من هو جون بولتون الذي يهندس حروب ترامب القادمة؟

من هو جون بولتون الذي يهندس حروب ترامب القادمة؟

تقديم
تسلط المادة الضوء على “جون بولتون”، مستشار الأمن القومي الأميركي للرئيس الحالي “دونالد ترامب”، وأهم صقور العاصمة الأميركية يمينية وتطرفا، وأحد أكثر سياسيي الغرب جموحا في العقدين الماضيين، وتستعرض بدايته وصعوده في قلب مصنع السياسات الأميركي، وصولا لتوليه أعلى منصب أمني في الولايات المتحدة، وكذا أفكاره ونظرياته التي يطبقها الآن، وأهمها جنوحه الدائم لتغيير الأنظمة غير المرضي عنها أميركيا بالقوة، من النظام الإيراني، إلى النظام الفنزويلي الحالي والذي ترجح المادة تحليليا أن بولتون قد صمم -بمشاركة صقور ترامب الآخرين- خطة الانقلاب الناعم الجاري الآن عليه، وليس انتهاء بتوقع صراعه القادم مع وزير الخارجية الحالي “مايك بومبيو”، وترجيح إطاحة ترامب به في المستقبل القريب.

نص التقرير
للوهلة الأولى، بدت الصفقة رابحة ونادرة الحدوث بين طرفين يحلمان بتحطيم بعضهما البعض: ستسلم طهران كبار رجال تنظيم “القاعدة”، القلب النابض لمنظومة “الجهاد العالمي”، لمطارديهم الأشرس في جهاز المخابرات المركزية الأميركية (CIA)، مقابل أن تسلم واشنطن زعماء “مجاهدي خلق” لطهران بشكل مباشر، العدو الداخلي الأول لنظام الملالي والذين اتخذوا من العراق المحتل ملجأ تحت رعاية أميركية، حيث لن يرى أحدهم الضوء مرة أخرى على الأرجح.

عُقد الاجتماع السري الأول في 12 يونيو/حزيران 2003 بالبصرة جنوب العراق، وعلى الجانب الإيراني حضر “محمد بكر ذو الفقار”، الرجل الثاني في الحرس الثوري، واللواء “أحمد وحيدي”، قائد قوات فيلق القدس السابق والنجم العسكري الصاعد، ومعهما أحد مسؤولي مخابرات البلاد. أما الجانب الأميركي، والذي ما زال وصف رئيسه “جورج دبليو بوش” لإيران بأنها من “دول محور الشر” يتردد في العالم، فقد كان موجودا منه بعض ضباط الـ “CIA”، وبعض مساعدي “بول بريمر” حاكم عراق ما بعد الاحتلال، والجنرال “ريكاردو سانشيز” القائد العام للقوات الأميركية بالعراق، بينما حضر “أحمد الجلبي” زعيم المؤتمر الوطني العراقي كوسيط مباشر.

تخبرنا المصادر الاستخباراتية(1) بالخطوط العامة للقصة المثيرة، فمن ناحية، فإن الأميركيين لم يكونوا مهتمين باصطياد أحد من بحار إيران إلا أسماك “القاعدة” الكبيرة فقط، وحدد ضباط الـ “CIA” لنظرائهم الإيرانيين ثلاثة أسماء: “سعد بن لادن”، من يُعتقد أنه المسؤول عن هجمات الرياض الشهيرة في مايو/أيار للعام نفسه، والابن الأكبر لـ “أسامة بن لادن” زعيم “القاعدة”(2)، والطبيب المصري “أيمن الظواهري”، الرجل الثاني في التنظيم بعد “ابن لادن”، و”سيف العدل” القائد العسكري للتنظيم. أما قائمة الإيرانيين فكانت أكثر طموحا من قوائم رجال لانجلي، مطالبين بأن تُفكك جميع قواعد “مجاهدي خلق” في العراق، وأن يتم تسليم 150 عضوا في المنظمة، وعلى رأسهم زعيمها التاريخي “محمود رجوي”، وزوجته “مريم رجوي” المقيمة في فرنسا وقتئذ.

وللمفارقة المدهشة، ذهب الأميركيون لأبعد مدى لتلبية رغبات الإيرانيين، وتوصلوا لاتفاق مبدئي ضغطوا بموجبه على باريس لتسليم “مريم رجوي”، وبعد أسبوع واحد من الاجتماع، في 17 يونيو/حزيران، كانت قوات الشرطة الفرنسية تغير(3) على مقر “مجاهدي خلق” بباريس، معتقلة “مريم” وأعضاء المقر بتهم “التخطيط لعمليات إرهابية”، وبدا وأن الأمور تسير في صالح الإيرانيين، إلا أن خطة أخرى لاحت في الأفق لهدم الاتفاق، وأشرف على تنفيذها بضعة أشخاص، في القلب منهم اسم نعرفه الآن كمستشار الأمن القومي الأميركي؛ “جون بولتون”.

بالنسبة لأكثر صقور واشنطن -من المحافظين الجدد- نفوذا، وضمنهم “بولتون”، مَن شغل موقعا شديد الحساسية في وزارة الخارجية وقتها، كان التعاون مع طهران وإلقاء “مجاهدي خلق” وزعيمهم وزوجته للأنياب الإيرانية للحصول على رؤوس القاعدة، وتفريغ الأراضي العراقية منهم، كان ذلك بمنزلة مقامرة حمقاء ورهان خاسر ستدفع الولايات المتحدة ثمنه مستقبلا، ورأى “بولتون”، ومن امتلكوا رأيه نفسه في “البنتاغون”، أن خيار “مجاهدي خلق” ربما سيكون مفيدا للغاية في المستقبل للإطاحة بالنظام الإيراني، واستبداله بنظام أكثر ولاء وقربا من واشنطن، وهو الحُلم الذي لم يخفت لدى بولتون على مدار ستة عشر عاما وحتى الآن.

ولأجل ذلك، قاد “بولتون” حملة مضادة في أروقة الإدارة الأميركية لإفشال الاتفاق، وساهم في هندسة خطوات متعددة لتحقيق الهدف، منها تواصله الشخصي مع الزعيم الشيعي المعتدل “محمد باقر الحكيم”، رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، وصاحب النفوذ الواسع(4)، حيث كان “الحكيم” في تلك الفترة أكثر ميلا للتنسيق مع الأميركيين من معارضتهم بإطلاق أو الانصياع التام للأجندة السياسية الإيرانية في بغداد، مفضلا إقامة نظام إسلامي معتدل بالداخل العراقي.

