إشكالية المثقف والحراك الشعبي في العراق

إشكالية المثقف والحراك الشعبي في العراق

من فضائل انتفاضة الأول من أكتوبر/تشرين الأول، أنها كشفت غطاء ثقافياً ثقيلا شاء المثقف العراقي أن يحيط نفسه به طيلة الأعوام، التي أعقبت التغيير السياسي عام 2003، فقد كان دائم البحث عن تجليات الحداثة الأوروبية وما بعدها، في إطار الأدب، وفي اشتغالات الخطاب الثقافي، مقابل ذلك لم يسع لأن تكون حداثة مشروعه الثقافي في حالة تفاعل مع مجتمعه، بالشكل الذي يبتكر آليات وسبل تجذر العلاقة بينه وبين الحياة وقواها المجتمعية الفاعلة.

ماعاد قوة طليعية

من خلال هذا السياق نستشف عزلة حقيقية تعيشها النخب المثقفة، وهذا يتقاطع مع دورها التاريخي الذي عرفت به منذ ثلاثينات القرن الماضي، فقد كان المثقفون العراقيون قوة طليعية في الحراك المجتمعي، إضافة إلى ما كان يشغلهم من هواجس على مستوى تأكيد تطلعاتهم التحديثية، في إطار الأشكال والأساليب الفنية.
واقع المثقف العراقي اليوم يشير إلى إشكالية مشروعه الثقافي، هذا إذا افترضنا أن هناك مشروعا، خاصة بعد أن اصطبغ موقفه العام بصور من الانتهازية والوصولية، أزاء لهاثه نحو السلطة، من بعد أن نجحت في شراء طيف واسع منهم، وأغدقت عليهم امتيازات ورواتب تحت عناوين الجهاد والنضال السياسي.
المثقف الذي يتحرك في منطقة الناقد والكاشف لخطاب السلطة، الذي لا يتزحزح عن ثوابت موقفه المبدأي، ما عاد متاحا له الظهور في ظل نظام ثيوقراطي، والغالبية من النخب المثقفة، لم تعد معنية في أن يكون دورها منخرطا في مسار المساهمة بتغيير الواقع، وهذا يعكس عزلة حقيقة تمنعهم من رؤية حجمهم وتأثيرهم في الوجود الاجتماعي، ومن الواضح أنها تفاجأت بما عبّر عنه الشارع العراقي من حالة الغضب، في الأول من أكتوبر، أزاء الأوضاع العامة، وكان رد فعلها متشابها مع رد فعل السلطة، التي أصيبت هي الأخرى بالصدمة.

ثقافة السلطة

أما بخصوص الموقف الرسمي للثقافة العراقية، معبرا عنه من خلال وزارة الثقافة، فهو لم يخرج عن منظومة خطاب السلطة، التي تقمع وبقسوة المتظاهرين منذ اليوم الأول لخروجهم إلى الشارع، وهذا ليس غريبا، لأن وزير الثقافة عبد الأمير الحمداني جاء مرشحا عن ميليشيا عصائب أهل الحق، وهذا التنظيم سجله يخلو من نقطة بيضاء في تعامله مع أي صوت يختلف معه، أو مع النظام، وسبق أن أثيرت حوله شبهات تتعلق بموضوع اختطاف عدد من الناشطين والصحافيين في مقدمتهم جلال الشحماني، والمخرج المسرحي هادي المهدي، والصحافية أفراح شوقي، ومن هنا نستطيع فهم الرسالة التي وجهها وزير الثقافة إلى الأدباء والفنانين عندما التقى بهم يوم الأحد 3/ 11/ 2019 في مكتبه في مبنى الوزارة، وحضر الاجتماع نقيب الفنانين جبار جودي، ورئيس اتحاد الأدباء ناجح المعموري، ومعهم عدد من أعضاء المجلس المركزي. وقد عبر عدد من الأدباء عن غضبهم من عقد هذا الاجتماع، فكتبت القاصة عالية طالب «من خوّل السادة الذين حضروا اللقاء بالذهاب، هل هناك أكثر من اتحاد الآن في العراق؟ واحد يتظاهر بالتحرير وآخر يضحك متضامنا مع مؤسسة رسمية لا يريدها الشعب!»، وهذا يعني أن هناك هوة قد حصلت بين أعضاء الاتحاد أنفسهم، فانقسموا في مواقفهم وردود أفعالهم، وهذا جزء من تداعيات ما يجري في الساحة العراقية، فالشعب اقترب أكثر من أي فترة من توافقه على موقف واحد بكل عناوينه الدينية المذهبية، بينما حال المثقفين يميل إلى الانقسام والمواجهة في ما بينهم، وهذا يشير إلى أن النخبة الثقافية فقدت بوصلة انتمائها الاجتماعي، وانطوت في موقفها مندرجة تحت عباءة خطاب السلطة. ما قيمة وزير للثقافة عندما يكون شاهد زور على جريمة إبادة جماعية ترتكب بحق الشعب؟ فالتزام السكوت جريمة، ولن يشفع له أي بيان يحاول فيه أن يمسك العصا من المنتصف.

