الجزائر- طوى مقتل زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، صفحة مهمة في مسار أحد أكبر التنظيمات الجهادية في شمال أفريقيا والساحل الصحراوي، وسط تساؤلات عن المسوغ المثير الذي منحه الإنجاز المحقق من طرف الجيش الفرنسي في المنطقة، للجيش الجزائري من أجل تخطي حاجز الحدود الإقليمية، تنفيذا للتوجهات الأخيرة للقيادة السياسية في البلاد، خاصة وأن العملية وقعت على بعد كيلومترات قليلة من أقصى نقطة للتراب الجزائري في الجنوب.
لم يشفع تواري زعيم تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي عبدالمالك درودقال (أبومصعب عبدالودود)، عن الأنظار في السنوات الأخيرة، أن تكون نهايته على يد القوات الفرنسية العاملة في مالي، لينهي بذلك مرحلة من مراحل التنظيمات الجهادية في المنطقة، وفاتحا المجال أمام تأويلات متضاربة حول مصير التنظيم والقيادة المحتملة له في المستقبل.
وخيّم غموض كبير على وضع ومصير أحد أبرز القيادات الإرهابية المطلوبة دوليا، في السنوات الأخيرة، خاصة بعد الضربات العسكرية التي تلقاها التنظيم في الجزائر وتونس، فضلا عن خسارته لمواقعه الجغرافية في شمال الجزائر لصالح خلايا تنظيم جند الخلافة الموالي لداعش.
ورغم أن منطقة القبائل ظلت تمثل منذ العام 2004، القلاع الخلفية لتنظيم القاعدة المفضلة لعبدالمالك درودقال، إلا أن الوتيرة الميدانية والأضواء الإعلامية التي استقطبها داعش، حجب عنه الأنظار وجعله يدخل في مرحلة سبات شتوي، إلا بعد إعلان التنظيم عن تنصيب أبوعبيدة يوسف العنابي، على رأس مجلس شورى تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي عام 2018، وسط تساؤلات عن وضع القيادي الرمزي أبومصعب عبدالودود.
ولم تحقق وفاة الرجل مفاجأة للمتابعين للشأن العام، قياسا بتراجع قوة ونفوذ التنظيمات الجهادية في المنطقة، وإنما الإعلان عن ذلك في الشريط الحدودي الرابط بين الجزائر ومالي، هو الأمر المثير في المسألة، نظرا لتمسك الرجل طيلة السنوات الماضية بقلاعه الخلفية في منطقة القبائل بشمال البلاد، واستبعاد مغادرته لها نحو أقصى الجنوب.
ولا يستبعد مراقبون لمسار التنظيمات الجهادية، أن يكون تواجد أبومصعب عبدالودود، في الشريط الحدودي الجنوبي، خطوة لملء الفراغ الذي تركته تصفية أمير كتيبة “المرابطون” مختار بلمختار، وتوجها جديدا للرجل من أجل عقد تحالفات جديدة مع التنظيمات والكتائب الجهادية العاملة في الساحل الصحراوي.
ويلفت هؤلاء إلى أن التواجد المذكور، لا ينفي أيضا فرضية إعادة هيكلة هرم التنظيم بسبب الخلافات التي كانت تدب من حين لآخر بين رموزه، وأن تنصيب أبوعبيدة يوسف العنابي على رأس مجلس الشورى، مقدمة لسحب بساط غير معلن من درودقال، وهو ما يكون قد اضطره للانسحاب جنوبا بحثا عن مستقبل له وسط الجماعات المسلحة العاملة هناك.
ولم تخف منذ سنوات طموحات الرجل لتبوأ رأس التنظيم العالمي، بعد التراجع الجغرافي والميداني للقيادة التاريخية للقاعدة تحت إمرة أيمن الظواهري، ودفع بحسب مراقبين إلى نقل مركز القيادة إلى شمال أفريقيا والساحل الصحراوي، تحسبا لاحتواء الآلاف من الجهاديين في العراق وسوريا الذين كان يعتزم نقلهم إلى بلدانهم الأصلية في شمال أفريقيا ودول الساحل الصحراوي.
