العراق والانتخابات النيابية الرابعة

العراق والانتخابات النيابية الرابعة

 تُعقَد اليوم الانتخابات النيابية العراقية الرابعة للعام 2018، التي تجسد الاستمرارية والتغيير في الوقت ذاته، في مناخ تقسيمي بشكل خاص. وتقام هذه الانتخابات في ظل الدمار الذي خلفه الصراع مع “داعش” والانقسامات الخطيرة في داخل الحزب الشيعي الحاكم. ونتيجة لذلك، سوف تشكل الانتخابات التي انطلقت اليوم اختبارا لمزاج البلد في أعقاب السنوات الأخيرة المضطربة. فالناخبون العراقيون يتجهون إلى صناديق الاقتراع لصياغة الإجابة النهائية على سؤال سيحدد مستقبل البلد في لحظة محورية من تاريخه الحديث: هل يختار الناخبون أن يتحول العراق إلى نموذج حكم الحرس الثوري الإيراني، أم يرجحون خيار تثبيت دولة عراقية الهوية؟

وقُبيل افتتاح مراكز الاقتراع أبوابها للناخبين العراقيين حذرت السفارة الأميركية  في بغداد من احتمال وقوع هجمات على المراكز الانتخابية في أنحاء العراق. وقالت السفارة -في بيان على موقعها الإلكتروني- إنها تلقت معلومات عن احتمال وقوع هجمات إرهابية على مراكز انتخابية، لا سيما في حي الغزالية غربي العاصمة بغداد، وأوضحت أنها قررت تقليص حركة الموظفين في هذه المنطقة بشكل مؤقت. من جانبه دعا مركز الإعلام الأمني العراقي العراقيين إلى عدم تصديق ما وصفها بالشائعات والأكاذيب التي تطلقها بعض الأطراف فيما يتعلق بالوضع الأمني خلال عملية الاقتراع.وقال المركز في بيان إن القوات الأمنية جاهزة لتأمين الانتخابات وضمان وصول جميع الناخبين إلى مراكز الاقتراع بيسر وسهولة، وممارسة حقهم الديمقراطي، والاستمرار في حماية المراكز والمحطات الانتخابية حتى بعد انتهاء مدة الاقتراع لإجراء عمليات العد والفرز.

ومع التزام الصمت الانتخابي أمس، أُغلقت الحملات الدعائية، لتبدأ مرحلة التكهنات حول نتائج التصويت. وتكاد مراكز البحوث ووسائل الإعلام تُجمع على تقدم ائتلاف «النصر» الذي يتزعمه رئيس الوزراء حيدر العبادي، على بقية الكتل السياسية بفارق بسيط وبمعدل 35 – 45 مقعداً. وتتبعه بنتائج متقاربة تتراوح بين 25 – 35 مقعداً، ائتلافات «سائرون/ مقتدى الصدر»، و «الفتح/ هادي العامري»، و «دولة القانون/ نوري المالكي»، و «الوطنية/ إياد علاوي». ثم تأتي ائتلافات «القرار/ أسامة النجيفي»، و «الحزب الديموقراطي/ مسعود بارزاني»، وتتراوح مقاعدها ما بين 10 – 20 مقعداً. وبدرجة أقل، قوى مثل «الحكمة/ عمار الحكيم»، و «التحالف الكردستاني/ كوسرت رسول»، و «العدالة/ برهم صالح»، ثم قوى أخرى مثل «التحالف المدني»، و«الجيل الجديد»، و «تمدن»، و «التغيير»، بأقل من 10 مقاعد.وعلى رغم أن هذه الخريطة تبدو مستقرة باختلافات طفيفة لدى معظم القوى السياسية، إلا أن هامش المفاجآت غير مستبعد، ويشير أحياناً إلى تقدم العبادي إلى 60 مقعداً.

ولعل مرد تُقدم قائمة العبادي في الانتخابات العراقية على غيرها من القوائم الانتخابية تعود  إلى ما حققه من انجازات داخلية وخارجية فمنذ وصوله إلى منصب رئيس الوزراء عام 2014، خسرت إيران الكثير من استثمارها في البيئة الشيعية العراقية، إذ بدأ يتشكل شعور عراقي داخلي لدى طيف شيعي واسع بأن العراق لا يمكن أن يصبح “حديقة خلفية” لإيران.وباتت تيارات الإسلام السياسي المرتبطة بإيران محل شك كبير من قبل حواضن اجتماعية كانت تشكل قاعدة سياسية لها في السابق. ويتنامى هذا الشعور العراقي الداخلي مع تعمق العزلة الإيرانية، إثر انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وما يستتبع ذلك من تداعيات اقتصادية تعقد مهمة إيران في إدامة زخم عملياتها الخارجية في كل من اليمن ولبنان وسوريا والعراق. وقد حاول رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي انتهاج سياسة توازِن ما بين الولايات المتحدة وإيران على مدى السنوات الأربع الماضية، وأعلن مراراً أن العراق لن يصبح مسرحاً للحروب بالوكالة بين الطرفين.