لذا، فقد زاره في مكتبه سرا بمدينة “النجف” وفد رفيع المستوى ضم “بول بريمر”، وبعض ممثلي مساعد وزير الدفاع الأميركي “بول وولفويتز”، والجنرال “سانشيز”، و”بولتون” نفسه، وبالفعل نجحوا في إقناعه على الأرجح ليدخل في النصف الثاني من يوليو/تموز 2003 لمفاوضات الاتفاق بناء على طلب “أحمد الجلبي”. ولم يكتف صقور واشنطن بذلك، وإنما تم تسريب تقارير متواصلة للإعلام الأميركي بوجود قادة القاعدة على الأراضي الإيرانية، في محاولة لتكوين رافعة سياسية تضغط على الـ “CIA” للانتقال من وراء الأبواب المغلقة، ومطالبة طهران بتسليمهم بمقابل أيسر دون القضاء على “مجاهدي خلق” بالكلية.

ورغم أن التسريبات لم تولد الزخم المطلوب لتحريك الأمور في أروقة العاصمة الأميركية، ورغم تلقي خطة الصقور وطموح “بولتون” بإبعاد الخطر عن “مجاهدي خلق” ضربة أخرى باغتيال “الحكيم” نهاية أغسطس/آب للعام نفسه، فإنه وبعد ثلاثة أشهر من المفاوضات نجحت دائرة المحافظين الجدد المعارضين للاتفاق في إفشاله بالفعل، وفي خضم شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب كان “بولتون” يساهم في صناعة رؤيته المستقبلية، فتم الإفراج عن “مريم رجوي” من السجون الفرنسية بعد أسبوعين فقط من اعتقالها، ولم يتم تصفية قواعد “مجاهدي خلق” في العراق، مقابل تمتع “سعد بن لادن” بحريته كما هي على الأراضي الإيرانية، حتى اغتياله بعد ذلك بست سنوات في 2009 بطائرة أميركية بدون طيار، بينما بقيت “مجاهدي خلق” على حالها كما أراد “بولتون” آملا في أن يأتي اليوم لاستخدامها لتغيير النظام الإيراني كاملا، كما يسعى لذلك الآن.

يُعرَف بولتون على الأغلب بأنه “أكثر سياسيي الولايات المتحدة جموحا” في القرن الحادي والعشرين، ممتلكا “التقنية السياسية اللازمة لاختراق الطبقات البيروقراطية في واشنطن”، حد تعبير المحللة الشهيرة “ريفا جوجون”(5)، ومن ثم تطويعها لصالحه، مرورا بإيمانه التام بأن أفضل وسيلة لإظهار القوة الأميركية هي ممارستها بشكل عملي، ومحتقرا للمؤسسات الدولية، وليس انتهاء بميله الكبير للشاعرية في خطاباته وتحويلها لقوالب عميقة وربما شبه ملحمية، مقتبسا بكثرة من الرؤساء السابقين والحكايات التاريخية الأميركية، لكن علامته الأبرز تظل في حماسته التي لا تنقطع لتغيير أي نظام في أي دولة كطريقة مثلى لمعالجة معضلات السياسة الخارجية الأكثر إرباكا لواشنطن، من كوريا الشمالية، مرورا بإيران، وليس انتهاء بفنزويلا، وهي علامة تضعه دوما في قلب الدائرة الضيقة لأخطر صقور ومستشاري السياسة في العاصمة الأميركية.

الرجل الغاضب

“لم أكن لأضيع وقتا في صراع عقيم”

بالنسبة لصقر يميني يرى الدبلوماسية هراء تاما ويقدس الحرب؛ مَثّل تصرف “بولتون” كشاب أثناء الغزو الأميركي لفيتنام مفارقة ساخرة، وهي حرب تحتل مكانة سامية لدى الأميركيين مدشنين من خاضوها أبطالا. لذا؛ كان متوقعا أن ينخرط “بولتون” فيها مباشرة مؤديا خدمته العسكرية هناك كأي جمهوري متشدد يُعلي القيم الأميركية فوق كل شيء، إلا أن تصرفه جاء نقيض ذلك تماما، وهو نمط يمكن ملاحظته في أغلب دعاة الحروب والتدخلات العسكرية من الصقور واليمينيين الأميركيين، حيث اختار عدد كبير منهم الاستعانة بكل نفوذ ممكن لتجنب خوضها بأنفسهم، وعلى رأسهم ترامب نفسه.

في ذلك التوقيت، عامي 1968-1969، كانت هناك عدة وسائل لتفادي أداء الخدمة العسكرية في الجحيم الفيتنامي، منها شهادات الإعفاء الطبية والتي كانت تصدر في حالات عدة بنفوذ عائلة المتقدم وأمواله، ومنها أيضا أداء الخدمة العسكرية في الحرس الوطني، وهي وسيلة اختارها “بولتون” لتجنب نيران الجنوب الآسيوي، فلم ينتظر بحال بعد ظهور رقمه “185” في قرعة الخدمة العسكرية [اعتمدت إدارتا الرئيسين جونسون ونيكسون على مسودات الأرقام حسب تواريخ ميلاد الأميركيين لأداء الخدمة العسكرية بدلا من الاحتياطي]، وإنما انضم لقوات الحرس الوطني في ميريلاند، مُنهيا في الوقت نفسه دراسته في جامعة “يال”، وهي الجامعة نفسها التي نال منها درجته في القانون.

ظل الأمر غير معروف على نطاق واسع حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، حين كتب “بولتون” نفسه في كتاب حفل لم شمل خريجي “يال” الخامس والعشرين ما حدث، قائلا: “أعترف أنني لم أمتلك أي رغبة للموت في حقل أرز بجنوب شرق آسيا، فقد كانت حرب فيتنام خاسرة بالفعل”، ثم شرح مقولته عام 2007 ببراغماتية(7) منحيا باللائمة على مناهضي الحرب الأميركيين، خاصة من الديمقراطيين، وقائلا إنهم “أوضحوا تماما أننا لا يمكن لنا أن ننتصر”.

بعدما تخلى “صقر الحرب” عن الحرب، بدأ مسيرتيه القانونية والسياسية جنبا بجنب، وإن لم تكن مسيرته كمحامٍ لامعة كمسيرته كسياسي، حيث شغل بولتون عدة مناصب كمدير تنفيذي وباحث ومستشار سياسي في عدة كيانات جمهورية ويمينية محافظة، من اللجنة الجمهورية الوطنية، مرورا بمجلس العلاقات الخارجية “CFR” والجمعية الفيدرالية ومنتدى السياسة الوطنية، وليس انتهاء بوصوله لمنصب كبير نواب رئيس معهد “أميركان إنتربريز”، أحد أهم مراكز الأبحاث المحافظة وأكثرها نفوذا في العاصمة الأميركية، لكن تلك المسيرة السياسية الحافلة ظلت محدودة مصنفة إياه على أنه باحث ومستشار سياسي وقانوني فقط، وهو ما تطلب من “الرجل الغاضب” كما يطلق عليه أن يعمل بجد أكبر لاختراق معقل السياسة التنفيذية في العاصمة.

