معذورون هم اللبنانيون الذين تحلقوا حول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكذلك الذين جمعوا مئة ألف توقيع مطالبين بالعودة إلى أيام الانتداب الفرنسي.
فبالرغم من مرارة ذكريات الاستعمار الفرنسي لسوريا ولبنان، ورغم مخلفاته التي أنتجت النظام الفاسد الذي ختم جرائمه بحقهم بالانفجار المدبر الأخير، فإنهم ينسون أن (الأم) فرنسا، وليس غيرها، هي التي التقطت خميني من الحدود العراقية الكويتية عام 1978 وسخرت له طائرة خاصة، ونقلته معززا مكرما إلى باريس، لتوفر له كل ما يحتاجه لإسقاط نظام الشاه.
وكانت المخابرات الفرنسية هي التي تحمل أشرطة الكاسيت التي يسجل عليها بصوته دعواته إلى الثورة، وهي التي أعادته حاكما مطلقا لإيران على متن طائرة فرنسية خاصة أيضا، وهي تعلم بأنه سيطبق نظريته الشريرة التي يدعو فيها إلى تصدير الثورة إلى دول المنطقة بقوة السلاح وبالقهر والحروب. ثم إن فرنسا،على مدى ثلاثين عاما، لم تفعل شيئا لحماية الشعب اللبناني وهي ترى إيران المخربة المدمرة، باسم مقاومة إسرائيل وبسلاح حسن نصرالله، تتمدد وتهيمن وتعبث وتدمر، وكأن (الأم) لا تسمع ولا ترى.
ولكن، وهي حقيقة محزنة، ينبغي أن نعترف بأن اضطرار متظاهرين لبنانيين إلى الدعوة لعودة الاستعمار الفرنسي للبنان هو تعبير غير مباشر عن إدانتهم للنظام السياسي اللبناني الطائفي القبلي، الذي ظلت تتوارثه وتتقاذفه الأسر الإقطاعية ذاتُها من عشرات السنين. وهي في الوقت ذاته شتيمة جارحة للنظام العربي، الذي لم يقف مع الشعب اللبناني بحزم وحسم في مواجهة الظلم والفساد والعمالة، ولم يفعل شيئا ذا قيمة لمنع إيران من التسلل في جنح الظلام لتمسك بمفاصل النظام، كلها، ولتمكّن سلاح حزب الله من أن يكون هو الشعب والحكومة والبرلمان.
ولو حلت واحدة، فقط، من الكوارث التي شهدها الشعب اللبناني، خصوصا في سنواته الأخيرة، بأي شعب آخر في العالم لفقد صبره، ولكفر بالوطنية، ولطلب النجدة من (الشيطان) الأجنبي ليعينه على (الرحمن) المحلي، ولا يلومه أحد.
فالفاجعة الأخيرة الكبيرة التي قتلت 150 شهيدا، وخلفت 6000 جريح ومصاب ومفقود، ودمرت منازل الآلاف من اللبنانيين ومصادر أرزاقهم، وحولت عاصمتهم إلى رماد، كسرت، فوق ذلك كله، كبرياءهم، وحولتهم إلى أبناء سبيل ومساكين يترقبون الإعانات والصدقات من القريب والبعيد، بعد أن كانوا أكثر شعوب المنطقة رخاء وهناء وثقافة وحضارة.
وبعد البحث والتدقيق يتبين للقاصي والداني أن الفاعل واحد، ومعروف، ولا يحتاج إلى أدلة وبراهين. فهو القدم الإيرانية الشريرة الذي لم تدخل أرضا إلا أحرقت فيها الزرع والضرع، وأنبتت فيها الفساد، وأباحت القتل، ونشر الجهل والخرافة، وخربت حياة أهلها الآمنين.
إنها الأقوى من كل قوي في لبنان، وهي الآمرة والناهية، والصانعة الأولى والأخيرة لرؤساء الجمهورية ورؤساء الوزراء والوزراء والنواب والمدراء وقادة الجيش ورجال الأمن والمال والاقتصاد، وهي التي أفقدت العملة اللبنانية 75 في المئة من قيمتها، وأشاعت البطالة والفقر، وجعلت مدخرات اللبناني من العملات الصعبة قبض رماد.
