تشير تطورات المشهد السياسي في العراق إلى أن أفق الخروج من المأزق الحالي الذي وصلت إليه الطبقة السياسية ما يزال بعيدا في ظل تصلب مواقف الأحزاب التي لم تتحلّ بعد بالشجاعة للابتعاد عن سلطة طهران عليها، إلى جانب عدم توافق الحسابات السياسية والمصالح مع إرادة المتظاهرين.
بغداد – أضافت رسالة رئيس الجمهورية برهم صالح للبرلمان فصلا جديدا للمأزق الذي وصلت إليه الطبقة السياسية، حيث وضعتها انتفاضة أكتوبر أمام خيارات أبسطها تقديم تنازلات عن البعض من مكاسبها. لكن تلك الأحزاب ومن خلال مواقفها المتواصلة، لا تتجرّأ على الدخول في طريق إبعاد الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي.
ولهذا، حين حاصرهم موقف رئيس الجمهورية برفض ثلاثة مرشحين، أوكلوا لأكثر الزعامات امتلاكا للسلاح خارج إطار القانون، مثل (قيس الخزعلي) مهمة المواجهة الاعلامية، حيث طالب برهم صالح بالاختيار ما بين “الإقالة أو الاستقالة”، فيما طالبت كتلته الموالية لإيران (البناء) في رسالة رسمية البرلمان، باتخاذ الإجراءات القانونية ضد الرئيس لأنه لم يخضع إلى الابتزاز الإيراني بإجباره على قبول آخر مرشح لرئاسة الوزراء (أسعد العيداني) وهو نائب رئيس حزب المؤتمر الوطني بزعامة آراس حبيب المعاقب من قبل وزارة الخزانة الأميركية لدعمه الإرهاب.
وعلى المستوى القانوني، ليس من السهل على القوى السياسية داخل البرلمان ومنها البناء، محاسبة رئيس الجمهورية أو إقالته. وقد فسر الكثير من القانونيين تعقيدات وصعوبة ذلك. ووصف الخبير القانوني طارق حرب آليات إعفاء رئيس الجمهورية، وفق المادة 61 من الدستور، بأن “تتم عبر طلب يحدد أسباب الإعفاء وفق أغلبية عدد الأعضاء وليس أغلبية الحضور إذا حنث باليمين الدستورية أو انتهك الدستور أو بسبب الخيانة العظمى، بحيث يتم تصويت النواب على ذلك، ثم تحال المسألة إلى المحكمة الاتحادية العليا لكي تتولى إصدار حكم الإدانة على الرئيس، ثم يقرر مجلس النواب مجددا ذلك بأغلبية الأعضاء ويتم إعفاؤه وليس إقالته أو سحب الثقة منه”.
ولهذا، فإن كتلة هادي العامري تعرف هذه الحقائق الدستورية لكنها تناور بهذه القضية كجزء من معركة الإذعان لبرهم صالح، لكي ترغمه على الانصياع لرغباتها معتقدة بأنها ومن خلفها إيران هي التي جاءت به وهي القادرة على خلعه إن خرج عن الطريق.
وقد استغرب الكثير من المتابعين، وبينهم قريبون من العملية السياسية، من التغافل عن المتغيّرات الواضحة والتي غيرت قواعد اللعبة وطرحت قوانينها الجديدة، وإضافة لاعبين مؤثرين إلى المشهد القائم، حسب رأي فرهاد علاءالدين رئيس المجلس الاستشاري العراقي.
على المستوى القانوني ليس من السهل على القوى السياسية داخل البرلمان ومنها كتلة البناء محاسبة رئيس الجمهورية أو إقالته
وخلّف استمرار التظاهر والاعتصام بوتائر متصاعدة، بعد عمليات القتل والخطف والإخفاء القسري للناشطين المدنيين العزل وبحصيلة إجمالية بلغت نحو 520 شهيدا وأكثر من 20 ألف جريح بينهم 1900 معاق خلال 80 يوما، جوّا سياسيا متوترا وناقما على مستوى الشارع القابل للانفجار بين ساعة وأخرى، إضافة لانفراط العقد السياسي وانسحاب بعض الكتل والأحزاب من الائتلافات السياسية المعلنة.
ووفق المعطيات السياسية الحالية المرتبكة، وبحسب مراقبين، هناك سيناريوهان اثنان يتقدمان على غيرهما في اللحظة الراهنة.