ولأجل ذلك، مثّلت مناهضته لاتفاق كوريا الشمالية المعروف باتفاق “يونغبيون” أوضح ظهور له في العقد التسعيني. ففي هذه الأثناء كانت كوريا الشمالية على وشك الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية “NPT” عام 1993، وهي معاهدة يراها “بولتون” نفسه غير فعالة و”بلا آلية توثيق”، لذا ضغطت واشنطن عن طريق الأمم المتحدة على بيونغ يانغ لإرجاء الانسحاب، ثم توجت ذلك الضغط باتفاق ثنائي بين كوريا الشمالية والمنظمة الدولية لتجميد إنتاج الوقود النووي في مفاعل “يونغبيون”، مقابل حصول الأولى على نفط ومساعدات أخرى تتضمن المعاونة في إنشاء بيونغ يانغ لمفاعلين نوويين سلميين لتوليد الكهرباء.

بعد الاتفاقية، لم تعرف واشنطن تقريبا صوتا أعلى من صوت “بولتون” المناهض للمعاهدة، وقد بدأ حفلة الغضب بما كتبه(8) عام 1994 قائلا: “لا توجد أمم متحدة، بل يوجد مجتمع دولي فقط، وهذا المجتمع يمكن أن تقوده في بعض الأحيان القوة الحقيقية الوحيدة المتبقية في العالم وهي الولايات المتحدة، عندما تتناسب تلك القيادة مع مصالحها فقط، وعندما ينصاع الآخرون وراءها”، ثم استمر في مناهضته للاتفاقية متبنيا قناعة كاملة بأن الحل الوحيد للسيطرة على كوريا الشمالية هو العمل العسكري، وهو حل طوره بولتون باستمرار، من إمكانية قصف شبه الجزيرة الكورية في التسعينيات، إلى قناعته الحالية بالسماح لكوريا الجنوبية ومساعدتها على غزو الشمال برعاية صينية.

على كلٍّ، آتت جهوده وجهود المعارضين للاتفاقية ثمارها بالفعل، وتم إلغاؤها أوائل العقد السابق أثناء الولاية الأولى لـ “جورج دبليو بوش”، وهي اللحظة التي شهدت اختراق الصقر ذي الشارب الكث المميز لمنصب بالغ الأهمية وقتها، شكّل فيما بعد طريقه لقلب دوائر الحكم في واشنطن.

قوبل ترشيح بولتون من قبل “جورج بوش” الابن، لمنصب وكيل وزارة الخارجية لشؤون الأمن الدولي والحد من التسلح؛ بعاصفة من الاستهجان والرفض

هندسة بغداد
“سيكون خطأ كبيرا لو منحنا أي صلاحية لـ “القانون الدولي”، حتى ولو كان ذلك في مصلحتنا على المدى القريب، لأنه وعلى المدى البعيد سيستغل من يعتقدون أن القانون الدولي يعني أي شيء؛ سيستغلونه في تقويض الولايات المتحدة”

خلال إدارتي “رونالد ريغان” و”جورج بوش” الأب؛ شغل “بولتون” عددا من المناصب رفيعة المستوى في وزارتي الخارجية والعدل بجانب عمله البحثي، وبحلول بداية عام 2001 كان قد رسخ موقعه رفيع المستوى في معهد “أميركان إنتربريز” المحافظ، لكنه لم يحظ بذات الشعبية في الأروقة السياسية للعاصمة، حيث لم تكن سمعته على المستوى المطلوب لدى الديمقراطيين تحديدا، من أدانوه مرارا لمواقفه المعارضة لاتفاقيات الحد من انتشار الأسلحة الفتاكة، ومعاهدات نزع السلاح الدولية، وهي اتفاقات ومعاهدات لطالما رآها بولتون على أنها لا قيمة لها.

ولذلك عندما رشحه “جورج بوش” الابن، في يناير/كانون الثاني للعام المذكور، لمنصب وكيل وزارة الخارجية لشؤون الأمن الدولي والحد من التسلح؛ قوبل ذلك الترشيح بعاصفة من الاستهجان والرفض(9)، وبدأت حرب في الكونغرس لمنعه من الوصول للمنصب، إلا أنه وبعد أشهر من الجدال واستعراض العضلات بين الجمهوريين والديمقراطيين، انتهت تلك الحرب بانتصار “بوش”، وانتزع موافقة مجلس الشيوخ على تعيين بولتون في المنصب في الثامن من مايو/أيار، وبأغلبية 57 صوتا مقابل 43 معارضا.

عُد المنصب في تلك الفترة موقعا شديد الحساسية للدبلوماسية الأميركية، حيث يشرف على أربع إدارات من أهم أقسام وزارة الخارجية: مكتب مراقبة الأسلحة، ومكتب الشؤون السياسية والعسكرية، ومكتب منع الانتشار النووي، ومكتب التوثيق والتنفيذ [دُمج الأخير في مكتب مراقبة الأسلحة فيما بعد]، ولا يعد شاغل المنصب مساعدا لوزير الخارجية فقط، وإنما هو أحد أعضاء مجلس الأمن القومي وله حق حضور اجتماعاته الخاصة بمنع انتشار الأسلحة الفتاكة، وبمرتبة مستشار أساسي للرئيس الأميركي، ويتمتع بالتواصل مع الرئيس والبيت الأبيض بشكل مباشر في كثير من الأحيان، أو عن طريق وزارة الخارجية بشكل رسمي في أحيان أقل.

مَثّل المنصب أول اختراق فعلي لبولتون لعالم محركي الأمن القومي الأميركي، وساعده في تحريك أجندة أهدافه الخاصة اليمينية التي لطالما أعاقها وجوده في دوائر البحث لا النفوذ السياسي، وكانت المنفعة متبادلة، فمن ناحية فإن “بوش” كان مباشرا في قوله إنه يرى في بولتون “رجلا ينجز العمل” خاصة في أجزائه المتشابكة مع الأمم المتحدة، إضافة إلى أنه احتاج في تلك الفترة إلى مخططي إستراتيجية دولية تعزل بعض الدول -أغلبها شرق أوسطي- تمهيدا لضربها بالعقوبات أو بعمل عسكري، أما من ناحية بولتون فقد وجد في المنصب أدوات بدأ بها حملته لتحقيق آرائه التي طالما نادى بها.

