قال الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن التفاهمات البحرية والأمنية أخيرا مع ليبيا أنهت مفاعيل معاهدة سيفر التي وقّعت قبل مائة عام، وأجبرت القيادة التركية على التنازل عن معظم الولايات التي كانت خاضعة لسيطرة الدولة العثمانية، وفرضت حتى ما يشبه الوصاية الأجنبية عليها، علماً أن التفاهمات مع ليبيا شملت ترسيم الحدود البحرية المشتركة، ما أعطى تركيا نفوذاً كبيراً شرق المتوسط، كما شملت مساعدة أنقرة حكومة التوافق الشرعية، بما في ذلك إرسال قوات ومعدات عسكرية لدعمها أمام المتمرّد خليفة حفتر ومرتزقته، في سابقةٍ تحدُث لأول مرة، بمعنى التدخل العسكري خارج نطاق عمليات حلف شمال الأطلسي (الناتو) أو خارج نطاق المحيط الأمني المباشر في قبرص التركية والعراق وسورية.
وعلى الرغم من أن تركيا القديمة، بنخبتها الأتاتوركية العسكرية، كانت قد تدخلت في قبرص الشمالية (التركية) في سبعينيات القرن الماضي، ثم وقّعت في التسعينيات اتفاقيات ومعاهدات مع سورية والعراق للدفاع عن أمنها ومصالحها في مواجهة الإرهاب، ولكن ذلك كله في نطاق وعمق جغرافيين محدّدين، إلا أن تركيا الجديدة تتصرّف بشكل مختلف، كونها تدافع عن مصالحها في نطاقها الجيوبوليتيكي الواسع، ولم تعد محصورةً ضمن أراضيها أو دفاعاً عن حدودها بالمعنى المباشر للكلمة.
كانت معاهدة سيفر (1920) قد فرضت ما يشبه الاستسلام على الخلافة العثمانية، على الرغم
“تبدو تركيا في الجانب الأخلاقي التاريخي والسياسي الصحيح تجاه قضايا العرب والمسلمين، والمظلومين في العالم”من المعارك البطولية في فلسطين والعراق ومناطق عربية وإسلامية أخرى، وأجبرتها على التنازل عن ولايات وحواضر عربية وإسلامية كانت خاضعة لسيطرتها، ودعت إلى استقلال كردستان، كما أعطت جزرا وأراضي تركية لليونان، وفرضت حتى ما يشبه الوصاية الأجنبية على المضائق والممرّات البحرية والدولة بشكل عام.
لم تكن المقاومة العالية التي أبداها المواطنون الأتراك والمتطوعون العرب والمسلمون، تحت لواء الخلافة، قد حلّت أو يتم الإعلان عن الدولة التركية، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، أدت إلى إيقاع الهزيمة بالغزاة المحتلين البريطانيين والفرنسيين واليونانيين، وسمحت بتحسين موازين القوى وتعديل نسبي لمعاهدة سيفر عبر معاهدة لوزان (1923) التي رسمت حدود تركيا الحالية بدون أي وصاية أجنبية، مع خروج قوات الاحتلال منها، ولكن مع العزلة أو منعها من النفوذ والحضور في مناطق الخلافة التي تم تقسيمها وفق معاهدة سايكس – بيكو بين إنكلترا وفرنسا، بما في ذلك اغتصاب فلسطين وتأسيس إسرائيل التي كان السلطان عبد الحميد الثاني قد رفضها، على الرغم من الاستعداد الصهيوني لحلّ مشكلاته وأزماته، مفضّلاً قطع يده، وعدم التنازل عن فلسطين.
تماهت معاهدة لوزان التي أسست الدولة التركية الحديثة مع رغبة مصطفى كمال أتاتورك في الابتعاد عن المحيط العربي الإسلامي، والانخراط في المنظومة الغربية فكرياً وثقافياً، ضد رغبة المجتمع، مع عزلة محلية وعدم الانضمام إلى المحاور أو التدخل في الأزمات والملفات السياسية الخارجية.
