لم يدر في ذهن فيكتور فرانكشتاين وهو يصنع وحشه (مخلوقه)، أن هذا الوحش سيتمرد عليه ويفرض شروطه، بل ويورطه في جريمة من جرائمه. فتحول الصانع، في النهاية، إلى رهينة بيد صنيعته! وبالتأكيد لم يكن فرانكشتاين يمتلك أي جواب عن سؤال وحشه: «لماذا شكلت وحشا شنيعا، ثم انقلبت عليه وأصبحت حتى انت تشمئز منه»؟
هكذا تماما كان الحال مع وحش الطائفة الذي تمت صناعته في العراق، ولكن الصانع هذه المرة لم يكن واحدا، بل كان هناك صناع كثر، بعضهم ساهم بأصالة في صناعة هذا الوحش، وبعضهم شارك بالتصفيق والتهليل، وبعضهم بالصمت. ففي النهاية تواطأ الكثيرون لصناعة هذا الوحش، كي يواجه وحش داعش، دون ان ينتبهوا، ولو للحظة، أن الوحوش لها صيرورتها الذاتية بعيدا عن إرادة، ونوايا، وسذاجة صانعيها!
الغالبية كانت تعلم تماما العلم، بأن الأجزاء الرئيسية لهذا الوحش كانت مصنعة أصلا قبل الإعلان عن الوحش بشكل رسمي واحتفائي، وكانوا يعلمون بأن ثمة قرارا صريحا بضرورة إكتمال تصنيعه، من أجل حماية مصالح الطائفة كما يدَعون، وخلال سنوات 2010 ـ 2014 شاهد الجميع وسمع، وقرأ، عن هذا المشروع الخطير، وعن االاختبارات التي أجريت لهذا الوحش في سوريا، وفي أطراف بغداد، لكنهم صمتوا وكان التواطؤ سيد الموقف، ففي النهاية لا ضير من حماية الطائفة وبكل الوسائل وفي كل مكان، مادامت الوسيلة طيعة ومسيطرا عليها!
بعد ظهور داعش، تواطأت الطائفة مع ما قام به صناع الحشد من تدليس على فتوى «الجهاد الكفائي» التي دعت المواطنين للتطوع في الأجهزة الأمنية لمواجهة داعش، وذلك عبر «استخدام» هذه الفتوى ليس لإطلاق وحش الطائفة المكتمل الصنع بل من أجل إضفاء صفة القداسة عليه. ولم يسأل أحد من الطائفة كيف، ولماذا، ولمصلحة من، تم تحريف الفتوى! بل تجاوز الأمر الصانعين إلى الدولة نفسها حين مولت هذا المشروع ضمن قانون موازنتها عام 2015 دون غطاء قانوني!
في مواجهة وحش داعش، كان وحش الطائفة يمارس أبشع أنواع الجرائم، وكان حريصا على توثيق بعضها، لبث الحماسة في الطائفة، ولبث الرعب في قلوب «أعدائها» المتخيلين! وكانت جرائم الحرب، والجرائم ضد الانسانية، التي ترتكب، تحظى بغطاء سياسي صريح، وبغطاء مجتمعي اكثر صراحة. وتحظى بالتبرير والشرعنة أيضا من خلال اعتبارها سلوكا فرديا! هذا إذا تم الاعتراف به أصلا؛ فالجريمة في العراق تحدَد على أساس هوية فاعلها وليس على أساس الفعل نفسه! هكذا كان الإفلات من العقاب سياسة منهجية، فأي عقوبة من شأنها أن تمس قدسية هذا الوحش، وبالتالي ستقدح في الطائفة نفسها.
