تمر هذه الأيام ذكرى الغزو والاحتلال الأنكلو أمريكي للعراق عام 2003. يأتي مرورها، على الرغم مما سببته من كوارث، بشكل يكاد يكون تسللا في ظل انتشار وباء فايروس كورونا. قد يكون التسلل او حتى النسيان ممكنا بالنسبة الى العالم، الا أنه يوم حُفر بأزميل من دماء الضحايا وخراب البلد في ذاكرة العراقيين على مدى 17 عاما. اذ لم يمر يوم دون ان يعيش المواطن انعكاساته الهائلة على حياته وعلى بلده وعلى المنطقة كلها.
حصدت سنوات الاحتلال من الأرواح ما يعادل او ينافس الجزائر، بلد المليون شهيد، الذي تربينا على اعتباره مثلنا الأعلى في النضال والتضحية، كما يكاد يقترب من ضحايا المحتل الصهيوني بشهدائه ولاجئيه واستمرارية محاولات اخضاعه لكل ضروب الإبادة الجماعية. هذا من الناحية البشرية، وإذا ما راجعنا قائمة الخسائر المادية وخراب البنية التحتية، لوجدنا البلد الذي يزيد عدد شبابه على نصف السكان، ينوء بأثقال تحد من طموحاته واحلام مستقبله، تاركة إياه مثل عجوز يجد صعوبة قصوى في التنفس والحركة والتفكير.
وإذا كانت سنوات الاحتلال قد شابها زيادة وتقليل عدد القوات الأمريكية أو قوات التحالف بقيادة أمريكا، على أرض البلد وسمائها، تحت مسميات متنوعة تراوح ما بين التدريب والاستشارة ومحاربة الإرهاب (المتمردين السنة، القاعدة، داعش) أو قوات التحالف كجزء من قوات حلف الناتو، فان ما أسست له سنوات الاحتلال، من طائفية وفساد ونهب للثروات، أعمق من مجرد تواجد القوات العسكرية أو عدم تواجدها. حيث اعتمدت لديمومة هيمنتها (المباشرة والناعمة) على نظام المحاصصة السياسية/ الطائفية الذي ما كان لقوات الاحتلال أن تبقى في العراق الى يومنا هذا لولا اعتمادها عليه، متمثلا بأولئك الذين تحالفت معهم من العراقيين، المستعدين لبيع ولائهم للشيطان، وأقرب ما يكونون الى المرتزقة في تأجير خدماتهم، بعيدا عن الوطن والوطنية، ما دام سيساعدهم على التخلص من عدوهم، ولأن للرغبة بالانتقام مذاق يماثل مذاق الدم للحيوانات الشرسة، الا أنه غير مستساغ من قبل عموم البشر، تم تغليف تحالفاتهم بالديمقراطية وحقوق الانسان.
وفرت سياسة المحتل الأمريكي المنهجية في القضاء على الدولة العراقية ومقوماتها الأرضية لتأسيس الأحزاب ذات الولاء الخارجي وللنمو السريع، كما الأعشاب الضارة، للميليشيات ذات الولاء الإيراني والمدعومة بأموال النفط العراقي، بينما يعيش شباب البلد وخريجوه في مستنقع الفقر المدقع والتهجير وغياب الخدمات الأساسية، من الماء الصالح للشرب الى الصحة والسكن، التي تتمتع بها بلدان أقل ثراء من العراق بكثير، بشرط وجود حكومة وطنية تمثل الشعب.
