في الخامس من كانون الثاني /يناير الفائت، صوت مجلس النواب العراقي ، على قرار يطالب الحكومة بإنهاء التواجد العسكري الأجنبي على أراضي البلاد، وتقديم شكوى رسمية إلى مجلس الأمن ضد الولايات المتحدة لـ”انتهاكها سيادة العراق”. وجاء القرار على خلفية الغضب المتصاعد في العراق بسبب الغارات الأمريكية، التي جرت خلال الأيام الأولى من ذلك الشهر، وأدت إلى مقتل قائد “فيلق القدس” الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس “هيئة الحشد الشعبي” أبو مهدي المهندس، ومقاتلين آخرين من الحشد.
خطوة دفعت الولايات المتحدة للمضي في دراسة احتمال قطع المساعدات العسكرية للعراق، حيث تفكر الولايات المتحدة الأمريكية في إعادة النظر بالمساعدات العسكرية للعراق إذا قررت بغداد إنهاء الوجود الأجنبي على أراضيها. وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية، اليوم الأربعاء، أن وزارتَي الخارجية والدفاع، ناقشتا تخفيض قيمة المساعدات العسكرية بنحو 250 مليون دولار، وإعادة النظر في المساعدات العسكرية والاقتصادية الأخرى.
وكشفت الصحيفة أن مكتب شؤون الشرق الأدنى التابع لوزارة الخارجية الأمريكية تقدم بطلب لمكتب الإدارة والميزانية بالبيت الأبيض، عما إذا كان بإمكانه إلغاء الطلب البالغ 100 مليون دولار للسنة المالية 2021، بسبب الأوضاع الحالية في العراق. وأكد بيان لوزارة الخارجية أنه لم يتم اتخاذ قرار نهائي، لكن كبار مسؤولي الإدارة أمروا بمراجعة الأموال التي قد يتم الاحتفاظ بها أو إعادة تخصيصها في حال طلب العراق خروج القوات من أراضيه.
من المفيد الإشارة هنا يأتي العراق في صدارة الدول العربية التي تتلقى معونات أمريكية، فقد حصل على 5.28 ملياراً، 89 في المئة منها للمجال العسكري. وفي التفاصيل، فقد تلقى العراق 4.8 ملياراً في الدعم الأمني والعسكري، و369 مليوناً للمساعدات الإنسانية الإغاثية منها 86 مليوناً للمساعدات الغذائية العاجلة، بينما حصلت النفقات الإدارية على دعم 10 ملايين.
ولم يتجاوز الدعم الأمريكي للعراق عام 2001، عندما كان صدام حسين لا يزال في الحكم، 181 ألف دولار، ثم قفز عام 2006، ثلاث سنوات بعد احنلال القوات الأمريكية للعراق، إلى 9.7 ملياراَ، في أعلى نسبة على الإطلاق بين كل الدول العربية خلال السنوات الماضية.
يرى متابعون للشأن العراقي أن توقف المساعدات الأمريكية وانسحاب قواتها من العراق سيؤثر بشكل سلبي على مصالح العراق ويعتبر هزيمة للولايات المتحدة الأمريكية، بالنسبة للمساعدات، هناك مصالح عراقية في تواجد النفوذ الأميركي والمتمثل في المعونات العسكرية والأمنية والاقتصادية الكبيرة التي يتلقاها العراق من أميركا وحلفائها، فقد حصل العراق على 5.28 مليارات دولار، 89% منها للمجال العسكري. إضافة إلى ذلك، تعد الولايات المتحدة المصدر الأساسي لتسليح الجيش العراقي وجهاز مكافحة الإرهاب وقوات الشرطة الاتحادية وتقنيات المراقبة والتجسس لدوائر المخابرات والاستخبارات والأمن الوطني.
أن المساعدات الأميركية تلعب دورا مهما في تعديل النظام المالي للعراق، من خلال الإسهام في تحفيز البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والدول الحليفة للمشاركة في برامج الإعمار والاستقرار، وكذلك حث الشركات الكبرى على الاستثمار داخل العراق، وقطع المساعدات الأميركية على العراق يحول دون ذلك.
وإذا طبّق ترامب قراره بقطع المساعدات العسكرية الأميركية عن العراق، فإن ذلك سيخلق تداعيات على بنية المنظومة العسكرية، ويؤثر سلبا على إكمال تلك البنية وإعادة تأهيلها، بعد أن أنهكتها المعارك مع تنظيم داعش الإرهابي. وفي ظل عجز الموازنة والفساد المالي والإداري الذي يخيم على تكوين الدولة وأطرها وواجهاتها، لا سيما أن حسابات العراق محمية في البنك الفدرالي الأميركي.