ولأن الكيمياء كانت متبادلة تلك الفترة بين الرئيس ووكيل وزير خارجيته، فقد شهدت حقبة بولتون في المنصب عددا من أهم التحركات التي ساهمت في غزو العراق بعد تعيينه بأقل من عامين، بداية من كونه أحد أهم مروجي الملصق الدعائي الأميركي العالمي المعروف بـ “دول محور الشر”، وهي دول لم يكتف فيها بولتون بتأييد الأسماء التي ذكرها “بوش” فقط (العراق – إيران – كوريا الشمالية)، وإنما أضاف عليها (ليبيا – سوريا – كوبا) (10)، ومرورا بجهوده لمنع إدارة بوش من التصديق على بروتوكول توثيق معاهدة منع انتشار الأسلحة البيولوجية، وهو ما تم بالفعل عندما رفضت واشنطن التصديق عليه مبررة ذلك بتعارضه مع الأمن القومي الأميركي، وللمفارقة الساخرة فإن انتشار الأسلحة البيولوجية هي التهمة الأساسية التي اتهم بها “بولتون” ستة البلدان المذكورة ممهدا أرضية دولية لأي تحرك أميركي ضدها. لكن إنجاز بولتون الأكبر تمثّل في مساهمته لتحويل المحكمة الجنائية الدولية لكيان تعاديه واشنطن وتلفظه بكل السبل.

مع غزو أفغانستان وفي ربيع عام 2002، أمر “بوش” بعدم التوقيع على معاهدة “روما”، وهي المعاهدة المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية(11)، وفي يوليو/تموز للعام نفسه دشنت المحكمة الجنائية بالفعل، ليرد الكونغرس الأميركي في الشهر نفسه بتمرير قانون “حماية أعضاء الخدمة الأميركية” بأغلبية ديمقراطية وجمهورية، وهو قانون يلزم الرئيس باستخدام كافة الوسائل ولأقصى حد ممكن لحماية الجيش من أي ملاحقة للمحكمة، ولم يكتف القانون بذلك فحسب، بل وسع صلاحياته ليوفر الحماية لأي قوات عسكرية تصنفها واشنطن على أنها حليفة لها، وأتاح استخدام القوة المسلحة لتحرير أي عسكريين أميركيين أو من أي دولة حليفة تم احتجازهم بناء على أوامر من المحكمة، وهو قانون غير مسبوق لدرجة أن معارضيه أطلقوا عليه “قانون غزو لاهاي”، نسبة لمدينة “لاهاي” الهولندية حيث يقع مقرها.

على إثر القانون، لم يختر بوش إلا صقره المفضل في الإدارة “بولتون”، وأرسله في رحلة طويلة وشديدة الأهمية حول العالم ليحاول الضغط على وإقناع أنظمة أكثر من 90 دولة لقبول القانون الأميركي كما لو أنه أحد قوانينهم الخاصة غير القابلة للمساس، وهي رحلة وصفها بولتون بنفسه بأنها أحد أفضل إنجازات حياته على الإطلاق، رغم عدم نجاحه في إقناع نصف الدول التي زارها تقريبا. لكن، وبينما كان ذلك إنجازه، فإن رحلته تلك باختلاف نتائجها أطلقت سلسلة من ردود الأفعال بعيدة المدى كان لها أبلغ الأثر في تكوين رأي عام دولي ضخم مؤيد للمحكمة ومناهض للسياسات الأميركية، وساهمت أيضا في تكوين جدار حماية للقوات الأميركية من الملاحقة أثناء غزو العراق بعدها بأشهر قليلة، وكذا بعد الغزو [ترفض واشنطن التصديق على معاهدة روما حتى اللحظة].

ولأن الصقر الجمهوري لا يتنازل عن مواقفه تقريبا، ورغم أن المحكمة الجنائية غضت النظر كليا عن انتهاكات القوات الأميركية في عهد بوش الابن حول العالم، وتجاهلت مسلسل التعذيب المتصل الذي قادته واشنطن في عواصم الشرق الأوسط وأقبية سجونها، وفي معتقلاتها غير الشرعية وكارثية السمعة وعلى رأسها “جوانتانامو”، رغم ذلك فإن بولتون واصل احتقاره للمحكمة، وعارضها بشدة في تحركها للتحقيق في جرائم حرب ارتُكبت في دارفور جنوب السودان، إلا أن بوش تجاوز اعتراض بولتون في حادثة نادرة، وكان سفيره في الأمم المتحدة وقتها، وسمح للمحكمة بفتح ملفات انتهاكات دارفور، مطبقا سياسة جديدة تتعاطى مع المحكمة الدولية فيما يخدم المصالح الأميركية فقط.

ظل بولتون واسع النفوذ لأكثر من ثلاثة أعوام، ورغم ذلك فقد كوّن الكثير من العداوات جراء مواقفه الحادة وتصريحاته الأكثر حدة، كان بعضها مع أهم أفراد الإدارة الأميركية، كرئيسه المباشر ووزير الخارجية “كولين باول” والذي توارد أن بولتون كان يحجب عنه معلومات حساسة ويمرر له ما يدفع بقراراته نحو توجهات الأخير نفسها، وكخلافاته مع مستشارة الأمن القومي “كونداليزا رايس”، وحتى بوش نفسه، من تغير رأيه فيه قائلا إن بولتون “هو شخص غير جدير بالثقة بداية”، حسب رواية مجلة التايمز عام 2008، تصريح رد عليه بولتون ضمنا في العام نفسه واصفا إدارة بوش بأنها “إدارة منهارة فكريا لدرجة تصيب بالأسى”، فضلا عن عداواته مع مجتمع الاستخبارات، والذي رأى أن بولتون يقوض جهودا رفيعة المستوى لإبقاء الأوضاع مستقرة مع الدول التي تُصنّف في خانة أعداء واشنطن، كمهاجمته واتهاماته المستمرة لكوبا وكوريا الشمالية.

وقد نجحت هذه العداوات في نهاية المطاف في دفع بوش للتخلي عنه، خاصة بعد تعيينه لكونداليزا رايس في منصب وزيرة الخارجية عام 2005، والتي أبدت رغبتها في التخلص من بولتون وإرساله لنيويورك تجنبا لأي صدام محتمل بينهما، وفي بدايات العام نفسه، فبراير/شباط(12)، أُقيل “بولتون”، ثم رشحه بوش لمنصب السفير الأميركي للأمم المتحدة، في إحدى أكثر مفارقات السياسة الأميركية غرابة في العقدين الماضيين.

الصديق الإسرائيلي

كانت فترة “بوش” الأولى هي إحدى أكثر الفترات توترا في علاقات واشنطن مع المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، حيث ضربت العاصمة عرض الحائط بعدد لا بأس به من القوانين الدولية الخاصة بالحروب وحل المنازعات، فضلا عن تورطها في جملة من الانتهاكات الحقوقية جراء غزوي أفغانستان والعراق، لذا فقد تفاءلت المنظمة الدولية الأكبر بجولته الأوروبية في مستهل فترته الرئاسية الثانية، يناير/كانون الثاني لعام 2005، وارتفع سقف الآمال الخاصة بترميم العلاقات أعقاب مساهمة الأمم المتحدة الفعالة في إجراء أول انتخابات عراقية فيما بعد الغزو، لكن تلك الآمال سرعان ما ضُرب بها عرض الحائط عندما أعلن بوش أن مرشحه لمنصب السفير الأميركي للمنظمة هو “جون بولتون”.

