الرئيس ترمب مُصِرٌّ على تطبيق مشروعه المعروف بصفقة القرن. طوالَ الأشهر الثلاثة الماضية اجتمعت لجانٌ مشتركة أميركية إسرائيلية لتحديد خرائط المناطق التي ستقوم إسرائيل بضمّها في الضفة الغربية سواء بمبررات أمنية أو تتعلق بوجود مستوطنات يهودية. وفي الحالتين ستقتصر الأراضي التي سيقام عليها كيان فلسطيني باسم الدولة، افتراضياً على تلك التي يقيم فيها فلسطينيون، من دون أن تكون متواصلة جغرافياً. وهو نموذج جديد للدولة التي تفتقر إلى الوحدة الجغرافية، وكل جزء منها مُحاط بسيادة دولة أخرى لها اليد العليا في أمور السيادة والأمن والمياه والنقل وتحصيل الضرائب والأمور كافة التي تدخل في صلاحيات الدولة بالمعنى القانوني والواقعي المتعارف عليه.
إن وضع الخرائط بين الأميركيين والإسرائيليين من دون مشاركة فلسطينية يعني أن المطلوب من السلطة الوطنية الفلسطينية إما القبول بدون أدنى تغيير أو الرفض. وكلا الموقفين يمثل مأزقاً تاريخياً، ففي حالة القبول ستكون السلطة ورئيسها في مرمى النيران باعتبارها فرطت في الحق الفلسطيني في دولة متواصلة جغرافياً ولها سيادة تمارس صلاحياتها مثل أي دولة أخرى، وفي حالة الرفض كما هو حادث الآن فستتعرض لضغوط أقوى من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل، ويصبح من السهل عليهما تثبيت الادعاء بأن السلطة ورئيسها لا يصلحان لإقامة سلام، وبالتالي يصبح لإسرائيل الحق في أن تفعل ما تريد بدون أي قيود.
في آخر تطورات المواقف الأميركية أن الرئيس ترمب طلب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ألا يقوم بأي إجراء بضم الأراضي الفلسطينية التي تم تحديدها وفقاً للجنة الخرائط الأميركية الإسرائيلية إلا بعد الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والتي تحددت بناء على هذه الخرائط. وفي الظاهر يبدو الموقف الأميركي منصفاً، إذ يريد من الإسرائيليين الاعتراف بوجود دولة فلسطينية، عملياً لم يشارك الفلسطينيون في تحديد شكلها أو مساحتها أو حدودها أو صلاحياتها، وبما يجعل المطالبة – وفقاً للفهم الأميركي – من الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل وفق حدودها الجديدة وبيهوديتها أمراً طبيعياً، كخطوة مقابل خطوة. أما في الجوهر فالطلب الأميركي لا يعدو أكثر من عملية خداع سياسي ودعائي يدركه أصغر فلسطيني سواء في الداخل أو في الشتات. في الجوهر أيضاً فإن المعروض على الفلسطينيين والعرب أقل بكثير من دولة وأقرب إلى معازل ذات صلاحيات إدارية محدودة، لا تتناسب مع التاريخ الطويل من التضحيات التي بُذلت فلسطينياً وعربياً. وبعيداً عن بديل الرفض لهذا المعروض البخس، فإن البحث في استراتيجية نضالية فلسطينية جديدة على أن تكون مدعومة عربياً يبدو ضرورياً. فإذا كانت فكرة الدولة المستقلة غير قابلة للتطبيق، فمن الممكن التفكير في بديل الدولة الواحدة ذات القوميتين. هذا بديل مطروح كفكرة منذ فترة، ولكنه لم ينل البحث المتعمق في كيفية تطبيقه. في حوارات مع بعض الأشقاء الفلسطينيين جرت قبل عدة سنوات حول هذا البديل المحتمل لم يتوافر قدر كاف من الحماس لقبول الفكرة من حيث المبدأ، ولو على سبيل الدراسة والبحث ووضع بدائل يمكن اللجوء إليها عند الضرورة. في ظني أن جميع المعطيات تدفع إلى البحث في هذا البديل، وطرحه للنقاش العام فلسطينياً وعربياً من دون الانزلاق إلى دائرة الرفض المسبق أو التخوين أو رمي المختلفين بالتنازل والخضوع وما شابه.
