في أواخر شهرها الرابع، تشهد انتفاضة شباب العراق الثائر منعطفًا خطيرًا، فالمُهلة التي منحها متظاهرو مدينة الناصرية، مركز محافظة ذي قار جنوب العراق، انتهت أيامها السبعة صبيحة الاثنين الموافق 20 كانون الثاني (يناير) الحالي، وكانوا مُهددين بتصعيد غير مسبوق في حال عدم تلبية مطالب المواطنين، وعلى رأسها محاسبة قتلة المتظاهرين السلميين.
وكانت المحافظات المنتفضة متضامنة ومؤيدة لتلك المُهلة، التي سُمّيت “مُهلة وطن”، وتوعدت بتصعيد الموقف أيضًا وفق السياق المدني والقانوني، إن لم تقم الحكومة ومجلس النواب بتنفيذ المطالب بشكل عملي وملموس.
وفي غضون اليوم الأول من التصعيد، سقط 10 ضحايا ونحو 200 جريحًا، جراء استخدام الرصاص الحي وقنابل الغاز المميتة. فالخطة، كما تبدو، قطع الطُرق والجسور الرئيسة داخل كل محافظة، والخطوط الدولية الرابطة بين المحافظات من بغداد إلى البصرة. الهدف هو قطع شرايين الحكومة ومجلس النواب التي تغذي أحزاب الفساد في سرقة وتبديد خيرات البلاد.
إن هذا التطور في الحراك الشعبي المنتفض، بالقدر الذي يوحي بنُذر مواجهة ستستعر أكثر وتزهق فيها الأرواح وتُراق الدماء، فإنها تشير أيضًا إلى عزيمة وإرادة هؤلاء الشباب تجاه التحديات. إنه منطق التاريخ وحقائقه تجاه الشعوب الأصيلة. فعندما يُنفذ الحراك الشعبي تهديداته المدنية، وتزداد أعداد القوات الأمنية والعسكرية، وتعود الحكومة باستخدام العنف الشديد، التي نقدها ستيفن هيكي، السفير البريطاني في بغداد، إذ كتب بتغريدته قائلًا “ليس هناك ما يبرر استخدام القوة المميتة المفرطة تجاه المتظاهرين”، فإن حتمية هذا التطور ينتج عنه واقعًا جديدًا تقترب فيه ساعات الحسم لصالح إرادة الشعب.
بعبارة أخرى، إن استجابة الشباب للتحدي واستمرارهم بتقديم التضحيات هو من أجل استعادة وطنهم الذي اختطفته الأحزاب الدينية الموالية لإيران، فإن زمنية “مُهلة وطن” وما ترتب بعدها من قتل وسفك دماء، ما زال متواصل لغاية كتابة هذه السطور، ستُغيّر المشهد الاحتجاجي وتفرض واقعًا جديدًا يصبُ في صالح الحراك الشعبي.
دعوة الصدر
من مقر إقامته في مدينة قُم بإيران، دعا مقتدى الصدر إلى تظاهرة مليونية في العاصمة بغداد، تنطلق الجمعة القادمة الموافق 24 من الشهر الحالي، تطالب بخروج القوات الأميركية من العراق، وتندد بانتهاكها للسيادة الوطنية (إشارة إلى مقتل الإرهابي قاسم سليماني ومَنْ بمعيته قرب مطار بغداد الدولي فجر الجمعة 3 من هذا الشهر). وأيدت هذه التظاهرة كل المجموعات المسلحة والمدعومة من النظام الإيراني، أمثال العصائب والكتائب وبدر والدعوة والنجباء والخراساني وغيرها، ما يعني وجود اتفاق مسبق فيما بينها.
بيد أن الصدر لم يكشف عن الموقع الذي ستجري فيه تلك التظاهرات الكبيرة، ويكتفي تياره بإصدار بيانات بالحث على الاستعداد لها، لذلك يخشى الكثير من المتظاهرين أن تكون في ساحة التحرير، مركز العاصمة بغداد ومقر الاحتجاجات الشعبية الجارية منذ تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي.
