلاده ستفعل ذلك أيضاً. والخلاصة هي أنه أثناء إعداد الخيارات وإرساء الأساس لمواصلة تطبيق “عقيدة بيغن”، يجب على إسرائيل أن تسأل نفسها باستمرار ما إذا كانت شروط إنفاذ هذه العقيدة لا تزال قائمة بصورة فعّالة، وإن لم يكن الأمر كذلك، فما هو البديل.

مايكل هرتسوغ 

معهد واشنطن