ويتوقع السيناريو الأول وصول الأمور إلى تقاطعات شديدة منشأها عدم استسلام كتلة البناء لمطالبات الشارع المنتفض بضرورة ترشيح شخص مستقل عن الأحزاب يدير حكومة مؤقتة ويحضّر لانتخابات مبكرة يرافقها صمود رئيس الجمهورية برهم صالح بوجه الضغط والابتزاز الإيراني الذي كشف عنه رئيس إقليم كردستان نيجيرفان البرزاني، والذي يرى مطلعون بأنها مجاملة سياسية أكثر منها حقيقية، إلى جانب إصرار كتلة سائرون على مواقفها المعلنة.
وفق ذلك، تضغط كتلة البناء لتمرير طلب إعفاء رئيس الجمهورية من منصبه، وقد تحضّر ضدّه لائحة مخالفاته للدستور، وترفعها بعد موافقة البرلمان إلى المحكمة الاتحادية، ليغطي المنصب محله رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي وهو الرقم الثالث الذي تبقّى لإيران. وبذلك تدخل البلاد في فوضى بعد أن تكررت انتهاكات تلك الأحزاب للدستور.
فيما يتوقع السيناريو الثاني الدخول في مزاد الصفقات مجددا والذي اعتادوا عليه مخرجا لأزماتهم خلال السنوات السابقة. لكن الطريق ليس سهلا هذه المرة في ضوء أضخم مستجد وهو الانتفاضة التي رفض شبابها وناشطوها لحد اللحظة الدخول في مسرح المساومات السياسية، إضافة إلى أن ما سارت عليه كتلة سائرون قبل الأول من أكتوبر الماضي في المناورة واستخدام الشارع لتقوية مواقفها، قد انتهى الآن.
وتعد الدعوة إلى تجديد تكليف رئيس الوزراء المستقيل عادل عبدالمهدي برئاسة الوزراء مدخلا من مداخل الصفقات الجديدة. وقد عبّر عن هذه الرغبة عضو الحزب الديمقراطي الكردستاني ماجد شكالي في تحدّ صارخ لإرادة المنتفضين بإقالته. وقد سارعت كتلة سائرون إلى وصف الأمر بأنه عملية تضليل للرأي العام والتفاف على إرادة الشعب.
وتسربت أخبار من داخل أوساط الأحزاب السياسية تفيد بأنها تجري حوارات للخروج بمرشح جديد يحقق رضا لدى الجمهور. وصرح النائب بدر الزيادي من كتلة سائرون “أن الساعات القادمة ستشهد تهدئة من قبل الكتل السياسية لتدارك الوضع من الانزلاق، ومحاولة لملمة الوضع من قبل جميع الأطراف لتهدئة الشارع وينتهي هذا المشهد الشائك وفق ما تريده المرجعية والمتظاهرون”.
من جانبها، تتحرك القوى المقابلة لكتلة البناء والتي تضم عددا من الكتل وعلى رأسها سائرون، لاختيار مرشح لرئاسة الوزراء يصادق عليه رئيس الجمهورية.
وأعلن أسعد المرشدي عن تيار الحكمة “أن الكتل المعارضة وهي الحكمة وسائرون والوطنیة والنصر ستتحرك من أجل اختیار رئیس وزراء مستقل بعد التفاوض مع البناء والقوى السنیة الأخرى”.
وأوضح المرشدي أن “الوضع لن یتحمل المزید من التـأخیر وسیتم حسم جمیع القضایا الخلافیة الأسبوع المقبل بضمان تكلیف رئیس الوزراء الجديد”.
ورغم ذلك، فهذه التصريحات والمواقف الإعلامية لا تزيل قلق الشارع العراقي من إصرار كتلة “البناء” الموالية لطهران على مواقفها المعادية لإرادة المنتفضين، بل هي تواصل توجيه الرسائل المتعددة للإيحاء بأنها ما زالت الماسكة بخيوط اللعبة السياسية، رغم انكشاف خيوط تبعيتها المطلقة لإيران.
ووفق مراقبين سيقود هذا التصلب القوى الأخرى خصوصا كتلة مقتدى الصدر إلى الدخول بتفاهمات جديدة على حساب دماء الشهداء والمنتفضين الذين يتوقع تصعيدهم للحملة ضد الطبقة السياسية الفاسدة والقاتلة.
العرب