في أواخر يوليو (تموز) الماضي، أقلعت أول طائرة برمائية صينية الصنع من فوق سطح مياه “البحر الأصفر” بالقرب من شاطئ مدينة تشينغداو، في رحلة تجريبية استغرقت زهاء 31 دقيقة قبل أن تعود لتحط بسلاسة فوق صفحة الماء. لم تكن هذه التجربة التحليقية الأولى للطائرة، إذ سبق لها أن أقلعت من فوق مدرج بري في 24 ديسمبر (كانون الأول) 2017. ومع اكتمال نجاح التجربتين البرية والمائية أصبحت الطائرة “كولونغ AG600″، أو “التنين” باللغة الصينية، جاهزة للإنتاج المتسلسل لدى خطوط إنتاج مصانع شركة “أفيك” وتلبية سجل الطلبات الطويل من قبل العديد من العملاء.
تشكل “التنين”، حسب موقع “بوبيولار ميكانيكس”، جزءاً من برنامج الصين المستمر والدؤوب لاقتحام صناعة الطيران، بدءاً من الطائرات التجارية إلى مقاتلات الجيل الخامس مروراً بالحوامات والدرونات المسيرة من دون طيار. وتعد “التنين” أكبر طائرة برمائية في العالم من دون منازع، إذ يضارع حجمها حجم طائرة “بوينغ 737″، بطولها البالغ 37 متراً وباع جناحيها الممتد 39 متراً، وارتفاعها الذي يتجاوز 12 متراً. وتعد “التنين” كذلك من وجهة نظر جمهورية الصين الشعبية رمزاً للتقدم الصناعي الوطني؛ ذلك أنها تثبت قدرة بكين التكنولوجية على تصميم وتصنيع واختبار طائرات ذات مصداقية بعيداً عن رواد السوق الغربيين أمثال “إيرباص” و”بوينغ”.
يمكن لـ”التنين” أن تحمل على متنها 50 راكباً أو نقل 12 طناً من الحمولات المختلفة، لمسافة تصل إلى 4320 كيلومتراً من دون توقف. وتبلغ سرعتها القصوى 560 كيلومتراً بالساعة، ويرتفع سقف تحليقها إلى ستة آلاف متر. وهي تقلع وتهبط من على المدارج البرية مثل أي طائرة تقليدية، أو تنطلق بسلاسة من على المسطحات المائية بفضل العوامات المتدلية تحت أجنحتها.
ما فتئت بكين تشدد على الاستخدامات السلمية لطائراتها الجديدة العملاقة، وتبذل وسائل الإعلام الحكومية الصينية قصارى جهدها لإضفاء الطابع المدني البحت لدى وصف الأدوار المعدة لها؛ من مثل أنها مناسبة لـ”مكافحة حرائق الغابات ومهام الإنقاذ البحري والعمليات الطارئة الأخرى”. ففي دور مكافحة الحرائق، يمكن لـ”التنين” ابتلاع 12 طناً لدى ملامستها صفحة الماء خلال “غطسة واحدة” لا تتجاوز 20 ثانية.
وعلى الرغم من “الصورة المدنية” التي تشيعها بكين حول “التنين” فإنه من شبه المؤكد أن المطاف سينتهي بها بين يدي “جيش التحرير الشعبي”، الذي ما فتئ ينجز انتقاله السريع من “قوة قارية بحتة” إلى “قوة بحرية عالمية” في منطقتي المحيط الهادي الغربي والمحيط الهندي. ويجزم الخبراء، حسب موقع “كوري”، أن الطائرة البرمائية الجديدة ستمكن بكين من الحفاظ على خطوطها اللوجستية مفتوحة مع قواعدها الجزرية النائية في سلاسل “جزر باراسيل” و”جزر سبراتلي” لدى بحر الصين الجنوبي، كما ستتيح “التنين” قدرة نقل العسكريين الصينيين ومعداتهم إلى أماكن نائية مثل جزر “مستشيف المرجانية” الوقعة في البحر نفسه. وستسمح قدرات “التنين” المتمثلة في الإقلاع والهبوط من على الماء للجيش الصيني إبقاء قواعده المتناثرة في جزر “مستشيف المرجانية” مزودة بكل ما يلزم من إمدادات حتى في حال إغلاق المطار الوحيد العامل في المنطقة جراء أي عمل عسكري معاد. كما ستحسن “التنين” بشكل كبير، قدرات الإسقاط الصينية لدى الجزر العديدة الأخرى في هذه المنطقة التي تشهد توترات جيوسياسية متصاعدة ومستمرة.