أما ما يتعلق بالانسحاب الأمريكي من العراق، هناك صلة مباشرة بين موت سليماني والأولوية الراسخة في سياسته المتمثلة بإرغام الولايات المتحدة على الخروج من العراق. وإذا انسحبت واشنطن الآن، فسيكون سليماني قد حقق بموته ما حاول دون جدوى تحقيقه في حياته، وسيكون هذا الأمر أكبر بكثير من مجرد فشل رمزي ومعنوي، بل سيكون هزيمة سياسية كبيرة لواشنطن، وانتصاراً لإيران. أما إذا حافظ القادة الأمريكيون على ثباتهم في العراق، فسيؤكدون على فشل ملحمة سليماني، مما يؤدي إلى تآكل مكانة إيران الدولية وتعزيز مكانة واشنطن في الوقت نفسه.
لا يُخفى أن العراق يعاني كثيراً بسبب التدخل الإيراني، لكن العلاقات بين الولايات المتحدة والعراق أثبتت أنها ليس مسألة ميؤوس منها. وكانت هناك أدلة كثيرة على ذلك في الأيام القليلة الماضية وحدها: فالرئيس العراقي برهم صالح، ورئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، ووزارة الخارجية العراقية نددوا علناً بالهجوم الإيراني بالصواريخ الباليستية على القواعد التي تتواجد فيها قوات أمريكية؛ كما أن نصف أعضاء البرلمان العراقي بالكامل قاطع جلسة التصويت التي عُقدت في 5 كانون الثاني/يناير لإخراج القوات الأمريكية،؛ بالإضافة إلى ذلك، أصدر الرئيس صالح بياناً أشار فيه إلى أن “الولايات المتحدة حليفتنا وإيران جارتنا”؛ كما تعهد قادة «حكومة كردستان العراق» من جديد – علناً وسراً – بالتعاون مع الولايات المتحدة.
وإذا بقيت القوات الأمريكية في العراق، فسوف تعزِّز بشكل كبير مكانة الولايات المتحدة في تلك البلاد وتسهم في التصدي للنفوذ الإيراني المضر في جميع أنحاء المنطقة. ولكن خروجها يعني أن العراق سيصبح معرّضاً لخطر داهم بالانزلاق مجدداً إلى العزلة المدمّرة التي عاشها أيام صدام حسين، علماً بأنه سيكون حينذاك أقل قدرة على مقاومة السياسات الإيرانية الضارية. وفي الواقع أن معظم العراقيين يتوجّسون من هذه الفكرة، وعن وجه حق، وخير دليل على ذلك هو مئات آلاف المتظاهرين المناهضين لإيران الذين خرجوا إلى الشوارع العراقية خلال الأشهر الأخيرة، وخاصة في المناطق الشيعية. فهم يفضّلون إلى حد كبير عراقاً يتمتع بالسيادة والسلم والتعددية ومندمجاً اندماجاً تاماً في المجتمع الدولي. ومن شأن الوجود الدبلوماسي والعسكري الأمريكي المستمر أن يساعد في تعزيز تلك الآمال. وعلى هذا النحو، من المنطقي أن تتوقع واشنطن من الحكومة العراقية طرح شروط كفيلة بجعل هذا الوجود مفيداً لكلا الطرفين.
خلاصة القول سيشكّل القرار الذي اتخذه مجلس النواب العراقي بدايةً لعملية يتعيّن في إطارها على التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والعراق إعادة النظر في شروط التعاون بينهما لأن لدى كلا الطرفين شكاوى عميقة الجذور. فالعراق قلق بحق إزاء واقع اتخاذ الولايات المتحدة إجراءات عسكرية داخل أراضيه، في عمليات استهدفت مواطنين عراقيين ولم يٌصرّح بها من قبل الدولة العراقية.
ولكن هناك الكثير من الأسباب التي تدعو إلى عدم الرضا من الجانب الآخر أيضاً. فالولايات المتحدة والعديد من الشركاء الرئيسيين، مثل أستراليا وكندا والمملكة المتحدة وإسبانيا وفرنسا وألمانيا، لديها مخاوف جدية من عدم شعور الحكومة العراقية بالقلق إزاء الانتهاكات الإيرانية للسيادة العراقية، وحول واقع قيام الميليشيات بتقويض إصلاحات القطاع الأمني وقتل مدنيين عزّل بشكل فاضح، فضلاً من عدم الوجود الفعلي لحكومة مخوّلة منذ استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي وسط احتجاجات شعبية في تشرين الأول/أكتوبر.
يجب أن يشكّل ذلك نقطة انطلاق لحوار حول تأسيس حقبة جديدة من الشراكة الاستراتيجية والعسكرية بين الولايات المتحدة والعراق تقوم على التفاهم المشترك. فسواء سقط العراق بيد تنظيم داعش الإرهابي أو أسياد الحرب الميليشياويين والحرب بالوكالة بين أمريكا وإيران، ستكون النتيجة نفسها: لاجئون وفوضى وحرب.
صحيح أن الولايات المتحدة وشركاءها في التحالف متواجدون في العراق لهزيمة تنظيم داعش الإرهابي، لكن هدفاً مشتركاً آخر يجمعهم مع العديد من العراقيين قد يوفر أساساً ممتازاً للتعاون في المستقبل، هو: صمود دولة عراقية تتمتع بالسيادة والاستقرار والديمقراطية.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية