زمن الثورات الأيديولوجية العنفية انتهى. روسيا ليست الاتحاد السوفياتي الذي كان “قلعة الاشتراكية” ومركز الأحزاب الشيوعية، والحركات الثورية وحركات التحرر الوطني في العالم. والصين همها النمو الاقتصادي والتجارة والعولمة. وهي تمارس بالفعل سياسة “الصين اولاً” قبل شعار الرئيس دونالد ترمب “أميركا أولاً”. فلا الحزب الشيوعي الحاكم يشرف على أحزاب شيوعية في الخارج، ولا هو يدعم حتى “التنظيمات الماوية” المؤمنة بالثورة الدائمة. إذ الثورة الصينية وطنية أولاً. حتى في أيام ماوتسي تونغ، فإن رئيس وزارته الدائم شو إن لاي قال للرئيس ريتشارد نيكسون كما روى في كتابه “قادة”: “أنا صيني أكثر مما أنا شيوعي”. وإذا كانت الثورة الإيرانية التي شارك فيها اليسار والمحافظون واستأثر بها الإمام الخميني هي آخر الثورات الكبيرة في القرن العشرين، فإن طموحها لأن تأخذ دور الاتحاد السوفياتي كمركز لثورات أيديولوجية مذهبية في العالم العربي يصطدم بعقبات كبيرة.
في كتاب “انعكاسات الثورة الفرنسية”، تنبأ مؤلفه الفيلسوف البريطاني إدموند بيرك عام 1780 بسقوط الثورة قبل أن يأكلها “الرعب والعنف”. لكن مسلسل الثورات استمر. من ثورات “ربيع الشعوب” في أوروبا خلال منتصف القرن التاسع عشر إلى ثورات القرن العشرين وأهمها الثورة البلشفية الروسية وآخرها الثورة الإيرانية، فضلاً عن الثورة الفلسطينية والانقلابات العسكرية التي سميت ثورات في مصر والعراق وسوريا وسواها. والمصير كان ذاته تقريباً. أما المتبقي من الثورات التي تستخدم حرب العصابات في أميركا اللاتينية وأفريقيا، فإنها تحولت عصابات خطف وسطو لتأمين التمويل. حتى قضية عادلة مثل قضية الكرد، فإن ثورة حزب العمال الكردستاني بقيادة عبد الله أوجلان، المسجون حالياً في تركيا، لم تحقق أهدافها على مدى عقود.
والموسم المزدهر هذه الأيام ومنذ سنوات هو موسم الثورات الشعبية السلمية. من بيروت إلى هونغ كونغ. ومن العراق إلى الجزائر والسودان في الموجة الثانية من “الربيع العربي”، الذي أخذ اسمه من “ربيع الشعوب”. لكن الدرس واحد في الموجتين: الثورات الشعبية السلمية محكومة بمعادلة قاسية: مطالبة الحكام بإصلاح لا يريدونه لأنه يؤذي مصالحهم، والعجز عن تحقيق الإصلاح بالقوة الذاتية. ولا أمل لهم إن لم يدعمها الجيش، كما في تونس، حيث وقف على الحياد رافضاً أوامر السلطة السياسية، فهرب الرئيس زين العابدين بن علي ونجحت الثورة الشعبية في إعادة بناء السلطة. وفي السودان، حيث انحاز الجيش إلى الثوار وأطاح الرئيس عمر البشير وحكم الإخوان المسلمين، وبدأ العهد الانتقالي إلى الديمقراطية والدولة المدنية. وفي الجزائر، ومنذ أكثر من عام في أوسع ثورة شعبية ظلت سلمية على الرغم من القمع واعتقال الناشطين، أصرّ الجيش على الاحتفاظ بالسلطة الفعلية من وراء الستار، فأجبر الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة على الاستقالة، وعمل على انتخاب رئيس يلعب دور الواجهة.
وفي مصر استعاد الجيش السلطة من الإخوان المسلمين الذين سطوا على الثورة وربحوا الانتخابات بالعاطفة والمساعدات واستعجلوا “أخونة الدولة”. وفي ليبيا وسوريا واليمن، لعب العنف السلطوي دوراً في “عسكرة الثورة” بحيث تحول الصراع من أجل الانتقال الديمقراطي للسلطة إلى حروب أهلية تصاحبها تدخلات عسكرية إقليمية ودولية مباشرة في سوريا وليبيا وغير مباشرة في اليمن.
والتاريخ شاهد. كل ثورة تتكل على دعم قوى كبرى خارجية تصل إلى مكان لم يكن هدفها: “الثورة العربية الكبرى” بقيادة الشريف حسين والتي حرّضت عليها بريطانيا ضد السلطنة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى لقاء وعد بقيام مملكة عربية موحدة، انتهت إلى تقسيم المنطقة بحسب اتفاق “سايكس بيكو” وتقاسمها بين الانتدابين البريطاني والفرنسي. وثورات “الربيع العربي” انتهى معظمها إلى كوارث مأساوية تحت إشراف القوى الإقليمية والدولية.
كان ريتشارد هيلمز مدير الاستخبارات المركزية ثم السفير الأميركي سابقاً في طهران أيام الشاه يقول: “انسوا كل الهراء عن السياسة في الشرق الأوسط، وانتبهوا إلى أمور عمرها قرون: المذاهب، القبائل، العشائر والأعراق”. فهل نحن محكومون بأن نبقى في مرتبة ما قبل المواطنة والدولة؟ الأجيال الجديدة تقول: كلا، وتصرّ على النزول إلى الشارع. والتغيير قضية عمل طويل لا مسألة ضربة خاطفة. وقديماً قيل: “الذين لا يقرأون التاريخ محكومون بإعادته”.
رفيق خوري
اندبندت عربي