ألم تروا حسن نصرالله على شاشات التلفزيون يتحدث عن الفاجعة وقتلاها وجرحاها ومفقوديها وخراب البيوت، مبتسما، وهو الذي بكى بدموع ساخنة، وعلى شاشات التلفزيون أيضا، لمقتل واحد تافه قاتل اسمُه قاسم سليماني؟
والشيء بالشيء يذكر. فليس هذا هو حال اللبنانيين وحدهم. ففي العراق، أيضا، فعلت القدم الإيرانية الشريرة ما فعلته باليمن وسوريا ولبنان. فهي، بوكلائها فرسان العملية السياسية الفاسدة الفاشلة، جعلت نصف العراقيين، إن لم نقل أغلبهم، يترحمون على أيام الانتداب البريطاني، ويتحولون من مقاومين، بالأمس، لجيوش الاحتلال الأميركي ليصبحوا مناصرين، ومؤيدين لبقاء القواعد العسكرية الأميركية، بل مطالبين بعودة الاحتلال الأميركي من جديد ليُكفر عن ذنبه، ويخلصهم من كوابيس الحكم الفاسد العميل، برغم أنهم عارفون بأن الاحتلال الأميركي ذاته هو الذي جاء بهذه الحزمة من الحكام، وهو الذي أقام نظام المحاصصة الطائفية الفاسد الحالي، وهو الذي تحالف مع الإيرانيين، وسلمهم الجمل بما حمل. ولكن الحمّى أخفُ على المريض من الموت، كما يقولون.
ثم ألم تروا الآلاف من السوريين وقد أصبحوا مسلحين يقاتلون مع السلطان العثماني الجديد، وريث جمال الدين السفاح، نكاية ببشار الأسد الذي جعل وطنهم خرابة تنعق فيها البوم؟
وألا ترون ليبيين يعيدون إلى الشعب الليبي كابوس الاحتلال العثماني البغيض ليقتل أهلهم وأشقاءهم، ولينهب ثرواتهم، ويسلط عليهم القتلة المرتزقة، مع سبق الإصرار والترصد؟
أليس الذي يجري في اليمن شبيه بما يجري في سواه؟ حيث حفنة ضالة من اليمنيين المضللين والمنحرفين والمنبوذين ارتضت أن تكون أداة لاستعمار إيراني طائفي عنصري جديد.
أليست هذه مسألة بحاجة إلى تأمل ودراسة وتفسير؟ ألا تكون الدنيا قد انقلبت على أعقابها، ودار الفـَلـَك إلى الوراء دورة لم تخطر لأحد على بال؟
فكيف ولماذا أصبحت الدعوة إلى تدخل الدول الأجنبية في شؤوننا، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، ضد الحاكم (الوطني) الشقيق، أمرا عاديا، وعلنيا، وغير معيب، بعد أن كانت الدول المدعوّة للعودة إلى استعمارنا، فرنسا وأميركا وروسيا وبريطانيا وإسبانيا، إلى الأمس القريب، دولا استعمارية بغيضة ومرفوضة ويموت الفدائيون من أجل جلائها عن بلادهم؟
شيء آخر. ترى كيف، ولماذا، وما السبب الذي جعل جماهيرنا العريضة، تسكت، وترضى، وتفرح بشماتة، وهي ترى طائرات نتنياهو تصول وتجول، دون رادع، وتحرق وتدمر وتفعل ما تشاء متى تشاء في سوريا والعراق ولبنان وإيران، وهي التي كانت تهتف ضد إسرائيل، وتطالب بالسلاح لقتالها؟ فتشوا عن الإيرانيين وجواسيسهم وعملائهم وسلاحهم، وستعرفون.
فإن لم ينتفض المظلوم على الظالم، والمسروق على السارق، والمجروح على الجارح، اليوم وليس غدا، فاقرأوا على لبنان السلام، وعلى كل دولة عربية يطالب أهلها بعودة الغزاة والمستعمرين. فهل تقبلون؟
العرب