أطلقت مؤخرا عدة مبادرات وبيانات موقعة من جهات فلسطينية عديدة أهمها، في رأيي، مبادرة «ملتقى فلسطين» التي حظيت بتأييد المئات من الشخصيات والفعاليات الوازنة، تدعو جلها لانتخاب مجلس وطني جديد حقيقي يمثل الشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده وانتشاره، ويعامل كوحدة واحدة غير قابلة للتقسيم. وتتحدث الدعوات عن ممارسة الانتخابات المباشرة، حيث كان ذلك ممكنا وإلا فاللجوء إلى وسائل التكنولوجيا الحديثة، التي سدت هذا النقص وأصبحت قادرة على عقد الانتخابات والحملات الانتخابية، والمؤتمرات الصحافية، والتصويت وفرز النتائج عن بعد.
دعوات الانتخاب تتحدث عن مجلس وطني جامع لكافة أطياف الشعب الفلسطيني، بحجم معقول يكون بين 200 و250 عضوا، يقومون فورا بانتخاب لجنة تنفيذية فاعلة، قادرة على التحرك لإعادة لملمة الساحة الفلسطينية، والانطلاق من جديد استنادا إلى السردية الحقيقية القائمة على أن فلسطين كل فلسطين أرض واحدة لا تتجزأ، وأنها كلها محتلة من عدو استعماري استيطاني إحلالي، تفريغي عنصري لا يقبل أنصاف الحلول، ووجوده نفي لوجود الشعب الفلسطيني، وما فتئ يعمل على الاستيلاء على مزيد من الأرض، وتفريغ المزيد من سكانها. وكما أن الأرض واحدة فالشعب الفلسطيني واحد، ولا يقبل القسمة لا بالخطوط الخضر ولا الزرق ولا الهويات الزرقاء أو الخضراء، ولا بالأسلاك الشائكة أو الجدران العنصرية. وهذا الشعب الواحد يعيد تجديد حركة تحرره الوطني القائمة على النضال من أجل كل الأرض، وإقامة دولة العدل والسلام، والديمقراطية والتعددية والقانون، بدون نفي أو طرد أو استحواذ، أو إقصاء لأحد من جميع المواطنين المتساوين في الحقوق والواجبات، وبدون تمييز قائم على العرق أو اللون، أو الدين أو المذهب، أو اللغة أو الموقع الاجتماعي.
ليس أمامنا إلا النضال لتغيير موازين القوى وتحويل الاحتلال والعنصرية والحصار إلى مشروع باهظ الثمن
النضال سيكون على هذا الأساس، لا البحث عن دولة الوهم التي وعد الشعب بها وتبين أنها سراب، فالدولة المستقلة المترابطة القابلة للحياة وعاصمتها القدس الشريف قد تبخرت، ولم يعد هناك وقت نضيعه لدخول الجدل العقيم: دولة واحدة أم دولتان… فالمعروض علينا الاستسلام وقبول العيش كأفراد في معازل وكانتونات وجحور مجزأة، تحت سيطرة المحتل العنصري. وليس أمامنا إلا النضال لتغيير موازين القوى وتحويل الاحتلال والعنصرية والحصار إلى مشروع باهظ الثمن، ماديا ومعنويا واقتصاديا وأخلاقيا. والبداية تكون من انتخاب مجلس وطني جديد ينتخب لجنة تنفيذية مستعدة لحمل المشروع الوطني، كما أثبته ميثاق منظمة التحرير، لا كما شوهه الباحثون عن دولة الوهم.
هناك عشرات الأسباب التي تدعونا للدعوة لعقد انتخابات لمجلس وطني جديد، وفاعل وذي حجم معقول، ويضم شخصيات وطنية معروفة بنزاهتها، يتم اختيارها لتولي المسؤولية الصعبة، وسأعدد بعض الأسباب الأساسية التي تستوجب التجديد.
* الترهل الحالي لمؤسسة المجلس الوطني: آخر جلسة كاملة عقدت للمجلس الوطني كانت في نوفمبر 1988 في الجزائر، التي أعلن فيها «باسم الله وباسم الشعب نعلن قيام دولة فلسطين المستقلة». عقدت جلسة استثنائية في غزة بمن حضر عام 1996 لشطب بعض المواد في الميثاق الوطني الفلسطيني، المتعارضة مع اتفاقية أوسلو، ورسائل الاعتراف المتبادل، التي أكدت على الاعتراف بإسرائيل وبحل النزاع على أساس قراري 242 و338 والتخلي عن الكفاح المسلح، الذي سمي «عنفا وإرهابا» والتخلي عن التعبئة ضد العدو الغاصب، الذي سمي «تحريضا». وللتأكيد مرة ثانية على حذف هذه المواد تم تجميع نحو 800 شخص في ديسمبر 1998 أثناء زيارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون لقطاع غزة، وطلب منهم التصفيق والوقوف عندما قال رئيس الجلسة، هل توافقون على شطب المواد من الميثاق التي تتعارض مع عملية السلام؟ فصفقوا وقوفا أمام الرئيس كلينتون.
أما الدورة الثالثة والعشرون، التي عقدت في رام الله في 30 أبريل 2018 أي بعد 30 سنة من اجتماع الجزائر، فلم تكن جلسة بالمعنى الحقيقي، بل مهرجانا لتأييد الرئيس محمود عباس، في ظل محاولات الالتفاف العربية على قيادته، ودعم محمد دحلان قائدا بديلا. تم تجميع الناس بطريقة عشوائية، في ظل مقاطعة للفصائل الوطنية، وانتهى المؤتمر مثلما بدأ بالتصفيق للقائد.
