الهوية الوطنية.. ومستقبل التشيع في العراق

الهوية الوطنية.. ومستقبل التشيع في العراق

براءة التفكير

ذكريات الطفولة لا تمحى بسهولة من عقل الانسان وما علق منها يشكل بالتأكيد مدخلا لبناء شخصية الانسان ونمط تفكيره، وحينما كنا صغارا نسكن احياء بغداد الشعبية ترسخت في ذاكرتنا اشياء جميلة واخرى قبيحة لا زالنا نستحضرها بين الفينة والاخرى لنقتبس منها احكاما وتحليلات تجلي بعض الظلمة التي تحيط بحاضرنا المؤلم، ولعل ما يحضرني في هذا المقال ماكنا نشاهده من ظواهر دينية حسبناها في حينها جزءا من الموروث السلمي الشعبي للمجتمع العراقي.

 7

كانت مظاهر اللطم والتطبير وتوزيع القيمة والتمن تملا شوارع بغداد واحياءها الشعبية في ذكرى عاشوراء، وهي ذكرى لم نكلف انفسنا عناء السؤال عن اسبابها، اذ تشغلنا مشاهد الدماء وهي تسيل من ظهور الشباب، والصدور الحمراء من شدة اللطم والضرب عليها، ويدفعنا الفضول احيانا لنسأل اهالينا عن سبب تلك الطقوس المصطنعة، لكن كالعادة فان الصمت هو سيد الاجابة واحيانا تتم الاجابة بفطرة غير معتادة وجهل مدقع في احداث التاريخ ان الحسين عليه السلام قتل في هذا اليوم، وكثيرا ما نسأل امهاتنا وابائنا في ذلك الوقت من الذي قتله فيلوذون بالصمت احيانا وبتمتمات لا تعطيك جوابا شافيا. كثيرا ماكنا نلهث لمليء ببطوننا الجائعة بمزيد من القيمة والتمن فقد كنا نطبق المثل العراقي الشهير (الدك مو على الحسين، الدك على الهريسة)  والهريسة لغير العراقي هي المرق المعمول ثواباً للحسين (رض)، كانت تمر المناسبة بسلام وامان وبلا مشاكل، فسرعان ما يعود المجتمع لطبيعته وتعود الدولة الى فرض وجودها، فيرجع الموظف الى دوامه والاستاذ الى جامعته والمعلم والطلاب الى مدراسهم، لم ننشغل يوما بالبحث عن سبب هذه الحادثة ولا بالذي اشعلها ولا المستفيد من تأجيج مشاعر الناس وتغذيتها بهواجس وافكار تعود الى قرون خلت، فقد كانت همومنا منشغلة بالتحصيل الدراسي وبالتخطيط للمستقبل، كنا منشغلين بالحياة وما تيسره لنا من فرص للنجاح والابداع وممارسة الرياضة والرسم واللعب العفوي، حتى الصلاة لم نتعلمها على اصولها الا حينما بلغنا سن الرشد ليس جهلا بالدين وانما لان عوائلنا كانت اقرب الى العلمانية منها الى التدين.

اذكر حينما كبرت انني لم انشغل كثيرا بالبحث عن انتمائي الطائفي ولم اكلف نفسي في يوم من الايام ان اسأل والداي من اي فئة انا، سني ام شيعي، كان الحي الذي اسكنه مختلطا من السنة والشيعة نلعب جميعا ونذهب صباحا للمدرسة ونغدوا الى اهلنا، وتتبادل النسوة مواعين الاكل بينهن قبل مجي لزوج من العمل ، علمت لاحقا ان معلمي الذي لازلت اعتز به ايما اعتزاز كان صابئي، وان ست سميرة التي تدير مكتبة المدينة كانت مسيحية، وان معلمينا الاخرين كانوا من مختلف الطوائف والعشائر والمدن والقصبات.

