حصاد الصحوة.. متى تبرأ مصر من هذا البلاء؟

حصاد الصحوة.. متى تبرأ مصر من هذا البلاء؟

فتح اعتذار الداعية السعودي عائض القرني باسم “الصحوة”، عمّا اقترفه هذا التيار المنتج لفكر متشدد نظّر طيلة عقود لحتمية الصدام الدائم بين العقل والدين، الأبواب على مصراعيها للنظر والتحقيق في الحصيلة المكلفة التي أفرزها هذا التيار لا فقط في السعودية، بل أيضا في دول أخرى منها مصر التي ما زالت لم تبرأ بعدُ من بلاء المتبنين لفكر الصحوة كمرجع ديني، وذلك رغم كل الجرائم التي تسببوا فيها في مرات كثيرة بفتاواهم التي تجيز قتل معتنقي أديان أو طوائف أخرى كالشيعة والنصارى.

لا يسيء إلى أحد من يجاهر بالإفطار في نهار رمضان، هذا حقه في ممارسة حرية لا تمَسّ الآخرين، ولا تؤذي إلا المتنطّعين ضعاف الإيمان، وإن كان في سلوك المفطر قدر من الادعاء والتنطّع. وعقاب المفطر ألّا تنتبه إليه؛ فالتجاهل يطفئ فرحته بتحدي الشعور العام، وأما التحرش به عن طريق الاعتداء اللفظي أو البدني فيشبع ضعفا في شخصيته.

في شبه دولة غير مدنية، غير دينية وغير بوليسية تماما، تتطوّع الشرطة أو تسمح لمواطنين مرضى نفسيا يتظاهرون بالتديّن بأن يُخرجوا الشرطي الكامن في اللاوعي؛ فيعتدون على مسكين يفطر في رمضان ولو كان معه عذر “شرعي”، في حين “تبرّأ الذين اتُّبِعوا” في الحجاز من هذا التشدد، ففي الثالث من رمضان 1440 (8 مايو 2019) حمل خبر عابر للبحر الأحمر قرارا من وزارة الداخلية إلى عموم المملكة السعودية، وأبلغ به رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتضمّن “عدم المساس بأي شخص فاطر جهرا أو سرا طوال شهر رمضان المبارك احتراما لحقوق الإنسان التي يأمرنا الله بصونها ونظرا للقيم الإنسانية والأخلاقية وبناء على ما أتى في رؤية المملكة لـ2030 والتقدم والازدهار نحو الأفضل… سيتم إلغاء جميع القرارات السابقة والعمل بهذا القرار”.

بقرار حماية المفطر في رمضان، في منزل الوحي، تتأكد مقولة مأثورة تنسب إلى عثمان بن عفان “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”. وبقرارات ممهِّدة له، ذات نزوع إنساني، حدثت قفزة إلى الأمام، وأثارت غبارا جدليا طمس جهود أجيال راهنت على أن يؤتي التطرف ثماره في بيئته. والآن ونحن نتابع قرارات ملكية وأميرية تقطع جذور الشجرة هناك، نشهد استمرارا لثمارها هنا. العقاب الرسمي والمجتمعي للمجاهر بالإفطار في مصر مثال دالّ على ضعف المناعة المصرية، ويثبت الفشل في اختبار تحدي الشيطان.

في الخمسينات والستينات من القرن العشرين كان المجتمع عفيا، وتحول مناعته دون انزلاق يقترن فيه رفع قدم بغوْص الأخرى إلى الأعمق. وقد أضعنا فرصة أن يكون التطرف الوارد غواية، شيطانا للتمييز بين التشدد والسماحة التاريخية في مصر. ولعل هذا يفسره قول عباس محمود العقاد في كتابه “إبليس”، “يوم عرف الإنسان الشيطان كانت فاتحة خير… كانت معرفة الشيطان فاتحة التمييز بين الخير والشر، ولم يكن بين الخير والشر من تمييز قبل أن يُعرف الشيطان بصفاته وأعماله، وضروب قدرته، وخفايا مقاصده ونياته”. والآن يجب أن نمتلك شجاعة الاعتراف بانتصار الشيطان “في مصر”، وأخشى أن يكون قد انتصر “على مصر”، ولهذا الانتصار المؤقت مظاهر وتجليات.

حتى عام 1989 كنت أحتفظ بآثار تربية إخوانية وسلفية من الحجاز، وأخافتني فتنة المسيح الدجال، والْتمست الطمأنينة من الشيخ محمد الغزالي، وسألته فنفى بغضب هذه الخرافة التي بلغت لدى المسلمين مرتبة العقيدة، ولو أنها حقيقة لذكرها القرآن الذي تناول تفاصيل صغيرة كتوثيق الديْن، واستئذان الطفل قبل الدخول على أبويه. ولم يكن الغزالي حيا ليسمع مفتي مصر السابق علي جمعة يؤكد أن “فتنة المسيح الدجال أخطر فتنة سيتعرض لها البشر”.

عالمنا الذي لا ينقصه المزيد من مشكلات قد تمحو الأرض لا أظنه مشغولا بالمسيح الدجال، وإن ظل الشيخ يجهد نفسه، للتدليل على أن الدجال خُلق قديما، مثل إبليس، وأنه سمّي المسيح، لأنه ممسوح العين، وبقي الخلاف حول العين الممسوحة، فالروايات ذكرت أنها اليمنى، “وفيه روايات صحيحة أيضا أنها العين الشِّمال”.

