كثيرا ما تباهى المرشد الأعلى علي خامنئي بأن إيران “جزيرة آمنة وسط منطقة لا تعرف الأمان”.
وقد خطب عند قبر الخميني في الذكرى الخامسة والعشرين لوفاته معلنا أن إيران، رغم العقوبات المفروضة عليها، “تطلق الأقمار الصناعية، وترسل الكائنات الحية إلى الفضاء، وتنتج الطاقة النووية، وباتت واحدة من الدول العشر الأوائل في الكثير من العلوم الحديثة”.
ويؤكد باستمرار أن “إيران في عهده استطاعت بملايينها الـ75 أن تقف في مواجهة الكيان الصهيوني، وأن تدافع عن المظلومين بكل قوة”، وأن “التجربة التي حققها الشعب الإيراني خلال العقود الماضية ستوصله إلى القمة”.
ولم يختلف عنه قادة نظامه الكبار، وخاصة العسكريين المقربين منه، فقد كانوا يتباهون، بمناسبة ودون مناسبة، بأنهم موجودون في الخارج، في العراق وسوريا واليمن وفلسطين، لكي لا يحاربوا أعداء النظام في داخل إيران ذاتها.
ولا أحد ينسى علي يونسي، مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني، حين غازل مواطنيه بأن “دولة الإمام الخميني تمكنت من تحقيق حلم الأجيال، وجعلت من إيران إمبراطوريةً فارسية جديدة عائدةً إلى عاصمتها بغداد”.
ولا أحد ينسى المتحدث باسم القوات المسلحة الإيرانية، العميد مسعود جزائري، حين قال إن “سلوك واشنطن قد أتعب العالم”، و”حان الوقت لنلقن أميركا دروسا جديدة”.
وكان، نفسه، قد قال قبل ذلك إن “الأميركان وحلفاؤهم يدركون أن العدوان على الجمهورية الإسلامية الإيرانية يعني زوال تل أبيب، وإشعال نار الحرب داخل الولايات المتحدة ذاتها”.
وليس بعيدا، تصريح الأدميرال علي فادافي، قائد البحرية الإيرانية التابعة للحرس الثوري الذي تحدى فيه أميركا وأكد أن “القوات الأميركية لا تضاهي الإيرانية قوةً، على البر وفي البحر”، و أن “على الولايات المتحدة أن تخشى إيران”. ثم نصحها بالانسحاب من العراق ومن منطقة الخليج كلها.
ولكن الذي أصبحت الجماهير الإيرانية تراه وتسمعه، اليوم، شيءٌ آخر مختلف تماما وصادم إلى حدٍ بعيد.
فبعد أن كانت تتلقى، كل شهر، وأحيانا كل أسبوع، خبرا عن قصفٍ إسرائيلي أو أميركي جديد لمعسكرات إيرانية في سوريا والعراق، وتنتظر الرد من جنرالات الإمبراطورية الفارسية العظمى، دون جدوى، أصبحت في هذه الأيام تُفاجأ، كل أسبوع، وأحيانا كل يوم، بانفجارات وحرائق في إيران ذاتها، وليس في مستعمراتها الخارجية البعيدة، لتكتشف أن مقولة المرشد الأعلى عن الجزيرة الآمنة الواقعة في محيط غير آمن أكاذيب، وبالأدلة والقرائن والبراهين.
فمنذ مقتل قاسم سليماني، وبالطريقة التي تم اصطياده بها، بدأت هذه الجزيرة الآمنة تترنح بفعل ضرباتٍ مفاجئة مؤذية جدا تُحرِق وتدمر مواقع حيوية، بعضها عسكري واقتصادي وصناعي، وبعضها نووي، في طهران ومدن رئيسية أخرى، مجهولٌ فيها الفاعل والسلاح الذي استخدم في تنفيذها بهذه الدقة والفاعلية.
ثم أصبحت هذه الجماهير المحبطة ترى بعيونها وتسمع بآذانها قادةَ الإمبراطورية العظمى يلوذون بصمتٍ عجيب وغريب، ثم يأمرون بعض خدمهم ووعّاظهم بالترويج لفكرة أن المرشد ومعاونيه الكبار يدرسون ويتقصون ويدققون ليتأكدوا من هوية الضارب، ومن نوع السلاح الذي استخدمه في جريمته، لكي يحددوا نوع الرد، ويختاروا ساعته، ويقرّروا درجة سخونته، ولكن بلا استعجال، تماما كما كانوا يفعلون في أعقاب كل ضربة سابقة كانت تصيبهم من أعدائهم الكثيرين المتربصين بهم في سوريا واليمن والعراق.
والمهم هنا أن الانفجارات والحرائق الجديدة، سواءٌ كانت إسرائيلية أو أميركية، أو كانت محلية قامت بها أحزاب أو قوميات أو طوائف معارضة مقموعة في الداخل، فإن ما يحدث لم يكن ليحدث لو كان النظام قادرا، فعلا، على منع حدوثه.
النظام الإيراني اليوم في حيص بيص. فلا هو قادر على ردٍّ يعلم بأنه سوف يكلفه ثمنا باهظا، ولا هو قادر على عدم الرد فيخسر احترام مواطنيه وخدمه العراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين والفلسطينيين، ويظهر في نظر أعدائه الكثيرين حول العالم تلاّ من قش، أو بيتا من زجاج آيلاً للسقوط.