لم يكن هناك شيء يحتل عقولنا سوى العراق الذي له انتمينا وبقيمه تشربنا  حينما دخلت جامعة بغداد في 1986، في اوج الحرب العراقية الايرانية، كانت معسكرات تدريب الطلبة تشكل حالة معتادة بين طلبة الجامعات، فشاركت في التدريب على السلاح في معسكر عين زالة في الموصل، وقدر الله لي ان يكون المجاور لي في السرير والمنام زميل لي من النجف اسمه عبد الحسين على ما اتذكر، طلبت منه بفضول وجهل ان يحدثني عن حادثة الطف ومقتل الامام الحسين عليه السلام، كنت اظنه سيكون امينا في نقلها فانصت اليه بخشوع ، فاستمر يحدثني غائرا في مسارب التاريخ عن تلك الحادثة الاليمة، ولم يفته بالطبع ان يضمن حديثه بعض الالفاظ البذيئة عن الاشخاص الذي كان لهم الدور السلبي في قتل الحسن وآل بيته رضوان الله عليهم، شكرته على انه بين لي الحقيقة، ولم يدر بخلدي انها كانت فعلا الحقيقة ام انه شوهها، ولم ينبهني عن سذاجتي وافراطي في الانصات اليه ، سوى زملاء سنة متعصبون، بينوا ان الرجل قد غشني في معلوماته التاريخية وانه كان يسعى الى استدراجي طمعا في تشييعي حسب رايهم !!. لم اعر اي اهتمام للطرفين وتواصلت مع منهجي في الحياة مسترسلا في حب هذا وذاك دون النظر الى هويته وطائفته وعشيرته، مؤمنا بان العراق الواحد هو الخيمة التي تجمعنا بلا تمييز او تلوين .

سذاجة التفكير :

اعترف انني قبيل الاحتلال الامريكي للعراق في 2003 ، قد تناقشت مع زميل لي كان متألما لما سيصير له حال العراق من دمار وتخريب، فقلت له اطمأن فان العراق سيتحرر من حكم الطاغية وان الشيطان ارحم لنا بكثير من صدام حسين الذي اوصل العراق الى حد الهاوية والانتحار، وان العراقيين بكفاءاتهم وتلاحمهم وطيبة قلوبهم سيتجاوزون المحنة، وسيقدمون نموذجا للحكم يستحق التفاخر به امام  العالم، وايدني باندفاع صديق اخر اصر بان العراق سيكون احسن من اليابان بل افضل من المانيا لانه سيحظى برعاية امريكية وسيكون محطة للاستثمار والاعمار، وان المستقبل سيكون مفخرة لنا اننا ننتمي الى بلد مثل العراق سيقود العرب وربما كل منطقة الشرق الاوسط.  لم نكن ندرك تماما ان خللا في التفكير كان يغمرني وصديقي وان جنون التوحد بالعراق وهويته الجامعة كان يلفنا،  لقد احدث الاحتلال وما خلفه من تدمير وخراب صدمة سرعان ما أيقظتنا من سذاجة التفكير، فانكشفت امامنا الحجب وتبين ان ما روجنا له من تحرير كان احتلالا جلب لبلدي كل اشكال الدمار والخراب.

وان الطاغية والدكتاتور الذي تمنيت في يوم من الايام زواله لم يكن اكثر من صدام حسين العروبي والسني والمسلم، وان النموذج الديمقراطي الذي تمنيته للعراق قد بني على نظام مهترئ من المحاصصة الذي فتح العراق امام كل المرتزقة والافاقين لتسرق وتقتل وتمارس كل اشكال الرذيلة بحق ابناءه، وان رجال المعارضة الذين جاءوا على ظهور الدبابات الامريكية رافعين شعارات الديمقراطية والحرية للشعب العراقي، لم يكونوا اكثر من لصوص وعملاء ولن يكونوا ابعد من ادوات استخدمها المحتلون لتقسيم  انتماء العراقيين على اساس الطائفة والقومية والعشيرة والمنطقة، وان ماكنا نفتخر به من هوية عراقية وطنية جامعة لم يكن في حقيقة الامر مترسخا في مخيلة جميع العراقيين، فما نظرنا اليه انه حكم وطني كان في نظر غيرنا حكما طائفيا وعنصريا بامتياز اقصاهم وابعدهم ومنعهم من ممارسة شعائرهم، وان ماكنا ننظر اليه من انه شعائر دينية عفوية لمجموعة من الناس، كانت ممارسات تعبر عن ثقافة سياسية وتنشئة اجتماعية يحفها حقد دفين وكراهية للآخر الشريك في الوطن،  ومغالاة في التطرف لا تنظر الُا الى الذات بطريقة مقدسة، تقصي معها كل امل بغد مشرق يشترك في بناءه الجميع بتلاقي وتسامح.