مع امتلاك “التنين” قدرة بقاء في الجو لمدة 12 ساعة متواصلة، فإنه من المتوقع إسناد العديد من المهام ذات الطابع العسكري لطواقمها من مثل: البحث عن الطيارين المفقودين في عرض البحر واستعادتهم بسرعة، ومرافقة القوافل والأساطيل البحرية، وعمليات الاستطلاع والمراقبة، والحرب المضادة للغواصات. وفي دور الحرب المضادة للغواصات، يمكن تعديل الطائرة لإسقاط أجهزة السونار بهدف اكتشاف غواصات العدو، وبمجرد تحديد موقع الغواصة المعادية، يمكن للطائرة التعامل معها عبر إسقاط قذائف أعماق أو طوربيدات موجهة بهدف تدميرها. وثمة مهمة أخرى يحتمل أن تسند إلى “التنين” وهي نثر الألغام البحرية جواً بهدف إغلاق أي مسطح أو ممر مائي أمام أساطيل العدو. ويمكن لهذه الطائرة أن تنفذ عملية إنزال لفصيلة مشاة كاملة مع بطارية دفاع جوي صاروخي على شاطئ جزيرة نائية صغيرة جداً، وهو ما لا تستطيع تنفيذه طائرات النقل العسكري الكبيرة من طراز “سي 130” أو طائرات “في-22” ثقيلة الوزن.استخدمت الطائرات البرمائية العسكرية لدى جيوش القوى العظمى خلال الحرب العالمية الثانية، لكنها ما لبثت أن اختفت تدريجياً في مرحلة الحرب الباردة. في نهاية المطاف، استعاض الجيش الأميركي عن الطائرات البحرية بمجموعة من طائرات الدورية التي تنطلق من مدرجات برية والمروحيات، على الرغم من أن بعض الخبراء يجادلون بأن الطائرات البرمائية لا تزال تشكل حاجة ملحة في ترسانة البنتاغون. وفي عالم اليوم، تبني ثلاث دول فقط طائرات تنطلق من سطح الماء: كندا التي تصنع طائرة “فايكنغ”، واليابان التي تنتج طائرة “يو إس 2″، وروسيا التي تفتخر بطائرتها “بيريف بي 200”.
تساعد الطائرات المنطلقة من سطح الماء المخططين العسكريين على التخفيف من بعض التحديات التشغيلية الدائمة في منطقة المحيطين الهندي والهادي. إذ لا تعتمد هذه الطائرات على مدارج أو قواعد ثابتة، ولا تقيد حركتها قيود استخدام المطارات الأجنبية، ويمكنها العمل لمسافات طويلة بسرعات عالية نسبياً. وعلى عكس الرأي السائد، يمكن لهذه الطائرات تنفيذ مهامها في الأحوال الجوية السيئة، وكذلك نقل البضائع والأشخاص والأسلحة والعمل كطائرة للتزويد بالوقود جواً أو حتى قاذفة قنابل ثقيلة.
وفي مسرح عمليات مثل منطقة المحيطين الهندي والهادي، تهيمن عليه المسطحات المائية ويتميز بعدد محدود من المدارج، تمثل الطائرات المنطلقة من سطح الماء حاجة ملحة حسبما يقول ديفيد ألمان، الضابط المسؤول عن تدريب الطيارين المتخصصين لدى “الحرس الوطني الأميركي” في مقالة نشرها على موقع “وور أون ذا روكس”. وتكمن فائدة هذه الطائرات في قدرتها على العمل من أي مسطح مائي مما يعقد بشكل كبير محاولات العدو للعثور عليها أو استهدافها. ويمكن لهذه الطائرات العمل في بحار يصل ارتفاع موجها إلى ثلاثة أمتار وسط رياح تبلغ سرعتها زهاء 50 كيلومتراً بالساعة.
لعبت الطائرات المنطلقة من سطح الماء دوراً رئيساً في العمليات العسكرية الأميركية من أوائل القرن العشرين حتى خمسينياته. ففي الحرب العالمية الثانية، كانت هذه الطائرات منتشرة في كل مكان في المحيط الهادي، وأدت أدواراً شديدة الأهمية، إذ هاجمت غواصة يابانية صغيرة خارج بيرل هاربور قبل دقائق من بدء الحرب، ورصدت أسطول حاملات الطائرات الياباني في “جزر ميدواي”، وقصفت شحنات إمداد العدو البحرية، وزرعت الألغام، وأنقذت عدداً كبيراً من الطيارين الذين أسقطت طائراتهم، وأجرت عدداً لا يحصى من المهام الأخرى من بينها نقل تشيستر نيميتز، قائد الأسطول الأميركي، لتوقيع وثيقة الاستسلام اليابانية.
بعد الحرب العالمية الثانية، أدى انتشار المدارج البرية والتنافس على أولويات صرف ميزانية وزارة الدفاع إلى تقليص برامج الطائرات المنطلقة من سطح الماء الأميركية. وكان آخر استثمارات الولايات المتحدة في تكنولوجيا هذه الطائرات في خمسينيات القرن الماضي “تريدويند R3Y” الطائرة التي يمكنها نقل حمولة وزنها 22.6 طن لمسافة 1600 كيلومتر. أما طائرة “سي ماستر P6M” التي أُلغي تمويلها لمصلحة برنامج الصاروخ الباليستي “بولاريس” وبرنامج حاملات الطائرات، فكان بإمكانها الطيران بسرعات عالية تلامس سرعة الصوت (ماخ 0.9 عند مستوى سطح البحر) ونقل 13.6 طن من الحمولات الحربية لمسافة 1600 كيلومتر.
وفي المقابل، وعلى الرغم من إيجابيات اقتناء الطائرات المنطلقة من سطح الماء، فإن معارضي اقتنائها في الغرب يحاججون بأن لها قيوداً تشغيلية كبيرة. ذلك أن متطلبات عملها انطلاقاً من سطح الماء يأتي على حساب الأداء، مثل إضافة زيادات طفيفة في قدرات السحب والوزن الفارغ. كما تحتاج هذه النوعية من الطائرات إلى بنية تحتية لدعم عملياتها أرضاً وبحراً: خزانات للتزود بالوقود، وسفن دعم فني، ومرافق صيانة، ومخازن للأسلحة.
ووسط الجدال الغربي حول فوائد الطائرات البرمائية، تستمر بكين في برنامج اقتناء المزيد من أعدادها، وهي تأمل في أن يعينها “التنين” على ترسيخ وجودها في بحر الصين الجنوبي وما وراءه.
محمد طاهر
اندبندت عربي