وتروي الصحافية الأميركية “سامانثا باور”(13) أن العاملين بالمبنى الرئيس في نيويورك “ساروا في أروقته غير مصدقين، وهم من كانوا ينتظرون اسما مخضرما يعيد الدفء بين المنظمة وأكبر داعميها في العاصمة الأميركية”، فلطالما عُرف بولتون بكراهيته للأمم المتحدة وعدم اكتراثه بها على أفضل الظروف معلنا ذلك في أكثر من مناسبة، ملخصا قناعته في عبارة واحدة قائلا إن مبنى الأمم المتحدة 83 طابقا، فلو اختفت منها عشرة طوابق فلن يلاحظ أحد شيئا.

وفي ظل رجل يرى الدبلوماسية هدرا للوقت، ويرى أن استخدام المفاوضات مع الدول “المارقة” هراء، ويرى أن مقاعد مجلس الأمن الدائمة ينبغي أن تتقلص لمقعد واحد للولايات المتحدة فقط، في ظل هذه القناعات كان من العسير على أي أحد تقبل ترشيح بولتون لمنصب السفير، وبينما اكتفى الأمين العام وقتها “كوفي عنان” بالضحك قائلا إنه لا يريد مناقشة أمر ترشيح بولتون للمنصب، فإن الكونغرس الأميركي كان أكثر حسما، حيث لم ير ترشيح بولتون النور القانوني، وفشل بوش في الحصول على النسبة اللازمة للتصديق على الترشيح في ظل مجلس شيوخ ذي أغلبية ديمقراطية، لكن الرئيس الأميركي كان يرغب في إزاحة بولتون على الأرجح من وزارة الخارجية، لذا فقد استغل فترة تعطيل الكونغرس الصيفية وعيّنه سفيرا في أول أغسطس/آب 2005.

السفير الأمريكي لدى الأمم المتحدة -آنذاك- يقدم أوراق اعتماد للأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان في نيويورك 2005 (رويترز)

كان التعيين متسقا مع السياسة الخارجية الأميركية في تلك الفترة، وركز بولتون على مشروعه الطامح لإعادة تأهيل مجلس الأمن، وأيضا إعادة تأهيل مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة، وحظي الأخير بالنصيب الأكبر من هجوم بولتون والذي لم يكن بدعا من توجهات الولايات المتحدة تلك الفترة، حتى للأجنحة اليسارية والليبرالية سياسيا وإعلاميا [على سبيل المثال اشتركت نيويورك تايمز في الهجوم وثمّنت توجهات بولتون بشأن المجلس]، وعلى كل حال فإن حقبة بولتون في المنظمة التي يمقتها سرعان ما انتهت عندما تنامى إدراك بأن الكونغرس سيوقف تجديده بعد استحواذ الديمقراطيين على الغرفتين (الشيوخ والنواب) أواخر عام 2006، لذا فقد قبل “بوش” استقالته في ديسمبر/كانون الأول من العام المذكور.

بدءا من العام التالي 2007 تحوّل بولتون إلى طريقه الخاص مرة أخرى ولكن بنكهة أكثر براغماتية، خاصة مع قدوم إدارة أوباما المناقضة لكل رؤى الصقر الجمهوري، وهي فترة أصبح فيها أحد الوسطاء السياسيين النافذين في العاصمة، فعاد إلى معهد أميركان إنتربريز كباحث أول، وأخذ مكانه في شبكة “فوكس نيوز” اليمينية كمحلل سياسي رئيس، وفي يناير/كانون الثاني لـ 2009 طالب بتفعيل “الحل الثلاثي” للقضية الفلسطينية، حل(14) يعود بموجبه قطاع “غزة” للإدارة المصرية، وتذهب الضفة الغربية للإدارة الأردنية، وتأخذ إسرائيل بقية الأراضي باعتراف عالمي، مضيفا أن حل الدولتين قد أثبت فشله، وواصفا مطالبة الفلسطينيين بإقامة دولة على أنه “خدعة”، وبعدها بعام واحد في 2010 أسس مبادرة “أصدقاء إسرائيل” رفقة إحدى عشرة شخصية دولية رفيعة المستوى، وهي مبادرة تُعنى بالدفاع عن “الدولة الإسرائيلية” ضد أي جهد قد يقوّضها عالميا، وما زالت المبادرة فاعلة حتى الآن.

ولأجل مد دائرة صلاته لمستويات أكثر تأثيرا في الطبقات السياسية لواشنطن، توسع بولتون في علاقاته مع القطاع الخاص(15)، حيث شهدت عشر السنوات الماضية عمله كمستشار لعدد من الشركات التقنية والعسكرية وشركات الطاقة، منها شركة “EMS” للاتصالات العسكرية قبل الاستحواذ عليها عام 2011 من قِبل مجموعة “هني-ويل”، وشركة الخدمات النفطية “دايموند أوف شور دريلينج” ذات الحضور القوي في الخليج العربي وجنوب شرق آسيا، وأيضا في المجلس الاستشاري لشركة بتروكيماويات تُدعى “حلول البلازما المتقدمة”، مجلس ضم بجانب بولتون “كريستوفر هارفِن”، رئيس شركة “سانيتاس الدولية”، وهي شركة لوبيات حامت حولها شبهات بعدم تسجيلها لبعض عملائها الدوليين مخالفة للقانون الأميركي الصارم بهذا الشأن(16).

بجوار ذلك، فقد حجز بولتون مكانه في منغوليا، وهي دولة آسيوية بمنزلة فاصل جغرافي طبيعي بين روسيا والصين، حيث تحوّلت منغوليا الغنية بالمعادن، وأحد أهم مصادر اليورانيوم العالمية، إلى نقطة التقاء وعمل ساخنة للمسؤولين الأميركيين السابقين وشركات اللوبيات أيضا، فعمل بولتون مستشارا للحكومة المنغولية بعقد مرتبط بشركة “كيج الدولية”(17)، وهي شركة لوبيات عملت لترويج اهتمامات النظام المنغولي أمام إدارة أوباما بدءا من ديسمبر/كانون الثاني لعام 2010، ويرأسها رجل الأعمال الأميركي الناشط في منغوليا “ليو جياكوميتو”، رئيس مجلس إدارة “منغوليا فورورد”؛ وهي شركة تنقيب عن اليورانيوم تضم في مجلس إدارتها “بولتون” أيضا، وقامت ببناء شبكة اتصالات قوية مع المسؤولين المنغوليين في وقت تنافسي، في ساحة تشهد حربا بين عمالقة الطاقة العالميين كـ “روسأتوم” الروسية و”أريفا” الفرنسية و”ريو تنتو” الكندية”، من يتنافسون جميعا على الاحتياطات المنغولية من المعدن النووي(18).