حينما امشي في شوارع بغداد اليوم حيث الرايات السود وانتشار مواكب العزاء وسرادق توزيع الاطعمة وصفوف الشباب والرجال، الذين يلطمون ويزنجلون ويطبرون الرؤوس، حينما ارى جموع الموظفين تترك دوائرها بلا ضمير او حس مهني ووظيفي، وتذهب الى الحسين عليه السلام مشيا على الاقدام، وحينما نشاهد جموع السائرين من اطفال وعجائز ونساء يمشون في حر بغداد وبردها، متوجهين الى كربلاء والنجف في منظر متوشح بالسواد، وترى اجهزة الدولة من سيارات نجدة وشرطة وجيش ومسعفين، يتركون حماية الوطن وامن المواطن وينشغلون بتوزيع الطعام وتشغيل مسجلات العزاء ونقل المواطنين في تبديد فاضح للمال العام، وعندما اجد ان الاستفزاز وصل الى رفع الرايات السود وتشغيل الحسينيات واطلاق العبارات الطائفية في المناطق السنية دون ادنى احترام لخصوصياتهم، وحينما تنتشر المليشيات الطائفية بسيارات الاجهزة الامنية لتخطف الشباب وتقتلهم على اساس طائفي ، وتهاجم وتستبيح المناطق السنية بوحشية مفرطة، دون رادع انساني ووطني.

ادرك حينها ان هوية العراق قد ضاعت، وان لحمته قد تشظت، وان نسيجه الاجتماعي قد انهار، وانه سائر باتجاه الهوية والمذهب الواحد وانه يتوغل كل يوم بطريقة تفكير سادي يقصي كل فكر حر يسعى لبناء الوطن، وانه متوجه لبناء نظام حكم سلطوي لا يسمح باي تعددية دينية او مذهبية تبقي للعراق خصوصيته التاريخية، وانه متجه نحو الاستبداد الذي يلغي التعايش والتسامح الذي عرف به العراقيون .

لقد عطلت الحياة في عراق اليوم وبات كل شيء يفسر على انه شيعي، حتى ان رمزية ال البيت قد مسحت من ذاكرة العراقيين، وان هيبتهم الدينية قد تضاءلت لانهم باتو حجة وغطاءا يتسربل به الناعقون للاستيلاء على السلطة واغتصابها، ومنع اي تداول سلمي لها بدعوى العصمة والاحتكار.

اليوم ينظر لأهل السنة على انهم كلهم يزيد ومعاوية بل انهم عبيد الله ابن زياد والشمر بن ذي الجوشن، الذي قطع راس الحسين عليه السلام،  لذلك يجب ان يحاسب سنة اليوم عن كل قطرة حسينية اريقت في كربلاء،  وان يدفعوا ثمن اغتصاب السلطة من قبل معاوية وابنه يزيد، حتى وان حصل ذلك الامر قبل 1400 عام، حتى وان كانوا يعيشون في القرن الحادي والعشرين، حيث الحداثة والديمقراطية والتنافس السلمي على السلطة، وحيث شبكة الانترنيت ووسائل الاتصال التي حولت العالم الى قرية صغيرة، تتمازج فيها ثقافات الشعوب.

اليوم تفخر الولايات المتحدة انها بلد التعايش وتعدد الانتماء والتنافس السياسي السلمي على السلطة، ويفتخر الشيعة انهم حولوا العراق الى بلد شيعي ذي لون واحد افرغ منه المسيحيون والصابئة والايزيديون، ومعهم السنة الذين يتعرضون لكل اشكال الاقصاء والقتل والسجن والتهميش، اختم مقالتي بما ذكره عالم الاجتماع العراقي علي الوردي  في كتابه “مهزلة” العقل البشري والذي يشير بوضوح الى ان جمود التفكير وسيادة التعصب سيكون بوابة لتوقف حياة الشعوب والدول، وانه سيفضي الى التنازع والتفرق وضياع قوة الدولة ولا ندري الى متى سيستمر هذا الامر !!

يقول الوردي انه كان يتحدث مع أحد الأمريكيين حول هذا النزاع الرقيع بين السنة والشيعة. فسألني الأمريكي عن علي وعمر :”هل هما يتنافسان الآن على رئاسة الحكومة عندكم كما تنافس ترومن وديوي عندنا فقلت له:” إن علي وعمر كانا يعيشان في الحجاز قبل ألف وثلاث مئة سنة، وهذا النزاع الحالي يدور حول أيهما أحق بالخلافة!”. فضحك الأمريكي من هذا الجواب حتى كاد يستلقي على قفاه، وضحكت معه ضحكاً فيه معنى البكاء وشر البلية ما يضحك) لاشك ان من مزايا عصرنا الذي نعيش فيه كما يؤكد الوردي، هي (ان الحقيقة المطلقة فقدت قيمتها) ولا ندري متى يدرك الشيعة هذا الامر.

محمد العزاوي

الكلمات الدلالية :الهوية الوطنية،التشيع في العراق،هوية العراق،بغداد،المجتمع العراقي،السنة،اللطم ،التطبير.