فماذا يمكن أن يفعله لينتقم؟ هل يحرق بصواريخه وميليشياته قواعد الجيش الأميركي في المنطقة وبوارجَه الحربية التي تتجول في الخليج العربي والبحر العربي والبحرين الأبيض والأحمر لتحاصره وتخنقه وتُفقره وتُهدد بقاءه في السلطة؟
أم يباغت إسرائيل بحرب شاملة تشنها عليها كتائب حسن نصرالله بصواريخه المكدسة، فيمحوها من الوجود، مثلما وعدَنا من عشرات السنين؟ خصوصا وقد استمع إلى الجنرال كينيث ماكينزي، القائد العام للمنطقة الوسطى في الجيش الأميركي، يعلن، بصراحة وبالقلم العريض، أن “أيّ تصرف عسكري تقوم به إيران في المنطقة ستكون تكلفته باهظة”.
وكان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد وجه في الرابع من يناير من هذا العام، تهديدا مباشرا لنظام الولي الفقيه، قال فيه إن “واشنطن حددت 52 هدفا إيرانيا سيتم قصفها إذا استهدفت طهران أيّ أميركي، أو مواطن من أصول أميركية انتقاما لمقتل قاسم سليماني”.
ويقال إن الانفجارات والحرائق الأخيرة في إيران وراءَها إسرائيل وليس أميركا، باعتراف أطراف إسرائيلية رسمية وغير رسمية.
وإذا ما صح ذلك فإنه يعني أن هذا الكيان الصغير الذي يسميه القادة الإيرانيون بـ”المصطنع” قد أصبح القوة الضاربة الوحيدة القادرة على اختراق الداخل الإيراني، بعد أن جعل تدمير معسكرات الحرس الثوري وميليشياته في سوريا ولبنان والعراق لعبتَه المفضلة.
وبالبحث والتدقيق نجد أن غياب القوة الرادعة القادرة على وقف إسرائيل عند حدها هو السبب، والفضل في ذلك يعود، كلُه، إلى خليفة المسلمين الجديد، حسين هذا الزمان، علي خامنئي، وحده لا شريك له.
فهو الذي جعل الملايين الإيرانية لا تلوذ بالصمت فقط، بل تتظاهر ضد النظام، وتدعو لإسقاطه، متجاهلةً أن الإسرائيليين قد انتهكوا حرمة بلادها، وكأنها شامتة ومستبشرة بقرب سقوط هذا النظام الذي أذلها وجوّعها وقمَعَها وجهَّلها وسلّط عليها أسوأ ما في جعبته من القتلة والجهلة والمفسدين.
فكيف تنسى أنه قتل المئات والآلاف من أبنائها وبناتها الذين دأبوا، منذ قيام النظام، على التظاهر والعصيان مطالبين بالحرية والكرامة ولقمة العيش؟
وأمس، أمس فقط، أطلقت قوات النظام الرصاص الحيّ على المتظاهرين في مدينة بهبهان، وفقا لوكالة “هرانا” الحقوقية الإيرانية، ليس لأنهم مسالمون ومحتجون فقط على تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ولكن لأنهم هتفوا “لا غزة، لا لبنان، روحي فداء إيران” و”لو هاجمتمونا بالمدافع والدبابات، الملالي يجب أن يرحلوا”. و”لا نريد حكم الملالي”، و”الإيراني يموت ولا يقبل المذلة”.
وفي خارج إيران أصبحت الشماتة أكبر وأعم. فالجماهير العربية والإسلامية، كلُها، تقريبا، لم تخرج، كعادتها، طالبة أن تتطوع لنجدة الشعب الإيراني الجار والشقيق والصديق ونُصرته على غطرسة الإسرائيليين، ولو بالكلام، وهو أضعف الإيمان، ولكن لاذت بصمتها ولم تعترض على ما فعله الإسرائيليون بالنظام الذي غزا بلادها، وأذاقها مُرَّ العذاب، وخرّب حياتها، ونهب ثرواتها، وأغرقها في أحزانها ومآتمها، وعطل برامج إعمارها وتقدمها، ونشر فيها الجريمة، وسلط عليها ميليشياته المنفلتة الفاسدة، وشغَل حكوماتها بهمِّه، وباتّقاء شرّه، وأجبرها، أخيرا، على وضع إسرائيل التي كانت أولَ أعدائها في قائمة آخر اهتماماتها.
وأخيرا، نتساءل: هل يستطع النظام الإيراني أن ينجو، هذه المرة، بجلده من كماشة العقوبات الأميركية وكورونا وضربات القوى الخفية لمواقعه الصناعية والنووية، بالتزامن مع الثورات الجماهيرية الواسعة المتصاعدة ضده وضد وكلائه في العراق ولبنان، ومع إخفاقاته العسكرية والاقتصادية والسياسية في سوريا واليمن وفلسطين، أم تكون هي القاضية وخاتمة أحزان الإيرانيين والعرب والمسلمين والعالمين أجمعين؟ الله أعلم.
العرب