لذا، وفي خضم تلك العلاقات لم يكن ترشيح بولتون لمنصب مستشار الأمن القومي، في منتصف مارس/آذار للعام الماضي، محل ترحيب حار من المحافظين الجدد وصقور واشنطن فحسب، وإنما من أرباب عمله السابقين أيضا، لكن ذلك الترحيب لم يكن السمة المشتركة بين الجميع بطبيعة الحال، وكانت الأخبار غير سعيدة وبعثت توجسا في أرجاء العاصمة مؤثرة على بعض الجمهوريين أنفسهم، خاصة مع مواقف بولتون المعروفة والأكثر صرامة من توجهات ترامب كما فصلنا، وكونه يمتلك ما يفتقده ترامب تماما: العمق، والقدرة على اتخاذ القرارات “الجنونية” بشكل أكثر ذكاء ومهارة، والأهم؛ قدرته على دفع ترامب لحرب حقيقية في أي مكان في العالم.

الصقر
“يجب أن تنهي السياسة الأميركية الثورة الإسلامية الإيرانية.. إن الاعتراف بنظام إيراني جديد في عام 2019 من شأنه أن يزيح العار الذي حدث عندما شاهدنا الدبلوماسيين الأميركيين رهائن لمدة 444 يوما. ويمكن للرهائن السابقين قطع الشريط لفتح السفارة الأميركية الجديدة في طهران”

كان تعيين بولتون كمستشار أمن قومي، وبومبيو كوزير خارجية، بمنزلة تسليم فعلي لقيادة القرار السياسي من ترامب إلى الاثنين وبشكل نهائي

الفرنسية

على مر تاريخها، لم تعرف الولايات المتحدة الكثير من الصقور(19) الذين يمكنهم قيادة أي رئيس لبدء حرب حقيقية تأكل الأخضر واليابس، وكانت الاستثناءات قليلة دوما وأتى على رأسها “ديك تشيني”، نائب “جورج بوش” الابن والمعروف في أميركا بالرئيس الحقيقي أثناء ولايتي بوش، لذا كان من الطبيعي أن تصاب الأروقة السياسية للعاصمة بالخوف عندما شرع ترامب في إستراتيجية يقضي بها على التوتر الدائم في البيت الأبيض منذ أن وطئه بقدميه، وهي إستراتيجية بسيطة تُعنى بالقضاء على المعارضة الداخلية له عن طريق تكوين مجلس حرب غير رسمي خاص به.

ولأجل ذلك كان تعيين بولتون كمستشار أمن قومي، وبومبيو كوزير خارجية، بمنزلة تسليم فعلي لقيادة القرار السياسي من ترامب إلى الاثنين وبشكل نهائي، وللمفارقة فإن الناجي الوحيد من “مذبحة ترامب الإدارية” والذي يميل لانتهاج الدبلوماسية ولا يدق طبول الحرب دائما؛ كان هو وزير الدفاع “جيمس ماتياس”، مع تساؤل وقتها عن الوقت المتبقي له في منصبه قبل أن يطيح به ترامب ليجلب أحد صقوره إليه، وهو ما حدث بعدها بثمانية أشهر، حيث يُنتظر مغادرة الجنرال “ماتياس” لمنصبه بعد أقل من شهر، نهاية فبراير/شباط القادم.

قبل بولتون، كانت كلمات ترامب أكثر صخبا وظهورا من أفعاله، وعلى عكس الشائع كان الرئيس الصاخب يتراجع في حربه التجارية التي يشنها على العالم، فأعفى الحلفاء من الرسوم الجمركية للمعادن، وبدأ بتسهيل الأمور في مفاوضات إعادة اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية “نافتا”، وضيّق نطاق تعريفاته الضخمة على الصين بعد أخذه بتقييم التأثيرات السلبية الكبيرة والمتوقعة على الأميركيين، ولم يأخذ خطوة تجاه طهران بما يتناسب مع الأجندة الإسرائيلية المرادة، وهي أجندة تُمثّل أول عبارة فيها الانسحاب من الاتفاق النووي، وفي كل ذلك افتقد ترامب للعمق المطلوب شكلا ومضمونا، وكذا القدرة على اختراق بيروقراطية العاصمة.

كانت مواقف بولتون واضحة دوما، فهو درع للإسرائيليين، ولا يرى “الدولة الفلسطينية” مشروعا محتملا بالأساس، ويصادق “مجاهدي خلق” ويرى فيهم حلمه بتغيير النظام الإيراني

مَثّل بولتون إضافة وفرت كل ذلك، الرجل الذي كان على قائمة الترشيحات منذ عام ترامب الأول لكنه رفضه لعدم إعجابه بشاربه الكث، وكان أول تحرك للمستشار الجديد والصديق الإسرائيلي الحميم تجاه عدوه الأساسي في طهران، لذا فقد نجح في إقناع ترامب -أواخر مارس/آذار وأبريل/نيسان- بإبطال الضمانات الأمنية الأميركية المعطاة لإيران في الاتفاق النووي، قبل أن يقود القارب الرئاسي لشاطئ إلغاء الاتفاق، أوائل مايو/أيار للعام الماضي في خطاب ترامب المتلفز الشهير، وهو إلغاء عُد بمنزلة نصر بولتون الأول بمنصبه الجديد، بعد أن قدم طريقة الخروج من الاتفاق النووي للرئيس الذي اشتكى قبلا أن فريقه “لم يقدم له أي طريقة للخروج منه”.

قبل بولتون أيضا، تزايدت التسريبات من البيت الأبيض من أعضاء مجهولين في الإدارة اتفقوا جميعا على أن الدستور الأميركي والمبادئ المؤسسة للولايات المتحدة يواجهان تهديدا مستمرا يتجسد في هيئة “رئيس مارق”، لكن بولتون في سبتمبر/أيلول الماضي غيّر ذلك التوجه، وكان أول خطاب متلفز عام لمستشار الأمن القومي بمنزلة صرخة حربية لمعركة شنها على المحكمة الجنائية الدولية، إثر رغبتها نهاية عام 2017 في فتح تحقيق حول جرائم حرب محتملة ارتُكبت في أفغانستان عام 2003، متهما إياها وغيرها من الكيانات العالمية بأنها “مؤامرة غير شرعية من دعاة ومؤيدي توسيع نفوذ المؤسسات الدولية ونمط الحكم العالمي متعدد الدول”، مطالبا باستغلال الفرصة و”خنق المحكمة الدولية في مهدها”.