المؤكد أن بديل الدولة الواحدة ذات القوميتين ليس خالياً من الصعوبات والعقبات، وهو ما يجب وضعه في الاعتبار. أبرز الصعوبات المنتظرة تشمل الموقف من السلطة الوطنية الفلسطينية، فهي قد بنيت أساساً وفقاً لاتفاقيات أوسلو باعتبارها خطوة وسيطة على طريق إقامة الدولة الفلسطينية، وهي بمثابة تدريب للكوادر الفلسطينية على إدارة شؤون الحكم من خلال هياكل يتم بناؤها وفقاً للمعايير المعروفة، وبحيث يصبح إعلان الدولة وفقاً للمفاوضات مع الطرف الآخر بمثابة إضفاء الطابع القانوني على هذه الهياكل لا أكثر ولا أقل. الآن هذه الهياكل نفسها في حال تمرير صفقة القرن عليها أن تتحول إلى كيانات إدارية وبلدية لا أكثر ولا أقل. ولذا يظل التساؤل مطروحاً فهل يمكن للسلطة بهذه المواصفات أن تقود النضال الفلسطيني وفق بديل الدولة الواحدة ذات القوميتين، أم أن الأفضل أن تعلن السلطة إنهاء دورها والعودة إلى منظمة التحرير الفلسطينية لتقود مرحلة تاريخية جديدة تحت مظلة الدولة الواحدة. في حوارات مع بعض الأشقاء الفلسطينيين قبل خمس سنوات لم يتحمس أحد لفكرة إنهاء دور السلطة الفلسطينية. كثيرون أشاروا إلى استحالة الفكرة أصلاً بغض النظر عن فشلها حتى تاريخه في تحقيق خطوة ملموسة على الأرض للحفاظ عليها من الاستيطان والتمدد اليهودي. آخرون أشاروا إلى حجم المصالح التي بُنيت على وجود السلطة الفلسطينية، ما يمنع كثيرين من مجرد التفكير في حل السلطة والعودة إلى منظمة التحرير الفلسطينية. في اعتقادي أن متغيرات الحاضر تدفع إلى أهمية تغيير مثل تلك القناعات.
صعوبة ثانية تتمثل في مدى استعداد المجتمع الإسرائيلي ذي الصبغة اليمينية المتصاعدة لقبول فكرة الدولة الواحدة ذات القوميتين، ليس لأنها تلغي حلم الحركة الصهيونية بوطن قومي لليهود فقط، وإنما أيضا لأن تاريخ الصراع وَلّد مشاعر عدائية إقصائية لكل ما هو فلسطيني وعربي، والمبدأ الحاكم لدى اليمين الإسرائيلي هو المباراة الصفرية وليس مباراة التفاوض ذات المكسب المشترك.
ثالث الصعوبات يتعلق بمدى استعداد فلسطينيي الداخل، لمساندة بديل الدولة الواحدة، لا سيما أن بعضا منهم لديه شعور بوجود فارق في الممارسة السياسية والنضج المؤسسي رغم كل القيود التي يتعرضون لها في داخل الدولة الإسرائيلية وقوانينها التمييزية، مع باقي المجتمع الفلسطيني الذي يفتقر إلى ممارسة سياسية ذات نكهة ديمقراطية، إضافة إلى مخاوف الذوبان في مجتمع فلسطيني أكبر في حال نشأت دولة واحدة ذات قوميتين. أما الصعوبة الرابعة فتتعلق بالرأي العام الفلسطيني نفسه ومعه المنظمات الفاعلة، في غزة والضفة معاً واستعداده لبدء مرحلة نضالية جديدة تختلف تماماً عن كل ما سبق، تخلو من العنف، ولها قواعدها القانونية والدعائية الجديدة، فضلاً عن تضحيات منتظرة لا يمكن حسم مداها.
وهناك أيضاً صعوبات أخرى تتعلق بالمواقف العربية والأوروبية والأميركية، خاصة الأخيرة التي سترى في بديل الدولة الواحدة تغييراً كاملاً لكل قواعد اللعبة، وغالباً لن يتفاعل معها بإيجابية. ورغم ذلك فمن المهم أن يبحث الفلسطينيون ووراءهم العرب عن بدائل أخرى بدلاً من التمسك ببديل واحد لم يطرح سوى ثمار محدودة تختفي رويداً رويداً.
د. حسن أبو طالب
الشرق الاوسط