في مواجهة وحش داعش، كان وحش الطائفة يمارس أبشع أنواع الجرائم، وكان حريصا على توثيق بعضها، لبث الحماسة في الطائفة، ولبث الرعب في قلوب» أعدائها» المتخيلين! وكانت جرائم الحرب، التي ترتكب، تحظى بغطاء سياسي صريح
والغريب هنا أن هذا التواطؤ شارك فيه المجتمع الدولي أيضا، حين وجد أن مصلحته تقتضي السكوت عن جرائم وحش الطائفة من أجل الخلاص من وحش داعش، ولو مؤقتا!
في حزيران/ يونيو 2016 يقوم «فرد» اسمه «هواري بومدين داؤد»، ينتمي إلى منظمة بدر، أحد الاجزاء الرئيسية التي تشكل وحش الطائفة، بقتل سبعة عشر نازحا مدنيا من منطقة السجر في محافظة الأنبار، ودفنهم في مقبرة جماعية! وبعد اكتشاف الجريمة، لم يسأل أحد كيف يمكن لـ «فرد» هو جزء من تشكيل قتالي، أن يقتل هذا الكم من البشر الأبرياء ويدفنهم بمفرده! تم توجه التهمة له بوصفه «فردا» لا يمثل مجموعته! ثم تنتهي اللجنة التحقيقية التي شكلها رئيس مجلس الوزراء حينها، الدكتور حيدر العبادي، إلى تأكيد وقوع الجريمة، وذلك بعد أن أشرفت بنفسها على إخراج جثث المغدورين من المقبرة الجماعية. وأكدت اللجنة أن «المتهم» موقوف على ذمة القضية، وانه متهم بموجب المادة 4 من قانون مكافحة الإرهاب، وأن القضية معروضة أمام المحكمة الجنائية المركزية. واليوم بعد مرور 4 سنوات على هذه الجريمة، لم يصدر أي حكم فيها، بل اختفت القضية، واختفى المتهم، فليس من مصلحة الطائفة تجريم وحشها!
مع اندلاع احتجاجات تشرين الأول/ اكتوير 2019، بدا واضحا للطائفة، أن وحشها الذي ساهمت في صنعه، وسكتت على انتهاكاته، وجرائمه، ونشاطاته المافيوية، قد ارتدَ عليها، ونبهتها طلقات القناصين إلى أن من يتعلم لغة الدم لن يستطيع نسيانها، وأن لغة التخوين والعمالة التي يستخدمها هذا الوحش حين يخاطبهم بها اليوم هي نفسها التي استخدمها ضد أعداء الطائفة «المتخيلين» !
لم يعد الوحش يقبل بدور كـ «صنيعة» للطائفة، بل أصبح يفرض شروطه، وبالقوة، ليس على الطائفة التي صنعته وحدها، بل على الدولة كلها!
في رواية فرانكشتاين للروائية ماري شيلي، يسأل الوحش الدكتور فرانك فرانشكتاين سؤالا إشكاليا: «لماذا شكلت وحشا شنيعا، ثم انقلبت عليه وأصبحت حتى أنت تشمئز منه»؟ واليوم فإن وحش الطائفة في العراق يسأل السؤال نفسه وبكل صدق، لأنك عندما تصنع الوحش، وتقدسه، وتهلل له، وتغطي عليه، وتكون شريكا متواطأ معه في كل ما قام به حكما، ثم تنتبه فجأة إلى أنه بات يشكل خطرا عليك، وعلى الدولة ومستقبلها، فليس من السهل عليه أن يتحمل انقلابك هذا، لهذا عليك أن تقبل كل ما سيقوم به، هذا إذا كانت الطائفة فعلا قد قررت التخلص نهائيا من وحشها، وهو أمر أشك به!
في روايته الرائعة «فرانكشتاين في بغداد»، يعلمنا الروائي احمد سعداوي حكمة تقول إن «من يرتدي تاجًا، و لو على سبيل التجربة، سيبحث لاحقًا عن مملكة»، فكيف لك أن تعترض على الوحش الباحث عن مملكته، او جمهوريته بالأحرى، إذا كنت أنت بنفسك من وضع التاج على رأسه؟
يحيى الكبيسي
القدس العربي