الانسحاب التدريجي للنفوذ الأمريكي من الشرق الأوسط يتواصل منذ نهاية حرب العراق، وهي الحرب التي وضعت واشنطن أمام نتيجة مفادها، أن التدخل العسكري المباشر تكاليفة البشرية والاقتصادية أغلى من ثماره، وقد لا تكون هناك ثمار اصلا، عندما يؤدي تدخل أمريكي يسعى لخريطة شرق أوسط جديد، إلى شرق أوسط إيراني يقوده نظام تعتبره الولايات المتحدة أنه «الراعي الأول للإرهاب في العالم».
ويوم أن خرج أوباما بمقولة في أحد خطاباته، بأنه تعلم «درسا قاسيا» في العراق، شارحا كيف أن القوة العسكرية الأمريكية، لا يمكن لها وحدها تحقيق أهداف واشنطن، لم يكن هذا التوجه مجرد فلتة سياسية، بل أتت في سياق من عشرات التقارير والدراسات الأمريكية، الداعية لمراجعة جدوى السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، من تقرير بيكر هاملتون، إلى دراسة الجيش الأمريكي الأخيرة في العراق، إضافة لخلاصات مراكز الأبحاث الأمريكية والخبراء الذين عملوا في المنطقة لسنوات كدبلوماسيين، ومنهم مارتن أنديك، الذي قال في مقال له مؤخرا «إن البقاء في الشرق الأوسط لم يعد يستحق».
ومع ذلك، فإن المزاج العربي عموما، وفي العراق وسوريا خصوصا، ينتظر من الأمريكيين وضع حد وابتكار حل ما، لإنهاء احتراب أهلي لا ينتهي، أو لنصرة طرف على آخر، فمنتظرو المهدي القادم من البيت الأبيض لا يرون أملا بالنصر إلا بحلوله بينهم، ولا يرون سببا لانتصار عدوهم عليهم إلا بـ»مباركة» الأمريكي له، فأمريكا هي الدواء وهي الداء، تعز من تشاء وتذل من تشاء. وحتى بعد سنوات من انسحاب الجيش الأمريكي من العراق، فإن الكثير من العرب السنة، الذين كانوا أكبر الخاسرين من هذا الاحتلال، أصبحوا يرون بالتدخل الأمريكي، وإن كان عسكريا، منقذا وحيدا لهم، أمام خصومهم من الميليشيات والقوى الشيعية المتحالفين مع إيران، وباتوا لا يجدون حلا لمواجهة الإيراني إلا بالأمريكي، وكذلك الأمر بالنسبة للكثيرين من ابناء المعارضة السورية، الذين يعلقون أسباب إخفاقهم ضد نظام دمشق بـ»الخذلان الأمريكي» وفي الوقت نفسه، فإن أغلبهم، لا يجدون سبيلا لإسقاط النظام، إلا بعون واشنطن، متجاوزين كل الاعتبارات وتوازنات القوى المحلية والإقليمية، والتحالفات الواجب إتقانها قبل تلقي الدعم القائم على مصالح مشتركة بدون استجدائه. فقانون قيصر مثلا، أعاد الأمل أو «الأمنيات بدور أمريكي في إضعاف النظام، حتى إن تعارض مع سياق ما جرى في سوريا منذ 2011 عندما كانت المعارضة مدعومة بحلفاء غربيين تواجه النظام وإيران وهو في أضعف حالاته، وبدون دعم روسي حينها، وحتى إن قال بول بيلار مساعد مدير المخابرات الأمريكية سابقا: «قيصر لن تغير سلوك النظام، هناك نظام مصرّ على أن مواصلة الحرب التي استمرت 9 سنوات بدون أن يغير مساره، حقيقة الأمر، سواء نحب هذا أو لا، فإن الأسد بمساعدة حلفائه الروس والإيرانيين، انتصر في هذه الحرب، ما زال للمعارضة معقل بإدلب، لكن لا أرى طريقة تحت أقصى الضغوط من جانب أمريكا والمجتمع الدولي، تجعل النظام يغير سلوكه».
معظم حروب أمريكا الأخيرة على أمم أخرى، فشلت في تحقيق ما نجحت به مع العرب
ربما يشترك المزاج العربي عموما في هذه النظرة لأمريكا، بأنها «تعز من تشاء وتذل من تشاء»، ربما لأن العرب دائما ما خسروا معاركهم معها، وبالتالي فإن هذه النظرة العربية لأمريكا الـ»فعالة لما تريد» قد تنطبق على العرب فقط، لأن قوتها العسكرية والسياسية تنجح دائما في إسقاط انظمتهم واحتلال بلدانهم وامتهان سيادتهم، بينما نجد أن معظم حروب أمريكا الأخيرة على أمم أخرى، فشلت في تحقيق ما نجحت به مع العرب، فقد صمدت أنظمة طالبان وفيتنام وكوريا الشمالية وكوبا أمام أمريكا، ونجحت في توحيد صفوفها محليا أولا، وتشكيل تحالفات إقليمية ثانيا، وإدارة التحالفات للنصر بمعزل عن أمريكا، بل ضد أمريكا نفسها، لتتمكن من المطاولة بالحروب، حتى خسرت أمريكا في فيتنام مثلا 45 ألف جندي ولم تتمكن من حماية سايغون ،فكانت نتيجة هذه الحروب الثلاث، أن أمريكا انسحبت والانظمة التي شنت الحرب لإسقاطها بقيت إلى اليوم، بل إن قادة طالبان الذين يتفاوضون اليوم مع واشنطن، ويحكمون نصف أفغانستان، كان الكثير منهم سجناء عند الامريكيين في غوانتامو.
وائل عصام
القدس العربي