انتهى ذلك نسبياً مع وفاة أتاتورك (1938) وبداية انفتاح داخلي وخارجي، قاده عصمت أينونو الذي ترأس الوفد التركي إلى لوزان، أنهى سيطرة الحزب الواحد، كما عقودا من الاستبداد والقمع الداخلي الفكري والثقافي وأسس النظام الديمقراطي البرلماني التعدّدي، ما سمح بفوز عدنان مندريس في أول انتخابات تعدّدية مطلع الخمسينيات، بالتوازي مع التمسّك بالمعاهدات الدولية الموقّعة، وعدم الاهتمام بالمحيط العربي الإسلامي، أو إبداء الرغبة في التدخل في أيّ من الأزمات العالمية. وكانت عضوية “الناتو” بمثابة استثناء في هذه المرحلة، وتعبير عن تأمين البلاد في خضم الحرب الباردة، ثم استخدمتها تركيا القديمة ونخبتها لتشديد هذه النخبة قبضتها الداخلية وانخراطها ضمن المنظومة الغربية، ليس فقط ثقافياً أو فكرياً، إنما سياسياً وأمنياً أيضاً.
مع تأسيس حزب العمال الكردستاني التركي (1984) وتبنّيه أفكارا انفصالية، وإعلانه الحرب على الدولة، ومن ثم تصنيفه إرهابياً، عقدت تركيا القديمة الأتاتوركية بالوصاية العسكرية اتفاقين مهمين مع سورية والعراق، لمحاربة الحزب داخل أراضي البلدين. ولكن باعتبار ذلك جزءا من الدفاع عن الأمن القومي بشكل مباشر، وبموافقة وتغطية من “الناتو” والغرب، ولم يعبر عن أي اهتمام بقضايا البلدين أو رغبة في الانفتاح على العالم العربي والإسلامي، واستئناف الروابط معه، والتدخل في أزماته ومشكلاته.
كالعادة، بدأت سيرورة أو نواة تركيا الجديدة مع رئيس الوزراء، ثم الرئيس فيما بعد، تورغوت
“تركيا تحتل المركز الثالث عالمياً على مستوى تقديم المساعدات الخارجية، والأولى قياساً إلى دخلها القومي”أوزال (1983 – 1993) الذي كسر عزلة تركيا القديمة، وعزّز الانفتاح الداخلي، منهياً القمع الثقافي والفكري، مع الإقرار بدور الإسلاميين، الاجتماعي والسياسي، ثم قاد الانفتاح الخارجي على المحيط الإسلامي، ولكن باتجاه آسيا الوسطى وجمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق (المسلمة والتركية)، وطبعاً من دون ممانعة من الغرب وأوروبا وأميركا وحتى النخبة الأتاتوركية في تركيا القديمة. ولم يكن غريباً أن يستمرّ الأمر مع رئيس الوزراء، نجم الدين أربكان (1996) الذي واصل الانفتاح تجاه دول عربية وإسلامية، ودعا إلى تأسيس مجموعة الثماني الإسلامية (زار ليبيا أيضاً ضمن أول جولة خارجية له)، لكنه دفع الثمن مباشرة، وكان ذلك من أسباب الانقلاب الناعم عليه، وإجباره على الاستقالة 1997، ثم اعتزال العمل السياسي بعد محاكمته والحكم عليه بالسجن، ومنحه العفو لظروفه الصحية وتقدّمه في العمر.
غير أن تركيا الجديدة انطلقت عملياً مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في العام 2002، واستمرت سيرورة قيامها وتأسيسها عقدين تقريباً، وبلغت الذروة مع كسر معاهدة سيفر عبر التدخل العسكري في ليبيا وشرق المتوسط بشكل عام. وكانت البداية بفعل إيجابي، تبدّى في رفض التدخل تحت العباءة الغربية، وعدم الانخراط في الغزو الأميركي غير الشرعي للعراق (2003)، على عكس ما فعلت إيران مثلاً.
ثم كان الانفتاح الاقتصادي عبر طرح فكرة سوق المائة مليون نسمة، كما كان يسميها الرئيس أردوغان، والتي ضمّت تركيا وسورية ولبنان والأردن، مع حرية حركة للمواطنين والبضائع، غير أن اندلاع الثورة السورية وتبنّي نظام الأسد الخيار العسكري ضدّها أثّر على الفكرة، خصوصا مع مركزية موقع سورية رابطا بريا مع الأردن ولبنان، على الرغم من استمرار حرية حركة المواطنين جواً معهما، والتوصل إلى اتفاقية تبادلٍ تجاري حرّ مع الأول الذي تعرّض لضغوط، كي ينهى العمل بها، قبل أن يتم التوصل أخيراً إلى تفاهم جديد للتعاون الاقتصادي بين البلدين.