دائماً ما تكون رغبة طهران في تحديد نتائج الانتخابات العراقية أمراً مفروغاً منه، لكن من غير الواضح مدى شدة هذا التدخل هذه المرة. وفي ضوء الضغوط العديدة التي تتعرض لها إيران – بدءً من الضربات الإسرائيلية [على مواقعها] في سوريا وإلى تخلي الولايات المتحدة عن الاتفاقية النووية – قد يكون انتباه النظام مشتتاً للغاية إلى درجة قد لا يولي اهتماماً كاملاً للتصويت في العراق. وبدلاً من ذلك، يمكن أن يبقى سلبياً عن قصد، باعتماده على وكلائه المحليين في مختلف المؤسسات للتمتع بنفوذه في بغداد بينما يحاول إقناع الأوروبيين بأنه من الضروري مواصلة التعامل مع إيران. ولكن من الأرجح أن تتّبع طهران نهجاً مباشراً من خلال محاولتها لعب دور مفسد، وإصرارها على [تعيين] مرشحيها المفضلين لشغل المناصب العليا في الحكومة العراقية المقبلة. وعلى الرغم من أن هذا المسار قد يخاطر بالإضرار بسمعة إيران الدولية، إلّا أنّ طهران قد تعتبر أن العراق الحيادي سيشكل خطراً على الجمهورية الإسلامية إذا ما اندلعت حرب في المنطقة.

لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة بعراق قوي ومحايد وديمقراطي. وإذا وضعنا نتائج محددة جانباً، فلدى واشنطن مصلحة في أن تَجري البلاد انتخابات نزيهة تؤدي إلى تشكيل حكومة شاملة. ويدرك العراقيون، بمن فيهم أعضاء من «قوات الحشد الشعبي»، أن الدعم العسكري الأمريكي كان له دور أساسي في قدرتهم على إلحاق الهزيمة بتنظيم «الدولة الإسلامية»، لذا كان على واشنطن أن تذكرهم بهذه الحقيقة أثناء تقدمهم نحو الانتخابات وعليها الاستمرار بذلك في أعقابها – ومن الممكن أن يشمل ذلك أسابيع طويلة من الانتظار للنتائج النهائية وتشكيل الحكومة المقبلة. على نطاق أكثر اتساعاً، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين مواصلة الاهتمام الكامل بكل هذه العمليات، لأنهم سيحددون مسار العراق خلال السنوات الأربع القادمة.

تتعلق الانتخابات النيابية العراقية باختيار رئيس وزراء بقدر ما تتعلق بانتخاب أعضاء البرلمان، ويتكشف ذلك في عملية مفاوضات، ومقايضات، وليِّ أذرع تحدث بعد الانتخابات، وبشكل أساسي في داخل الجيب الشيعي. وثمة عدة سيناريوهات ممكنة لما سيأتي، اعتماداً على عدد من المتغيرات: عدد الأصوات التي تلقاها القادة الأفراد؛ وقدرة إيران على إقناع التحالفات الشيعية -أو الضغط عليها- لتشكيل ائتلافات؛ وما إذا كانت الجماعات الكردية ستلتئم معا مرة أخرى لتشكيل عامل الترجيح المألوف؛ وأي مدخلات قد تكون لدى الولايات المتحدة لتساهم بها -أو لا تكون.

 أن الانتخابات النيابية التي تجرى -اليوم- من شأنها أن تتحول إلى خطوة كبيرة على مسار ترسيخ موقف العراق كدولة قومية ذات شأن وتأثير، وبالتالي تعد من عناصر الاستقرار الأساسية في المنطقة التي تعاني من عقود من الفوضى والاضطرابات والصراعات. ومن المحتمل، على الصعيد الديموغرافي، والموارد الطبيعية، والموقع الجيوسياسي، وقبل كل شيء، نوعية البشر هناك، فإن العراق لديه المقومات والمقدرة على أن يكون لاعباً رئيسياً في السياسات الإقليمية في المنطقة. وتستخدم الكثير من الكليشيهات في وصف فرص العراق لإعادة تعريف الذات كدولة قومية حديثة بأنه الدولة التي تحاول وبكل تؤدة تطوير العملية الديمقراطية الداخلية لديها. وفي الآونة الراهنة، ينبغي على كل من يتولى مسؤولية تشكيل الحكومة العراقية المقبلة في بغداد أن يتسم بالتواضع والهدوء، وينأى بنفسه وبحكومته وببلاده عن الخطابات الرنانة والحذلقة الإعلامية الفخيمة، ويركز على السياسات الراسخة التي تخدم القضايا الأساسية ذات الأهمية. ومن شأن الغاية الأولى للحكومة العراقية المستقبلية التأكد من أن العملية الديمقراطية في البلاد آمنة وسليمة. وبصرف النظر تماماً عن الخلافات الدينية، أو الطائفية، أو الآيديولوجية، أو حتى السياسية، فإن كافة جموع الشعب العراقي تجمعها مصلحة واحدة في بلوغ تلك الغاية. ولذلك، ستشكل الانتخابات العراقية تحولا مفصليا لمستقبل البلاد،ويمكن لنتائجها والسيناريوهات المختلفة للتحالفات التي قد تتشكل في ما بعد الانتخابات  تحديد ما إذا كان العراق دولة كاملة الاستقلالية، و تتبني سياسات أكثر تطلعاً نحو الشرق. أم ستبقى إيران صاحبة اليد الطولى في قرارها السياسي.

وحدة الدراسات العراقية 

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية