في 22 نيسان/أبريل، عقد كبار الدبلوماسيين من روسيا وتركيا وإيران اجتماعاً افتراضيّاً لـ “صيغة أستانا”، وهو منتدى تمّ تأسيسه قبل ثلاث سنوات للمساعدة في التفاوض على إنهاء الصراع السوري. ويؤكّد هذا الاجتماع الأخير، الذي جاء بعد بضعة أسابيع فقط من التوصل إلى وقف لإطلاق النار غير مؤكّد في محافظة إدلب، على صيغة أستانا باعتبارها إنجازاً دبلوماسياً مثيراً للاهتمام وعرضاً مضللاً للواقع السياسي السوري.
دبلوماسية عسكرية تدريجية وانتهازية
كانت الغاية الأساسية لروسيا من عملية أستانا واحدة وهي: ربط مختلف الجبهات العسكرية للحرب تحت مظلّة دبلوماسية أوسع في محاولة لحماية هدف موسكو السياسي الشامل، وهو إبقاء الرئيس السوري بشّار الأسد في السلطة. وتم إطلاق “صيغة أستانا” رسميّاً في كانون الثاني/يناير 2017 لإضفاء الطابع الرسمي على حوار روسيا مع تركيا وإيران، اللتان تدعمان عدداً من الجماعات المسلّحة المنخرطة في النزاع على الأرض في سوريا. وبشكلٍ رمزي، كان إنشاء الصيغة أيضاً إنجازاً كبيراً في جهود موسكو لتنحية الولايات المتحدة واستمداد الشرعية من العلاقات الروسية مع تركيا، الخصم الرئيسي للأسد. ومع ذلك، بدأ الكرملين في تطوير الأساس المنطقي لأستانا قبل عام 2017، كعملية تدريجية من أجل إعادة تنظيم كلٍّ من الجبهتين العسكرية والدبلوماسية.
وفي البداية، نظّمت موسكو اجتماعات في أستانا (يُطلق عليها الآن نور سلطان)، في كازاخستان، للترويج للفكرة بأنّ جزءاً من المعارضة في سوريا لم يكن مناهضاً للأسد. وكان الهدف من أستانا أيضاً أن تكون منبراً للممثّلين السوريين لبدء مفاوضات تمهيدية خارج إطار الأمم المتحدة، على الرغم من الادعاءات الروسية المستمرة بارتباط أستانا بجهود الأمم المتحدة. وبالفعل، وضعت قرارات الأمم المتحدة الأسد على قدم المساواة مع المعارضة، الأمر الذي اعتبرته دمشق غير مقبول بينما اعتبرته موسكو خطيراً. وبحلول أواخر عام 2014 وأوائل عام 2015، جمعت روسيا ممثّلين عن النظام وشخصيات من المعارضة لم تكن تطالب برحيل الأسد. وقاطع “المجلس الوطني السوري”، الذي مثّل المعارضة الحقيقية للأسد، هذه الاجتماعات. وفي النهاية، أدّت هذه الديناميكة إلى إنشاء “مجموعة موسكو” ضمن المعارضة السورية، مما ساهم في زيادة الانشقاقات.
وشملت جهود روسيا الخلافية أيضاً تجنّب الشخصيات السياسية من المعارضة، باستخدام أصولها على الأرض للتركيز على الجهات العسكرية المحلية التي طالما كان ارتباطها بالمعارضة السياسية ضعيفاً. وبدءاً من عام 2015، نظّمت روسيا مجموعةً من الاجتماعات غير الرسمية في أستانا بين الجماعات المسلحة السورية المقرّبة من تركيا، وممثّلي الأسد، والميليشيات المدعومة من إيران.
ومن أجل الجمع بين مساراتها السياسية والعسكرية في سوريا، بدأت روسيا تصمّم “مظلّةً” مرنةً من المفاهيم المناسبة. فحتى مع استخدام نظام الأسد للوكلاء الإيرانيين والدعم الجوي الروسي لشن هجمات متتالية على المناطق التي يسيطر عليها الثوّار، تحدّثت موسكو عن الحاجة إلى “تخفيف التصعيد” لتجميد الخطوط الأمامية الأخرى حيث كانت قدرة النظام على شن هجمات متزامنة غير كافية. واستخدمت روسيا أيضاً مفهوم “التفكك” بين فصائل الثوار لتبرير خرق وقف إطلاق النار في المناطق التي كانت الجماعات الجهادية متواجدة فيها أيضاً. وعندما سمح التركيز على جبهة واحدة للنظام باستعادة منطقة معيّنة، توسّطت موسكو بعد ذلك في اتفاقات “المصالحة” طالبةً من المقاتلين المحليين إما الاستسلام أو قبول الترحيل إلى معقل الثوار في إدلب. وتسارعت هذه الديناميكية إلى أقصى حد في عام 2017: على سبيل المثال، بين تركيا وروسيا في شمال غرب سوريا في أيار/مايو؛ وبين روسيا وشخصية المعارضة البارزة أحمد الجربا، في اجتماعٍ في تموز/يوليو في القاهرة حول “تخفيف التصعيد” في الغوطة والرستن؛ وبين روسيا والولايات المتحدة والأردن في جنوب سوريا في أيلول/سبتمبر.
وحتى لو تم التوسط في هذه الاتفاقات مع جهات فاعلة دولية مختلفة، فقد وفّرت مؤتمرات القمم الموازية لفلاديمير بوتين مع كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الإيراني حسن روحاني درجة عالية من الظهور لحوار قيادتهما بشأن سوريا. كما أشارت هذه المؤتمرات للعالم إلى أن روسيا وتركيا وإيران كانت الجهات الفاعلة الحاسمة في سوريا، لأنها كانت وحدها على استعداد لتحمل مخاطر كبيرة واستخدام القوة العسكرية لصياغة النتائج السياسية.
ومع ذلك، وبعيداً عن رمزيتها، يبقى المنطق الأساسي لأستانا واضحاً: فهي مجموعة من المناقشات الثنائية بين روسيا والجهات الفاعلة العسكرية على الأرض التي يم تعزيزها بالتالي من خلال الاجتماعات السياسية الرفيعة المستوى. وقد تم بناء العملية تدريجيّاً، دون أي وضوح حول النتيجة النهائية فيما يتخطى إنشاء مسارات بديلة أكثر ملاءمة لأهداف روسيا من إطار العمل المحدد في “قرار مجلس الأمن رقم 2254”. وفي خطوةٍ تلو الأخرى، استغلت موسكو وطهران بشكلٍ منهجي الانقسامات بين جماعات المعارضة، والهيمنة المتزايدة لجماعات الثوار من الجهاديين السلفيين على الجماعات الأكثر اعتدالاً، والتعب الغربي في سوريا.
تحمّل المسؤولية
إن وقف إطلاق النار الذي توسّط فيه بوتين وأردوغان في إدلب في 5 آذار/مارس يسلّط الضوء على حقيقة أستانا: وهي أن القرارات الفعلية لا تُتَّخَذ هناك. وفي الواقع، لم يتم التوسط في أي من عمليات وقف إطلاق النار الرئيسية السابقة في سوريا ضمن صيغة أستانا الثلاثية الأطراف. وعلى غرار اتفاق الشهر الماضي، تم التفاوض بشأن “اتفاق سوتشي” في أيلول/سبتمبر 2018 حول إدلب وبشأن اتفاق تشرين الأول/أكتوبر 2019 حول شمال شرق سوريا بشكلٍ ثنائي بين موسكو وأنقرة.
وتم بناء صيغة أستانا بشكلٍ أساسي حول تركيا من أجل إبعاد أنقرة بصورة أكثر عن شركائها الغربيين. لكن في الوقت نفسه، تمنح هذه الصيغة أردوغان بعض النفوذ على موسكو. وتقلل هاتان الديناميكيتان المتعارضتان احتمال استدامة صيغة أستانا بينما تصبح المصالح التركية والروسية في شمال سوريا أقل توافقاً.
من الجدير بالملاحظة أن تركيا وروسيا وإيران لم تتمكن من الاتفاق على بيانٍ مشترك بعد اجتماع أستانا في 22 نيسان/أبريل بين وزراء خارجية هذه البلدان. وبدلاً من ذلك، أصدرت كلٌّ من وزارتيْ الخارجية الروسية والتركية بياناً صحفيّاً منفصلاً. ويعكس البيان الروسي نهجاً انتقائيّاً إزاء العملية السياسية السورية ويناقض مواقف تركية معينة. وهو لا يشير إلى “قرار مجلس الأمن رقم 2254” إلا من أجل التذكير بسيادة سوريا (والتي بالنسبة لموسكو وطهران تعني نظام الأسد)، بينما يشير بيان أنقرة إلى القرار من أجل الدعوة إلى عملية سياسية جوهرية. كما يقتصر الحوار الداخلي السوري في البيان الروسي على اللجنة الدستورية بقيادة الأمم المتحدة التي أُنشئت في أيلول/سبتمبر 2019، في حين تصف أنقرة إطار عمل “القرار 2254” على أنه أوسع من القضية الدستورية. بالإضافة إلى ذلك، تصرّ موسكو على رفع العقوبات الدولية ضد نظام الأسد بسبب الحالة الطارئة التي فرضها فيروس كورونا، بينما تركّز أنقرة على ضرورة تنفيذ تدابير لبناء الثقة بين الأطراف السورية وإطلاق العمل في القضية العالقة المتمثلة في إطلاق سراح المعتقلين والمختطفين. وعلى الجبهة العسكرية، يضغط البيان الروسي على أنقرة من أجل بذل المزيد من الجهد لفصل جماعات المعارضة عمّا يدعوه “الإرهابيين” في إدلب، مما يعني المقاتلين الجهاديين من «هيئة تحرير الشام».
وبالنسبة إلى وقف إطلاق النار في 5 آذار/مارس، فهو ما زال قائماً حتى الآن، وأُجريت ست دوريات روسية – تركية مشتركة في الأسابيع القليلة الماضية. ومع ذلك، من المرجح أن تستمر الاتفاقية فقط طالما يفتقر نظام الأسد إلى الموارد اللازمة لاستئناف هجومه. وعلى أي حال، لن تشكّل إدلب الحلقة الأخيرة في الحرب السورية. فسواء أوقفت تركيا النظام مجدداً [من التقدم] في إدلب، أو استعاد الأسد كامل الشمال الغربي أو ترك مقاطعةً مطوّقةً على غرار غزة تحت النفوذ التركي، فإن دمشق ستحوّل انتباهها في النهاية إلى الشمال الشرقي، حيث سمحت «قوات سوريا الديمقراطية» مسبقاً للنظام بالتوسّع في تشرين الأول/أكتوبر 2019 بعد أن سحبت الولايات المتحدة العديد من قواتها.
وعلى المدى القريب، ستستمر عملية أستانا في توفير المساحة العسكرية والدبلوماسية لروسيا من أجل إدارة أزمة تلو الأخرى. ومع ذلك، من غير المرجح أن توفّر حلّاً سياسيّاً مستداماً بسبب توقف جميع القضايا التي يُفترض أن تتعاطى معها: فوقف إطلاق النار يُستخدم لتحقيق مكاسب تكتيكية ونادراً ما يدوم؛ وتبقى عمليات تبادل الأسرى محدودة؛ ولا تُجرى مفاوضات سياسية بين الأطراف السورية؛ واللجنة الدستورية مشلولة بسبب العرقلة التي يمارسها الأسد على الإجراءات.
وسيعتمد بقاء أستانا على المدى الطويل بصورة أكثر على الترتيبات القصيرة المدى بين روسيا وتركيا. وعلى الرغم من أن الكرملين يرى ذلك على الأرجح نجاحاً في صيغة أستانا، إلا أن هذه الصيغة تسلّط الضوء على التحديات المقبلة التي ستواجه موسكو. وعلى الأغلب، سيعود القرار إلى تركيا بشأن المدة التي ستمضيها والمنفعة التي ستحققها في إطار الاستمرار في منح الاعتبار للعرض الروسي الذي فشل في حماية الحدود، أو إدارة تدفقات اللاجئين، أو معالجة القضية الأساسية التي تديم النزاع، وهي: انعدام عملية تفاوض قابلة للاستمرار، يحدد فيها السوريون بأنفسهم التنظيم المستقبلي للسلطة وممارستها المستقبلية في بلادهم.
تشارلز ثيبوت
معهد واشنطن