إلا أن عضو إدارة ترامب الوحيد في ذلك الوقت الذي لم يتعرض لأي هجوم إعلامي بعد توليه المنصب، لم يكن بصدد مهاجمة المحكمة الدولية على مقترح قيد التداول من عام سبق، لذا اعتقد أن خطابه غير الدبلوماسي بمنزلة صرف انتباه وتحييد للهجوم العنيف الذي تعرض له الرئيس في تلك الفترة، خاصة بعد أن وضح فيه بولتون أيضا أن إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية بواشنطن العام الماضي لم يكن فقط بسبب نية المحكمة الجنائية المعلنة مؤخرا بملاحقة إسرائيل، وإنما جاء الإغلاق كـ “عقاب عام للفلسطينيين، من يرفضون خوض مفاوضات بناءة مع الإسرائيليين”، حد تعبيره.

الخلاف الجوهري بين ترامب وبولتون يبقى بشأن الملف الروسي، فبينما يحافظ ترامب على سلوكه الودود تجاه الكرملين، يرى بولتون أن موسكو لا تسعى إلا لتقويض الدستور الأميركي

كانت مواقف بولتون واضحة دوما، فهو درع للإسرائيليين، ولا يرى “الدولة الفلسطينية” مشروعا محتملا بالأساس، ويصادق “مجاهدي خلق” ويرى فيهم حلمه بتغيير النظام الإيراني، ويروج لهم في واشنطن على أنهم معارضة نظام الملالي الوحيدة التي ينبغي للرهان الأميركي أن يستقر عليها، متجاهلا تاريخ المنظمة المسؤولة عن مقتل العديد من الأميركيين قبل “الثورة الإسلامية”، ومحافظا على ظهوره الدائم كمتحدث في راليهم السنوي بالعاصمة الفرنسية باريس، وهو رالي يتوارد أنه يدفع عشرات الآلاف من الدولارات لمتحدثيه. ويختلف بولتون مع ترامب بشأن كوريا الشمالية، حيث يرى المفاوضات معها “أسوأ من هدر للوقت” كما كتب في مقال له على موقع “ذا هيل” قبلا، ويتمثل حل معضلة كوريا النووية بالنسبة له في بدء محادثة بين ترامب والرئيس الصيني “تشي جين بينج” ودفعه لرعاية حل “توحيد الكوريتين” ورفع الحماية الصينية عن النظام الشمالي، بينما تساعد واشنطن كوريا الجنوبية على غزو الشمال وإنهاء المشكلة من جذورها.

لكن الخلاف الجوهري بين ترامب وبولتون يبقى بشأن الملف الروسي، فبينما يحافظ ترامب على سلوكه الودود تجاه الكرملين، يرى بولتون أن موسكو لا تسعى إلا لتقويض الدستور الأميركي، وأن هذه “أفعال حرب حقيقية” كما كتب، ما يوجب ردا حربيا من أميركا، ويؤمن بولتون أن بوتين قد قام بخداع ترامب أثناء لقائهما على هامش قمة العشرين الاقتصادية صيف عام 2017، لذا وعلى الأرجح فإن هذا الخلاف كان من أسباب تعيين بولتون في منصبه أيضا، حيث أراد ترامب على ما يبدو من ذلك التعيين أن يحيد الاتهامات التي لا تتوقف عن علاقته المختلفة بروسيا وبوتين، عن طريق وضع أحد كارهي الروس في أعلى منصب أمني بإدارته، إلا أن ذلك الخلاف يتضاءل بشدة في ظل بصمة الصقر الجديدة الحالية، وربما الأخطر، على النظام الفنزويلي.

عراب الانقلابات

زعيم المعارضة الفنزويلي “خوان غوايدو” (الجزيرة)

عندما أعلن زعيم المعارضة الفنزويلي “خوان غوايدو”، منذ أيام قليلة، تنصيب نفسه رئيسا بالوكالة مستغلا بندا دستوريا يسمح لقائد المعارضة بتولي الرئاسة في البلاد، كان ترامب هو أول من اعترف به كرئيس مطالبا العالم باعتراف مماثل، نافيا شرعية نظام الرئيس “مادورو”، وقائلا إن بلاده ستستخدم كامل قوتها الدبلوماسية والاقتصادية للضغط من أجل “استعادة الديمقراطية في فنزويلا”، ثم تبعه “بومبيو” يوم السبت الماضي بقوله إنه “لا تأخير أو ألعاب مرة أخرى، حان الوقت لكل دولة للاختيار بين الوقوف مع قوات الحرية أو الوقوف مع نظام مادورو وفوضاه”(20)، لكن بولتون لم يتبع خطا دبلوماسيا كعادته، وكان أكثر وضوحا عندما شرح باختصار أن الأمر متعلق بالنفط(21) وما يمكن أن يجلبه للولايات المتحدة.

في حديثه لقناة الأعمال بشبكة فوكس يوم الاثنين الموافق 28 من يناير 2019، قال بولتون إن الإدارة تخوض محادثات مع شركات النفط الأميركية الكبرى الآن العاملة في فنزويلا، أو الفنزويلية المالكة لحصص في السوق الأميركية كشركة “CITGO”، وهي شركة ضخ وقود أميركية تمتلك الحكومة الفنزويلية معظمها، وأنه سيكون من المفيد إن استطاعت الشركات الأميركية الاستثمار في فنزويلا واكتشاف واستخراج النفط هناك، وأضاف أن إدارة ترامب تعمل على الوصول بالحالة الفنزويلية الآنية لأفضل ناتج ممكن للولايات المتحدة واقتصادها.

يُمثّل التصريح إشارة بالغة الوضوح على تورط واشنطن الفعلي في دعم الانقلاب الناعم، على أفضل الظروف، أو تدبيره كاملا على أسوأها، ويُرجح الاحتمال الثاني خاصة بعدما نشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” مقالا(22) الجمعة الماضية توضح فيه أن تحرك “غوايدو” لتولي السلطة تم بترتيب على مدار الشهر الحالي مع أساطين إدارة ترامب: نائب الرئيس مايك بنس، ووزير الخارجية بومبيو، وبالطبع جون بولتون، أكثر من يفضل تغيير الأنظمة المناهضة للمصالح الأميركية، ومن يطلق على فنزويلا وكوبا ونيكاراجوا منذ زمن طويل مصطلحه الشهير “مثلث الطغيان اللاتيني” (Troika of tyranny).

في الملف الفنزويلي فإن توجهات ترامب وبولتون تتطابق بالكلية، فلطالما رأى ترامب أنه على الدول الغنية بالنفط أن تدفع ثمن الحماية الأميركية من نفطها، وهو ما صرح به علنا أثناء الثورة الليبية عام 2011، عندما قال إنه ينبغي لإدارة أوباما الذهاب لإنقاذ حيوات الليبيين واستئصال نظام القذافي بعملية عسكرية دقيقة، وبهذا ترتفع شعبية الأميركيين بين الثوار الذين سيسيطرون على البلاد، ومن ثم تطالب واشنطن بثمن هذه العملية أو 50% من النفط الليبي، وأضاف أن الثوار سيحبونهم لدرجة أنهم سيعرضون 75% من نفط البلاد للولايات المتحدة وليس نصفه فقط.