وعلى الرغم من طرد الصدر من ساحة الاعتصام في النجف، عندما كان عائدًا من إيران واتجه بسيارته مباشرة صوب المتظاهرين، الذين رفضوه لممارساته المشبوهة السابقة، منها لعبة نصب خيمة الاعتصام قبالة مجلس النواب في أذار (مارس) 2016 والتي أسفرت عن تبديد همّة الشباب واستمرار ضياع حقوقهم، يحاول الآن الاشتراك في هذه التظاهرات من خلال دعوته للمعتدلين من السُّنة والشيعة.
رفض المنتفضين
أصدر الحراك الشعبي لثورة تشرين بيانًا يرفض فيه بشكل قاطع الانسياق وراء دعوة الصدر، وجاء فيه أن “الدعوة التي تنطلق من إيران ضد واشنطن مسيسة، ولا تصب في القضية العراقية، وأن الدعوة لو كانت صادقة لدعت إلى خروج أذرع إيران العسكرية أيضًا”.
إن غالبية المتظاهرين يشككون بصدقية دعوة الصدر، ويرفضون أن تستخدم تظاهراتهم لأهداف يحقق من خلالها مكاسب تخصه في بسط زعامته على الآخرين. كما أكد المتظاهرون أن كلام الصدر لا يخدعهم قط، خصوصًا أنه لم يندد بالصواريخ الإيرانية التي استهدفت محافظتيْ الأنبار وأربيل.
من هنا، كانت الهتافات والشعارات التي رددها المتظاهرون “لا لإيران ولا لأميركا، نعم للعراق”، إذ يرفضون أن يكون بلدهم ساحة لتصفية النزاعات والصراعات بين طهران وواشنطن.
ومن بين ما يخشاه المتظاهرون ما يلي:
أولًا: أن تكون ساحة التحرير موقع التظاهرة المليونية، فتدخل جموع غفيرة بينهم جماعات الفصائل المسلحة الموالية لإيران، فتحتك عنوة بالمحتجين والمعتصمين السلميين، الذين لا حماية لهم من القوات الأمنية والعسكرية.
ثانيًا: أن يكون هناك مخطط إيراني سري ينفذه الصدر بالقضاء على ثورة تشرين. فمنذ ثمانية سنوات لم يتوافق الصدر مع رئيس منظمة بدر هادي العامري أو المنشقين عن “جيش المهدي” وعلى رأسهم قيس الخزعلي.
ثالثًا: إن معظم أتباع التيار الصدري هم من الفقراء والأميين، لذلك ستكون استجابتهم للدعوة إلى التظاهر سريعة، حتى لو كانت نتائجها تدمير الثورة وضياع دماء الشهداء.
رابعًا: سحبْ المنتفضون السلميون إلى مواجهات وتصادمات عنيفة، أو التسليم بزعامة الصدر على التظاهرات والاحتجاجات، فينتهي الحراك الشعبي إلى لا شيء، كما فعلها سابقًا.
خامسًا: أن تكون هناك خطة بإنهاء التظاهرات السلميَّة بواسطة أخرى مفتعلة – الصدريون ومؤيدوهم ستكون لهم مواصلات ووجبات طعام ومبلغ نقدي-، من أجل بعثرة الجهود والتشويش، وبذلك ترتبك الصورة لدى الخارج بين الزيّف والحقيقة في تشابك التظاهرات.
سادسًا: إن الخبث الإيراني يدفع بدعوة الصدر إلى تجيير التظاهرة المليونية على أنها تظاهرات شعبية تسير من أجل إيران ضد أميركا ووجودها العسكري في العراق، مع أن أصل التظاهرات والاحتجاجات ضد هيمنة إيران عبر أذرعها الفاسدة والمجرمة.
كيفما كان الأمر، فإن تطور الوقائع والأحداث بين الحراك الشعبي وحكومة بغداد الخاضعة للهيمنة الإيرانية، ستؤول نتائجها لصالح إرادة الشعب، إنه منطق التاريخ وحقائقه، وسيثبت ذلك في قادم الأيام، بعون الله تعالى.
عماد الدين الجبوري
اندبندت العربي