* حجم المجلس: بين يدي نسخة لأعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، كما كان عام 2015 وعددهم 714. البرلمانات العالمية عادة لا تتجاوز المئات الثلاث، وأحيانا الأربع، وتنزل إلى ما دون المئة في كثير من البلدان الصغيرة والمتوسطة. فالولايات المتحدة الأمريكية بملايينها الـ330 عدد أعضاء مجلسي النواب والشيوخ 535، والبرلمان البريطاني 650 عضوا، وعدد أعضاء الدوما الروسي 450 عضوا، وكندا 338، والبرلمان الفرنسي يضم 384، والمصري 596، والألماني 630، والياباني 242 والهندي 560. أما الدول غير المعترف بها فعادة تضم برلمانات صغيرة مثل كوسوفو 120 وتايوان 113، وقبرص الشمالية 50.
إن تعويم المجلس الوطني بهذا العدد الكبير من المستقلين والفصائل والعسكر والاتحادات والنقابات، ليس له أي مبرر، إلا تحويله إلى مهرجان يصفق للقادة ويمرر ما يريدون. ولا عجب أن هذا المجلس نفسه مرر النقاط العشر، وحل الدولتين والاعتراف بقراري 242 و338، كأساس لحل الصراع، وأعلن الاعتراف بحق دول المنطقة بالعيش بسلام، ضمن حدود آمنة، وأعلن التخلي عن الإرهاب والعنف، وألغى الكفاح المسلح، الذي غير البرامج هي القيادة، والذي صفق لها معظم أعضاء هذا المجلس.
* الأعضاء – السن والموت: من بين الأعضاء الأصليين الـ714 هناك عدد كبير من الذين انتقلوا إلى رحمة الله منذ سنين، أو بلغوا من العمر عتيا، أطال الله في أعمارهم. ومنهم من لم يعد قادرا على القيام بأنشطة فكرية أو جسمية، بسبب وهن أو داء أو كليهما، شفاهم الله. وسأضرب بعض الأمثلة حتى لا أتجنى على أحد. فمن بين المشمولين في العضوية، مع أنهم انتقلوا إلى رحمة الله، الدكتور سميح فرسون الذي توفي عام 2005، وسميح أبو كويك وصبحي غوشة وأنيس البرغوثي وأحمد عبد الرحمن وتيسير عاروري، وعثمان أبو غربية وغسان الشكعة، وفاطة برناوي، وغيرهم الكثير. أما معدل أعمار الأعضاء الأساسيين فيتراوح بحدود 84 سنة، ومنهم من ناهز الـ90. الخلاصة أن التجديد أصبح ضرورة ملحة، إذ من غير المعقول أن يبقى الأعضاء القدامى، وفي كل مرة يتم دعوة أشخاص جدد ليملأوا الفراغات بناء على الولاءات ونظام المحاصصة، كما حدث في مهرجان 2018.
*نظام المحاصصة: تبدأ قائمة الأسماء المكونة من 27 صفحة، بأسماء المستقلين وعددهم 158 عضوا. ولو تفحصت القائمة لوجدت أنهم أيضا موزعون على الفصائل، لكنهم صنفوا كمستقلين مثل، سليم الزعنون وليلى خالد، وأحمد مجدلاني وغيرهم. بعد قائمة المستقلين تجد قائمة جديدة غريبة، أضيفت بعد العودة إلى البلاد تحت بند «الجدد في الوطن» وعددهم 86، ومعظمهم من الموظفين التابعين للسلطة أو الوجاهات العشائرية. يأتي بعدهم أعضاء المجلس التشريعي وعددهم 125 عضوا كما جاء في القائمة. وبعد ذلك يضاف 42 تحت بند قائمة العسكريين، الموزعين على الفصائل، بحيث تأخذ فتح دائما حصة الأسد. بعد ذلك تأتي حصص الفصائل فتمنح فتح 51 مقعدا والجبهتان الشعبية والديمقراطية 21 لكل منهما وحركة فدا 13 مقعدا، وجبهة التحرير الفلسطينية 12 والصاعقة 12. وجبهة التحرير العربية وحزب الشعب 9 مقاعد لكل منهما، بينما تمنح حركة الجهاد الإسلامي 5 مقاعد وجبهة النضال 7 مقاعد. وبعد الفصائل يأتي دور الاتحادات والنقابات، فيمنح اتحاد المرأة 27 مقعدا، فالعمال 18 فالمعلمون 14 فالطلاب 13 فاتحاد الكتاب 8، أما اتحاد الصحافيين فواحد فقط، علما أن عدد الصحافيين في أي بلد يفوق عدد الكتاب الممتهنين. ثم تعطى 10 مقاعد للأطباء، مدمجين في الهلال الأحمر الفلسطيني. كما أعطيت بعض المقاعد لحركات لم يسمع بها أحد. هذا العدد الكبير من الأعضاء لا يمكن أن يقوم بمناقشة جادة لأي موضوع مصيري مثل اتفاقيات أوسلو، أو إلغاء بنود من الميثاق أو التصدي لصفقة القرن أو ضم القدس أو ضم 30% من الأرض الفلسطينية أو مواجهة الانقسام بين سلطتي فتح وحماس. لهذه الأسباب عبرت القيادة من مرحلة التحرير إلى مرحلة التسوية وتنازلت عن 78% من فلسطين في اتفاقيات أوسلو في غياب مجلس تشريعي فاعل ومستقل وممثل حقيقي ملتزم بميثاق لا ينصاع لأوامر رئيس أو زعيم أو قائد. فالزعماء إلى زوال والوطن باق، هذا أوان النهوض الوطني قبل فوات الأوان.
عبدالحميد الصيام
القدس العربي