بعد الثورات العربية، ازداد انخراط تركيا في العالم العربي، مع دعم فكرة التغيير السلمي الديمقراطي وحق الشعوب العربية في تقرير مصيرها، وحُكم نفسها بنفسها، ثم جرى التدخل الفعلي في سورية عبر ثلاث عمليات عسكرية، تم إدراجها ضمن حماية الأمن القومي ومحاربة الإرهاب، ومنع تأسيس كيان إرهابي على الحدود، يؤثر سلباً بشكل مباشر على المصالح الحيوية القومية، ويقيم ما يشبه العازل الذي يمنع التواصل مع المحيط العربي والإسلامي.
على الرغم من كل ما سبق، لم يتحدث الرئيس أردوغان عن تجاوز معاهدة سيفر، إلا بعد
“الموقف التركي المتقدّم من القضية الفلسطينية، مع خطوةٍ لم تنل الاهتمام اللازم، تتمثل في تسليم الأرشيف العثماني للسلطة الفلسطينية”التفاهمات مع ليبيا التي عزّزت الحضور التركي في شرق المتوسط، كما سمحت بالتدخل العسكري بشكل فعلي، بعيداً عن الحدود أو البعد المباشر للأمن القومي التركي بشكل عام.
كان الوجود في شرق المتوسط قد بدأ أصلاً قبل ذلك، بتصنيع سفن للتنقيب عن النفط مع بوارج وفرقاطات حربية لحمايتها. وهو أمر لم يكن ممكناً في الماضي، ثم مع التفاهم البحري الليبي باتت تركيا قوةً مهيمنةً في المنطقة. ومن هنا، جاء استحضار الرئيس أردوغان القائد العسكري قائد الأسطول البحري العثماني، خير الدين بربروس، في سياق التأكيد على كسر معاهدة سيفر والوصاية الأجنبية على السياسات التركية داخلياً وخارجياً.
وقد أثبت إرسال قوات إلى ليبيا أن تركيا لن تدافع عن مصالحها فقط، إنهما ستكون حاضرة كذلك لمعالجة الأزمات الإقليمية وحلّها، دفاعاً عن قناعاتها وثوابتها ومبادئها. وفي الوقت نفسه تقريباً، جرى الاحتفال بتشغيل خط السيل التركي – الجنوبي، والذي ينقل الغاز الروسي إلى أوروبا بعد افتتاح خط مماثل (تاناب) كي ينقل الغاز الأذري أيضاً إلى القارّة العجوز، ما يحوّل تركيا إلى مركز لتوزيع الطاقة، حيث لم تعد مستهلكاً، وإنما مصدّراً أيضاً.
ليس بعيداً عما سبق، يمكن الحديث عن تقديم المعونات والمساعدات الاقتصادية، والمنح الدراسية لآلاف الطلاب والباحثين من مناطق عربية وإسلامية ممتدة عبر العالم الثالث، حتى إن تركيا باتت تحتل المركز الثالث عالمياً على مستوى تقديم المساعدات الخارجية، والأولى قياساً إلى دخلها القومي.
لا بد من الإشارة إلى الموقف التركي المتقدّم من القضية الفلسطينية، مع خطوةٍ لم تنل الاهتمام اللازم، تتمثل في تسليم الأرشيف العثماني للسلطة الفلسطينية، ما يساعد الفلسطينيين في معركة الصمود والتمسّك بالأرض والأملاك والثروات في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وثمّة الموقف المتقدم نفسه نراه في الصومال، كما في قضايا المسلمين المضطهدين (الأيغور والروهينغا) في الصين وبورما. وعموماً، تبدو تركيا في الجانب الأخلاقي التاريخي والسياسي الصحيح تجاه قضايا العرب والمسلمين، والمظلومين في العالم بشكل عام. لقد أنهت عملياً مائة عام من العزلة عن محيطها والعالم الخارجي، مع الانتباه إلى أن السيرورة في بدايتها. وسيتكرّر المشهد الليبي حتماً في مناطق أخرى من المنطقة والعالم.
ماجد عزام
العربي الجديد