الثقافة العراقية في هذه اللحظات برموزها ونخبها أمام امتحان عسير، يفرض عليها أن تكون على درجة عالية من الوضوح في موقفها الأخلاقي، فينبغي أن لا تتنحى عن الطريق وتسكن في لحظة غياب تختارها بنفسها

الاختباء خلف أقنعة الكلمات

الثقافة العراقية في هذه اللحظات برموزها ونخبها أمام امتحان عسير، يفرض عليها أن تكون على درجة عالية من الوضوح في موقفها الأخلاقي، فينبغي أن لا تتنحى عن الطريق وتسكن في لحظة غياب تختارها بنفسها، عليها أن تخرج من هذه الغيبوبة، وتغادر شرنقة لغتها الفضفاضة، وأن لا تلجأ إلى التلاعب بالكلمات وإلاّ ستكون في موقف المتواطئ مع من يمارس كل أنواع الانتهاكات بحق المتظاهرين. ليس مطلوبا من المثقف أن يحمل السلاح في زمن تستأسد فيه قوى عمياء لا تحمل في جعبتها إلا الرصاص، ويتوجب عليه أن لا يختبئ خلف أقنعة تتيح له اللعب على أكثر من حبل. كان على المشتغلين في الثقافة العراقية أن يتأملوا بعمق طبيعة الحراك الذي يجري في الشارع العراقي، وأن يخرجوا بأسئلة جديدة يطرحونها على أنفسهم، بعد أن وجدوا جيلا جديدا لم تتجاوز أعماره العشرين عاما قد نفض عن نفسه ما تراكم من غبار فوقه، بفعل منظومة ثقافية طائفية، وحدد تطلعاته بوضوح، بعيدا عن دستور المحاصصة الذي وفَّر المنافذ لتمزيق المجتمع إلى أقليات متصارعة.

غياب المثقف الناقد

أزاء الحال الذي بدت عليه المؤسسات والنخب الثقافية، هل يستدعي هذا إعادة النظر بتعريف المثقف مرة أخرى، وما الذي يمكن أن نتوصل إليه من تعاريف جديدة، ومدى ارتباطها مع القضية العراقية وما ستفرزه من مآلات، سواء نجحت الانتفاضة، أم تعسّر طريقها، ومن الأجدى أن نقف عند الوظيفة الأكثر بروزا للمثقف في كل الأزمنة، باعتباره من يحمل راية النقد والرفض بوجه السلطة بمعناها المطلق، بكل أوجهها السياسية والدينية والاجتماعية، هنا يتمحور الدور الفاعل للمثقف ومن خلاله يؤسس لمشاريعه الثقافية في حقوله الاختصاصية.
نحن اليوم أمام صورة محبطة للمثقف، بعد أن تخلى عن دوره النقدي وانشغل بمصالحه الذاتية، واختار لنفسه أن يبقى في ملعبه التنظيري، الذي لا يخرج عن إطار الوظيفة النخبوية للثقافة في بعدهـــا البورجوازي، وهذه المساحة العائمة تتيح له أن يسبح في كل الاتجاهات، حســـبما تميل الريح القــــوية فيتفـــادى مواجهتها، مايزال الصوت الغالــــب يبدو استعراضيا فارغا، معبأ بالكلمات الملتوية، لا يحمل في خطابه مشروعا نقديا يتوافق مع حراك الناس في الشارع، وينقض في الوقت نفسه خطاب السلطة ومنظومتها الثقافية، مايزال يتعكز على لغة يسرح بها بعيدا عن إصابة الموضع، لأنه يضع في حساباته خطة التراجع.