سيكون على العرب دفع ثمن أكبر للسياسات الخاطئة عندما اندفعت بعض الأنظمة لدعم ميليشيات منفلتة في صراعها مع هذا النظام أو ذاك. كل الوقائع أثبتت أن أي نظام ومهما كان الخلاف معه حادا، فإن التفاهم معه يبقى أيسر من التعامل مع ميليشيات تحكمها نزوات أمراء الحرب، وتغيّر ثوبها في كل حين وفق المصالح التي تتحقق لها.
جرّب العرب التعامل مع الميليشيات في العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان، ليكتشفوا لاحقا أن تلك الجماعات المسلحة إذا دخلت قرية أفسدتها، وإذا تحركت في بلد دمرته، وإذا تبنت عقيدة أهلكتها، فهي لا تخضع للقانون وليست لها مرجعية سلوك، ولا تعترف بالانضباط ولا بالمهنية، وفي حالات كثيرة تتناسل من بعضها، لتتحول الميليشيا الواحدة إلى ميليشيات متعددة، وقد تتصارع في ما بينها لتزيد من حجم الخراب الذي تضمن به البقاء، فهي لا تضمن استمراريتها إلا في ظل ديمومة الأزمات.
قد يكون العرب أدركوا ذلك خلال الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت تحت غطاء طائفي في العام 1975، ولا تزال آثارها تشكل المشهد السياسي إلى اليوم، بعد أن تحوّل عدد من أمراء الحرب إلى فاعلين سياسيين بارزين، وخلال حرب أفغانستان ضد الوجود السوفياتي التي انطلقت أواسط الثمانينات، ورفعت فيها الميليشيات ألوية الجهاد باسم الإسلام ضد عدوّ تصفه بالملحد الشيوعي، وأدخلت البلد في دوامة صراع لا يزال قائما، وحدث الأمر ذاته في الصومال في منتصف الثمانينات، عندما تورط بعض العرب في دعم المتمردين ضد نظام محمد سياد بري بعد تكفيره، والذي ورغم وسقوطه في العام 1991، إلا أن نتائج تلك الأحداث لا تزال تلقي بظلالها إلى اليوم.
وليس خافيا أن هناك من العرب من مد يد الدعم لجماعة الحوثي في اليمن في إطار الصراع سواء مع نظام الرئيس الراحل علي عبدالله صالح أو مع المملكة العربية السعودية، ما جعل تلك الجماعة تتحول إلى ميليشيا مسلحة قادت عمليات تمرد ضد السلطات المركزية في صنعاء منذ العام 2004، واحتلت العاصمة في سبتمبر 2014، ولا تزال إلى اليوم تواصل تمردها على الشرعية والقانون.
كما كان لبعض العرب دور مهم في تدمير العراق وخاصة بعد غزو 2003، وظهر من بينهم من قدم دعمه للميليشيات، التي سعت لملء الفراغ بعد تنفيذ مطلب بعض الأنظمة العربية بحل المؤسسات الأمنية والعسكرية واجتثاث البعث، اعتقادا بأن ذلك سيساهم في القضاء على العقيدة الفكرية والسياسية للنظام السابق، لكن ما حدث لاحقا أن العراق تحول إلى مسرح لميليشيات إرهابية وإجرامية أغلبها مرتبط بأجندات إيرانية معادية للعرب والعروبة، وضارب عرض الحائط بمفهوم الدولة ووحدة المجتمع ومطالب الشعب.
وفي العام 2011 تورط العرب في الاندفاع وراء شعارات ما سمي بالربيع العربي، وساندوا بالمال والسلاح والإعلام الموجّه الجماعات المسلحة في ليبيا بهدف الإطاحة بنظام معمر القذافي، وكانت النتيجة أن خرج مارد الإرهاب الميليشياوي من قمقمه، وسيطر على الدولة ومقدراتها، ولا يزال إلى اليوم يتحكم في عاصمتها طرابلس، جالبا لها الغازي التركي بهدف التصدي للجيش الوطني النظامي المستند إلى إرادة الشعب.
وحدث نفس الشيء في سوريا، عندما وجدت الميليشيات المسلحة حاضنة سياسية وإعلامية عربية في سياق حربها ضد النظام، وكانت النتيجة أن وجدت إيران فرصة للتدخل المباشر، وروسيا مجالا لخدمة مشروعها الحيوي، وبات جزء من الجماعات المسلحة ينفذ أوامر رجب طيب أرودغان في الداخل والخارج، بما في ذلك دعم ميليشيات ليبيا.
لو نظرنا إلى كل هذه الأحداث وغيرها لوجدنا رابطا يجمع بينها، وهو أنها تنطلق من مشاريع غير عربية، فهي إما مشاريع أميركية وغربية بالأساس لمحاصرة نفوذ القوى المعادية وضرب الأنظمة المناوئة لمصالحها، وإما إيرانية وإما تركية تهدف إلى التوسع على حساب العرب، غير أن جميعها يتدثر بغطاء الدين ويرفع شعارات التكفير في وجه الطرف المستهدف، ويجد من يدعو له في المساجد، ومن يجمع له التبرعات المجزية، ويوفر له التمويلات، ويقدمه على أنه يدافع عن الدين والوطن والحرية.
لدينا اليوم في المنطقة العربية طفرة ميليشياوية ستواصل عبثها بأمن دولها ومجتمعاتها، وستجد دائما من يدفع لها أو يدافع عنها، أو من يعتبرها قوى تقدمية ومقاومة ومناضلة في سبيل أوطانها وشعوبها، لكن الأبرز من ذلك أنها تجد من الأنظمة العربية من يحاول استعمالها لضرب أو إزعاج أنظمة أخرى، بينما العقل يقول إن نظاما معاديا أفضل من ميليشيا صديقة أو تابعة، فالأنظمة مهما كان تعنتها يمكن إخضاعها للقانون الدولي، بينما الميليشيات لا تخضع إلا لأمزجتها وأمزجة القائمين عليها، ولمصالحها ومصالح من يدفع أكثر.
لقد صنع العرب الميليشيات في سياقات عدة وتورطوا فيها، وليس لهم اليوم إلا أن يتحملوا المسؤولية كاملة بدعم القوى الوطنية الفعلية على مواجهة تلك الجماعات المسلحة الخارجة عن القانون والمنتجة للإرهاب والمتآمرة على الأمن والاستقرار في المنطقة.
العرب