يتبنى بولتون وجهة نظر مماثلة كما أوضح في تصريحاته السابقة لفوكس، وهو يرى أيضا أن على ترامب إرسال قوات عسكرية لفنزويلا للإطاحة بمادورو وتأمين غوايدو، ورغم أن ترامب ليس متحمسا في الوقت الحالي للخيار العسكري تبعا لنقاط شعبيته المنخفضة بعد أطول إغلاق حكومي في تاريخ أميركا، فإن إرسال القوات الأميركية للحدود الفنزويلية ومن ثم للداخل ما زال خيارا على طاولته بالفعل، وقد ظهر بولتون مؤكدا ذلك على منصة غرفة المؤتمرات الصحافية في البيت الأبيض(23)، يوم الاثنين الموافق 28 من يناير 2019، وبيده مفكرته الشخصية مكتوب عليها “أفغانستان: نرحب بالمحادثات” و”5000 جندي في كولومبيا”، جملتان التقطتهما عدسة مصور وكالة أسوشيتد برس “إيفان فوتشي”، ويعتقد أن بولتون قد كتبها عمدا لتوجيه رسالة إلى نظام “مادورو”.

شارك بولتون في التحضير للانقلاب الناعم الحالي، ولأن ترامب كان مهتما دوما بفنزويلا منذ يومه الأول كرئيس، ووضعها على رأس جدول أعماله -مع إيران وكوريا الشمالية- طالبا إحاطة عن الدولة اللاتينية في اليوم الثاني لرئاسته، في ظل ذلك فإن الساحة كانت مهيأة بشدة لصقور البيت الأبيض لدفع خطتهم لتغيير نظام “مادورو” بعد انتخابات الرئاسة الفنزويلية منتصف العام الماضي، مايو/أيار، وقد اجتمع بعض مسؤولي الإدارة رفيعي المستوى في التوقيت نفسه مع قيادات في الجيش الفنزويلي في محاولة لتغيير تأييدهم لمادورو، ولكن هذه الخطة لم تنجح كثيرا على الأرجح.

لذا تم الدفع بخطة التغيير الناعم لطاولة ترامب، ثم بدأ التواصل مع المعارضة الفنزويلية عن طريق بولتون وبومبيو وبعض أعضاء الكونغرس أواخر ديسمبر/كانون الثاني المنصرم وأوائل الشهر الحالي، وتم تتويج هذه المجهودات بمكالمة هاتفية، بالليلة السابقة لإعلان غوايدو، من نائب الرئيس “بنس” للأخير أعلمه فيها بتأييد ترامب المطلق واعترافه به رئيسا إن قام بانتزاع الرئاسة بالإجراء الدستوري، وهي الليلة نفسها التي شهدت اجتماعا لبعض أعضاء إدارة ترامب، ومنهم بولتون، لتنسيق ما سيحدث في الحديقة الأميركية الخلفية بعد تنصيب مادورو رسميا كرئيس منذ قرابة ثلاثة أسابيع.

في هذه الأثناء، وبعد تعيين “إليوت إبرامز”، صديق بولتون الحميم والمعروف بـ “مساعد الوزير للحروب القذرة”، كمبعوث وزير الخارجية الأميركي لفنزويلا، ومع تاريخه الحافل في هندسة حربي نيكاراغوا والسلفادور وفضيحة إيران كونترا وغيرها، وتوجهات بولتون وصقورية بومبيو، مع كل ذلك فإن ذلك الثلاثي بات يُعرف في العاصمة الآن بـ “محور الشر” الخاص بترامب، وهو محور لن تتوقف بصماته غير السياسية عند فنزويلا على الأرجح.

برغم ذلك، فمن المرجح أن يطيح ترامب مستقبلا وقبيل انتخابات 2020 ببولتون من إدارته، ورغم أن ذلك يبدو للوهلة الأولى ترجيحا غير منطقي كون الانسجام الحالي لا يعطي إشارة على ذلك، فإن الإطاحة المحتملة ستأتي لأسباب عدة، منها تخلص ترامب من وجه سيجلب عليه متاعب إعلامية وشعبية لن تنتهي [بدأ بولتون في التسبب بذلك بالفعل]، ومنها صدام محتمل على الخلفية الروسية تحديدا، لكن السبب الأهم يكمن في شخص ربما يصعب هضم توقع تورطه في الإطاحة ببولتون، وهو بومبيو(24) نفسه.

بعكس بولتون، والذي لم يكن خيارا أولا أو حتى ثانيا لترامب في منصبه، فإن بومبيو لطالما مَثّل للرئيس الأميركي الفتى الذهبي القادر على حل المشكلات، وقد أكد بومبيو هذه القناعة لدى ترامب عندما وضعه الأخير على رأس الاستخبارات المركزية الأميركية في فترة وُصفت بأنها الأسوأ بين الرئيس والـ “CIA”. ففي تلك الفترة كان ترامب مقتنعا بشدة بأن الـ “CIA” تسعى لإسقاطه من خلال تسريباتها المتواصلة، لكن بومبيو نجح بعد تعيينه في تثبيت سفينة الاستخبارات وتهدئة الأوضاع بينها وبين البيت الأبيض، إلى حد وصفه من قبل بعض المعارضين لترامب وبعض العاملين بالسي آي إيه بأنه ذكي للغاية وعفوي.

فضلا عن ذلك، فإن بومبيو أقنع ترامب في عام واحد بتعيينه وزيرا للخارجية، ونجح في ذلك لأنه اكتشف مفتاح التعامل مع الرئيس -عكس معظم مسؤولي الإدارة السابقين- وهو العلاقة الشخصية، وبينما كان معظم أفراد الإدارة يتعاملون مع ترامب كرئيس تقليدي، كان بومبيو يستثمر في علاقته الشخصية معه أكثر من استثماره في عمله بشكل طبيعي.

وبينما يرى بومبيو في نفسه كما يرجح رئيسا مستقبليا، ويستغل عمله الجديد الذي سعى إليه كوزير للخارجية لبناء ذلك الميراث، فإنه سيصطدم لا محالة بالصقر شديد الحدة “بولتون”، والذي يسعى لإثبات راسخ، وللمرة الأخيرة على الأرجح في حياته المهنية، أنه يمكن لإدارة أميركية تبني اتجاهاته للتعامل مع الدول “المارقة” والعالم ومؤسساته، وأنها ليست اتجاهات متطرفة كما يُطلق عليها في نهاية المطاف، وسيكون ذلك الاصطدام بمنزلة مؤشر شديد الوضوح على مدى نجاعة بولتون من عدمها في إدارة الصراع المتوقع القادم، وهو صراع لا يمتلك فيه نسبة النجاة الوظيفية الأكبر على الأرجح.

الميدان