البحث عن الدجال قاد المفتي غير المتقاعد إلى مشكلات تؤرقه وحده، فيشغل بها البرامج التلفزيونية، فيؤكد أن يأجوج ومأجوج «أقوام من البشر.. قبائل موجودة في أرمينيا».

وفي برنامج تلفزيوني آخر يقول إن يأجوج ومأجوج قبائل في أرمينيا، وهم محصورون بين سلسلة من الجبال، وراء سدّ حديدي طوله 100 متر وعرضه 30 مترا، وإنهم «ناس عاديون، ولكن فقراء جدا… خروجهم سيكون ثورة جياع وثورة الجياع فتنة كبيرة… الباب الحديدي موجود فعلا وصوّروه».

ولا أتصور كيف تعجز أجيال من هؤلاء البشر الافتراضيين عن عبور ذلك السور الخرافي؟ ولماذا تهملهم دولة أرمينيا، ولا ترحمهم منظمات الإغاثة الدولية؟ ولكن وجودهم الوهمي يُلهي الشيخ علي جمعة عن 60 ألف مصري وراء الأسوار، وفقا لتقارير لا تنفيها الجهات الرسمية ولا تؤكدها، ومن بين هؤلاء سجناء رأي، ومعتقلون رهن حبس احتياطي غير دستوري، فلم تصدر بحقهم أحكام قضائية ولم توجه إليهم اتهامات. ويعلم من له اطلاع محدود على الحديث النبوي أن ظلم الأبرياء أولى بالاهتمام من كائنات محجوبة وراء سراب يجسّده خيال الشيوخ سدّا حديديا في أرمينيا؛ لأن سجين الرأي مظلوم، ودعوة المظلوم “ليس بينها وبين الله حجاب”، كما روى الشيخان عن ابن عباس.

بوهم “الدعوة” اُحتفي بالخرافات في مصر، وتلاها ترغيب في الفضائل، ومن طيات الكلام الغيبي تسربت شبهات ترهيب ترفع درجة حرارة الدماء لدى أغرار يظنون أن الله لم يهدِ سواهم، وأنه أنابهم لتطبيق “الشرع”.

وفي إحدى الصرعات الدينية أفتى أزهري يحمل لقب “الدكتور” باغتيال أنور السادات، وبعد نحو 25 عاما اعتذر البعض من القتلة، بعد فوات الأوان من دون أن يمنحهم القتيل عفوا يطمئن قلوبهم إلى أنهم كانوا على الحق المبين. ولم تتوقف فتاوى قتل نجا من إحداها نجيب محفوظ عام 1994، بعد أن أصابت قبل عامين فرج فودة، ولم يعدم قاتله تسويغا من محمد الغزالي في شهادته بالمحكمة، إذ أدان القتيل وأعاد اتهامه بأنه “كافر ومرتد… ويجوز أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها، وإن كان في هذا افتئات على حق السلطة، ولكن ليس عليه عقوبة”.

وبهذا الصكّ الغزاليّ أيقن القاتل أبوالعلا عبدربه أنه مبعوث من الله لتنفيذ القصاص في المارقين، وأن السجن ابتلاء، ضريبة يشكر الله عليها بالمزيد من القتل. وحين حكم الإخوان مصر خرج القاتل أبوالعلا عبدربه من السجن، ولم يعتذر، وقال في لقاءات تلفزيونية إنه نفّذ شرع الله في فرج فودة، بعد أن كفّره “العلماء”. ثم قتل في سوريا في مارس 2017، صريعا في سبيل “الصحوة”.

حتى وقت قريب كان إمام الحرم المكي يدعو بهلاك الشيعة والنصاري. وباسم الصحوة في مصر قتل شيعة وجرى التمثيل بجثثهم، واعتدي على مسيحيين “أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله”. ويُغضّ الطرف عن هذه الجرائم، لانشغال الصفحة الفيسبوكية لدار الإفتاء بالرد على أسئلة سخيفة يفترض أن يعرض صاحبها على طبيب نفسي، بدلا من الإجابة عن حكم أداء العمرة في رمضان. ويفتي شيخ في التلفزيون ببطلان صيام من يدخل الماء دبره من شطاف الحمام، “وهو قول جمهور العلماء” باستثناء المالكية. ويجيب آخر عن حكم معاشرة الروبوت صوفيا.

بعد هذا الحصاد، ليتهم يستردّون (الصحوة)، بضاعتهم المسمومة، لنستعيد مصر التي اخترعت الدين، في مناجاة أخناتون، وقبله في متون الأهرام، وقبلها في آثار “تحوت”، رب الحكمة ومخترع الكتابة قبل أكثر من ستة آلاف عام، وقد اتخذته جامعة القاهرة شعارا لها: الإله هو الواحد الصمد، لا يشوبه نقص، هو الباقي دوما، هو الخالد أبدا، هو الواقع الحق، المطلق الأكمل الأسمى، هو

جماع الأفكار التي لا تدركها الحواس ولا تدركه المعرفة مهما عظمت. وبهذه الإشراقات يكون حسن الختام، أملا في الحلم بتحرير مصر من قبضة «الصحوة».

العرب