وفرت سياسة المحتل الأمريكي المنهجية في القضاء على الدولة العراقية ومقوماتها الأرضية لتأسيس الأحزاب ذات الولاء الخارجي وللنمو السريع، كما الأعشاب الضارة، للميليشيات ذات الولاء الإيراني والمدعومة بأموال النفط العراقي، بينما يعيش شباب البلد وخريجوه في مستنقع الفقر المدقع والتهجير وغياب الخدمات الأساسية
على مدى 17 عاما، عمل تحالف الشيطان الأكبر والاصغر غير المعلن، بكل الطرق المختلفة، على اقناع الشعب العراقي أنه عدو نفسه، وأنه يحمل بداخله خطيئة العنف الأزلية، وان الحل الوحيد لإنقاذه هو اما قبول مشروع المخلص الحضاري (أمريكا) او مشروع آية الله (إيران). صراع ومفاوضات أصحاب هذين المشروعين العلني داخل العراق حينا والسري حينا آخر، حسب مقتضيات مصلحتيهما منفردة او مزدوجة، يقودان العراق الى سيرورة هلاك لا مفر منه. وما عملية اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، في العراق، ومن ثم تبادل حملات القصف الجوي والصواريخ بين أمريكا وإيران، في العراق أيضا، بالإضافة الى زيادة عدد قوات الاحتلال الأمريكي، فضلا عن تمتع الميليشيات الموالية لإيران بحرية الحركة والفعل، غير استهانة بكرامة وحياة الشعب العراقي. سيرورة تحقيق أي نجاح من قبل المُحتَلَين يعتمد على مدى نجاح أي منهما بغسل أدمغة الناس، مسح الذاكرة وغرز البدائل. وهي سياسة قديمة قدم الاستعمار، أثبت التاريخ انها قد تنجح لفترة قصيرة، الا من الصعب او المستحيل نجاحها على المدى البعيد. والمدى البعيد هو الذي تراهن عليه الشعوب الُمحتَلة لمقاومة الُمحتَل الذي يفوقها عسكريا وماديا وبشريا.
كان التشبيه المفضل لدونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأمريكي اثناء الغزو، هو الإشارة إلى العراقيين على أنهم أطفال يتعلمون ركوب الدراجة « كانت مهمتنا هي خلع عجلات التدريب والسماح لهم بتعلم الركوب بأنفسهم. المشكلة هي أننا ظللنا نأخذ عجلات التدريب في وقت مبكر جدًا واستمرت الدراجة في التحطم». هذا المفهوم الاستعماري المتضمن ان العراقيين لن يتمكنوا من الدفاع عن المكاسب التي يحققها لهم الجيش الأمريكي، وبالتالي هم في حاجة الى الوجود العسكري الأمريكي للدفاع عنهم، لا يختلف عن الموقف الإيراني الذي يرى أن إيران، من خلال ميليشياتها وفيلق القدس وقادته، هي منقذة العراق من الإرهاب الداعشي ـ الأمريكي ـ السعودي ـ الصهيوني، ولولا آيات الله وولاية الفقيه لما قامت للعراق قائمة.
هذه النظرة الدونية الى الشعب العراقي، متشابهة في جوهرها، حتى لو كانت أمريكا هي الهر الأكبر وممارسات إيران داخل العراق هي مجرد خرمشات قط صغير، حسب ادعاء البعض.
بعد مرور 17 عاما على غزو واحتلال العراق، تتنافس أمريكا وإيران على الهيمنة عليه جوا وأرضا، عسكريا وثقافيا، جاذبة اليها أعضاء الحكومة والبرلمان، كل حسب مصلحته وولائه ودرجة فساده. خارج لعبة شد الحبل هذه وما يتمخض عنها، بين الحين والآخر، من سقوط قتلى بين الطرفين وضحايا عراقيين، يعيش الشعب، في ذكرى احتلال بلده، ولأول مرة، يوميات انتفاضة جماهيرية، بدأت في الأول من تشرين 2019 وحققت، حتى الآن، من المنجزات ما لا يمكن القضاء عليه، مهما حاولت قوى الاحتلال بشقيه الأمريكي والإيراني.
«لا أمريكا ولا إيران.. ولاؤنا للعراق»، الشعار الذي رفعه المنتفضون إثر القصف الأمريكي، منذ أيام على مواقع لحزب الله العراقي، هو معنى السيادة للوطن الذي يريده المنتفضون.
هو المكان الذي تشارك فيه المرأة الرجل على قدم المساواة في الواجبات والحقوق، حيث تتم مقاضاة القتلة والإرهابيين المسؤولين عن سقوط الشهداء، كل الشهداء، على مدى سنوات الاحتلال، بلا حصانة أو تمييز. وطن حيث تُفتح أبواب العمل للشباب، ويستعيد الناس ثروتهم المنهوبة، وحيث يعيش المواطنون المنهكون لكثرة ما مروا به من فواجع، على مدى عقود، أياما يتمتعون فيها بحقهم: الكرامة والحرية والعدالة التي يستحقونها.
هيفاء زنكنة
القدس العربي