وظلت هيمنة كتيبة “المرابطين” وقبلها “الملثمين”، بقيادة من كان يوصف بـ”ثعلب الصحراء” (مختار بلمختار)، أكبر عائق أمام تمدد طموحات درودقال جنوبا، لاختلافات استراتيجية وأيديولوجية بين الرجلين، فمعرفة الأول بتضاريس الصحراء وتحالفاته المحلية قطعت الطريق على طموحات الثاني، ويبدو أن تواجده هناك لم يتحقق إلا بعد تصفية بلمختار.
وذكر موقع “مينا ديفونس” الجزائري المتخصص في الشؤون الأمنية والعسكرية، بأن “قوات خاصة من الجيش الفرنسي، قضت في الثالث من يونيو الجاري على أمير تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أبومصعب عبدالودود، وعدد من مساعديه في المنطقة المسماة “تالهنداك”، على الشريط الحدودي الجزائري المالي، والتي تبعد نحو 20 كلم عن أقصى نقطة في التراب الجزائري “تيمياوين”، وبنحو 60 كلم عن تيساليت المالية”.
ولفت المصدر إلى أن العملية شاركت فيها قوات فرنسية جوية وثماني طائرات هيلوكوبتر من نوع “تيغر”، قامت بإنزال عدد من القوات الخاصة، فضلا عن قصف الحيز الجغرافي المحدد منعا لأي فرار لعناصر المجموعة الإرهابية التي رصدت هناك بناء على معلومات استخباراتية.
ولم يصدر عن الجانب الجزائر أي تصريح أو تعليق بشأن العملية المعلن عنها من طرف السلطات الفرنسية، على اعتبار أن زعيم التنظيم المطاح به كان أكبر المطلوبين للمجموعة الدولية، كما صدر بحقه خمسة أحكام بالإعدام من طرف القضاء الجزائري، لاسيما وأن العملية تمت قريبا من الحدود الجزائرية، وتنقل الرجل يرجح أن يكون من الشمال إلى الجنوب لكن يجهل إن كان داخل التراب الجزائري أو على تراب الدول المجاورة.
ومع ذلك أثار الإنجاز المحقق من طرف الفرنسيين في المنطقة، تأويلات سياسية تعيد التضارب الذي لف مصرع عدد من قادة التنظيمات الجهادية خلال السنوات الماضية إلى الواجهة، خاصة وأنه تزامن مع احتجاجات سياسية واجتماعية في باريس ضد ممارسات التمييز والعنصرية ضد الأشخاص من أصول أفريقية، إلى جانب مظاهرات شعبية في باماكو احتجاجا على النفوذ الفرنسي في بلادهم.
كما شكّل الإنجاز المذكور، مسوغا مثيرا لتوجهات القيادة السياسية في الجزائر، نحو السماح لقواتها العسكرية بممارسة مهام أمنية وعسكرية خارج حدودها الإقليمية، على اعتبار أن العملية تمت على الشريط الحدودي، وهو ما يعزز فرضية وقوف ضغوط إقليمية فرنسية وأميركية على الجزائر، لإخراج جيشها من حدوده للمشاركة في عمليات الحرب على الإرهاب بالمنطقة.
ويعتبر القضاء على رأس أكبر التنظيمات الجهادية في العالم، أكبر نصر عسكري وسياسي للتواجد الفرنسي في القارة السمراء، خاصة بعد تنامي الاحتجاجات الشعبية والسياسية في عدة عواصم أفريقية، بعد تسجيل تجاوزات إنسانية وحقوقية تكون قد ارتكبتها القوات الأفريقية لمحاربة الإرهاب بقيادة فرنسا، وقد تم في مجلس الأمن الدولي.
ولم يعلن التنظيم إلى حد الآن عن مصرع الأمير المثير للجدل، ولا عن مستقبل هرم القيادة بعده، ولو أن تلاشي النشاط الجهادي في الآونة الأخيرة خاصة بالنسبة للقاعدة بات مثيرا، فالأضواء المسلطة على الصراعات الاستراتيجية الدولية وجائحة كورونا، لا يمكن أن تحجب الأنظار تماما عن خفايا وتطورات التنظيمات الإرهابية، إلا اذا لم تصبح ورقة صالحة لصناعة التحولات المتسارعة في العالم.
العرب