لقد أثبتت الاحتجاجات في لبنان، المستمرة منذ منتصف أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بأن لها القدرة على الاستمرار في المدى المتوسط والطويل، بفعل تواصل التظاهرات لمدة أربعة أشهر تقريباً. كما ثبتت خطوط انتشارها في جميع المناطق اللبنانية، من طرابلس إلى بيروت فزحلة وبعلبك.
وعلى الرغم من الضغوط المضادة التي قام بها “حزب الله”، فإن التحركات الرمزية لا تزال قائمة في الجنوب من صيدا إلى صور والنبطية. وهذا يعني أن العمق الشعبي للتظاهرات قائم وسيوفر قدرة التنفس الثوري لأمد أطول مما كان منتظراً. سُئلنا في بداية الاحتجاجات، إذا كنا ننتظر التغيير في الداخل للحصول على دعم خارجي، فكان الجواب أننا نعتبر أن المطلوب أن يكون هذا الحراك طويل الأمد، أقله حتى الوصول إلى الانتخابات الأميركية.
ثبات الحراك أيضاً كان ولا يزال واضحاً على الرغم من وجود ضغوط فاقت ضغط الميليشيات، وتمثلت بالضغط الأمني التابع للمنظومة الحاكمة. ورأينا كيف أن الانهيار الاقتصادي والشلل المصرفي والأوضاع المالية المتردية لم يمنع المحتجين من مواصلة التصميم على الاستمرار في ضغطهم على السلطة بشكل عام والحكومة الجديدة بشكل خاص. وهذا ما أكد أن الثورة في لبنان عميقة الجذور وغير محدودة القدرات النفسية والشعبية.
في الوقت نفسه، لا يمكن لأي مجتمع مدني الاستمرار في تقديم التضحيات من دون الحصول على حد أدنى من النتائج، قد تتحول إلى وقود لاستمرار الحركة المطلبية حتى الوصول إلى المراد. بالتالي، فإن السؤال الكبير المطروح داخل لبنان وخارجه يتمحور حول صحة وصوابية العامل الاستراتيجي للحراك لمعرفة قدرة الاحتجاجات على الاستمرار حتى تغيير الظروف الدولية، لا سيما المعادلة في واشنطن.
إن إحدى نقاط الضعف في الحراك- يمتلك بالمناسبة نقاط قوة كثيرة- تظهر في تبعثر الأجندات، التي تعلن عنها المجموعات المشاركة في التظاهرات. فالبعض يركز على الشأن الاقتصادي البحت، والبعض الآخر على الشأن الاجتماعي. وهناك من يذهب بعيداً في المطالبة بتغيير النظام القائم بنظام جديد، يختلف الجميع على نوعية صيغته الدستورية الجديدة، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، إضافة إلى الاتجاهات الإقليمية المبعثرة. لكن الأهم هو التناقض داخل مجموعات الحراك حول موقفها من العلاقات الخارجية للبنان عامة، والثورة بشكل خاص. فهناك من يطالب واشنطن بالتحرك، بينما البعض الآخر يدعوها إلى عدم التدخل إطلاقاً. وتأتي فئة لتعتبر أن الموضوع مطلبي بحت ولا علاقة للميليشيات و”حزب الله” بالمطالب، بينما يقول آخرون إن الأولوية يجب أن تكون لنزع السلاح الذي يحمي المنظومة الحاكمة ويوفر المشروعية والحماية لها.
التبعثر هذا يشل قدرة الخارج، أكان المجتمع الدولي أو الولايات المتحدة، على وضع خطة محكمة لمساعدة لبنان على اجتياز النفق المظلم. ونحن نُسأل في واشنطن وعواصم أخرى عن الاتجاه العام للحراك. ولأن دول العالم منشغلة بملفات كبيرة تتعلق بالحروب والمواجهات، فإنه إذا لم يتمكن الحراك اللبناني من إبراز نفسه وقدراته على التعاطي مع البيئة الدولية كما حصل مع قيادة الثورة في فنزويلا، سيكون صعباً على المجتمع الدولي تلبية النداءات المنطلقة من لبنان لوضع عقوبات وتقديم مساعدات وتأمين حماية.
إضافة إلى الأجندة الموحدة المطلوبة، بات تشكيل هيئة تمثل الحراك أمراً ملحاً على الرغم من كل المخاطر والنتائج السلبية لهذا الموضوع، لأنه لا مهرب من وجود هيئة تتواصل مع المجتمع الدولي، كما يحدث في القضايا المماثلة. أما الحجة المتمثلة في أن بروز قيادات سيجعل استهدافها سهلاً، من قبل “حزب الله” وإيران، فأصبحت غير قائمة لأن الاستهداف موجود للشخصيات، أكان من يتحرك في العلن أو في الظل. وبالعكس تماماً، إذا أراد الحراك أن يحظى بحماية دولية أو حماية الجيش اللبناني، فعليه تشكيل هيئة تعلن عن نفسها. وعندها، يتمكن المجتمع الدولي من مساعدة الحراك بشكل رسمي وفعال أكثر.
في الخلاصة، لا بد للانتفاضة اللبنانية من الانتقال من المرحلة الأولى، المتمثلة في تثبيت الوجود إلى المرحلة الثانية، التي تتمحور حول التركيز الاستراتيجي. إذ إن الطاقات قد تنضب والفرص تتضاءل وعامل الوقت قد ينتهي. والفرص قد لا تأتي إلا بعد زمن طويل.
وليد فارس
اندبندت العربي