سابق إيران الزمن من أجل الحصول على أرصدتها المجمدة في الخارج، التي تتجاوز 100 مليار دولار، تحسبا لفرض الولايات المتحدة عقوبات جديدة من شأنها “فصل الاقتصاد الإيراني عن العالم الخارجي”، من خلال تصنيف القطاع المالي بأكمله بأنه محظور.
فقد كشف محافظ البنك المركزي الإيراني، عبدالناصر همتي، يوم السبت الماضي، عن وجود “أخبار إيجابية عن الأموال المجمدة” الإيرانية في الخارج، ليؤكد التصريحات ذاتها، في اليوم التالي، خلال لقاء مع المصدرين الإيرانيين.
غير أن همتي لم يتحدث عن التفاصيل، ليلف الموضوع غموض وإبهامات، ما يطرح تساؤلات حول طبيعة هذه “الأخبار الإيجابية” وإمكانية الإفراج عن الأرصدة الإيرانية المجمدة على ضوء العقوبات الأميركية الصارمة، وخصوصا توجه الإدارة الأميركية نحو فرض حظر شامل على النظام المالي الإيراني، وفق تقرير لوكالة “بلومبيرغ” الأميركية، نشرته الأسبوع الماضي.
وتأتي تصريحات محافظ البنك المركزي في الوقت الذي تشتد فيه الضغوط على العملة الإيرانية، التي هوت خلال الأسابيع الأخيرة إلى مستويات تاريخية، بعدما وصل سعر الصرف لأول مرة إلى 300 ألف ريال مقابل الدولار الأميركي بسبب شح النقد الأجنبي في البلاد.
وتتزايد الحاجة إلى الأرصدة الإيرانية المجمدة في الخارج، والتي لم تكن في الأساس ودائع نقدية، أودعتها إيران في البنوك الخارجية، بل هي عوائد الصادرات الإيرانية وتحديداً من النفط، جمدتها الدول بسبب الضغوط والعقوبات الأميركية الشاملة المفروضة على إيران منذ الثامن من مايو/ أيار 2018 بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي.
العملة الإيرانية خسرت 50% من قيمتها، خلال الأشهر الستة الماضية، حيث اقترب الدولار من حاجز 300 ألف ريال قبل أيام.
ولا تكشف الحكومة الإيرانية عن حجم أموالها المجمدة، إلا أنها وفق تقارير إعلامية تقدر بأكثر من 100 مليار دولار، منها 5 مليارات دولار في العراق، و8 مليارات دولار في كوريا الجنوبية و20 مليار دولار لدى اليابان.
كما أن محافظ البنك المركزي، خلال حديثه، الأحد الماضي، تحدث عن عشرات المليارات من الدولارات، قائلا: “في الوقت الراهن فإن عشرات المليارات من الدولارات من احتياطيات البنك المركزي (الإيراني) مجمدة في دول بسبب الخوف من الجرائم الأميركية”، في إشارة إلى تهديدات والضغوط التي تمارسها واشنطن على هذه الدول لثنيها عن الإفراج عن هذه الأموال.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تتحدث فيها طهران عن إفراج محتمل لأموال مجمدة لها في الخارج، حيث كشف المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، علي ربيعي، يوم 21 يوليو/تموز الماضي عن أن دولتين أجنبيتين قررتا الإفراج عن موارد إيرانية بالعملة الصعبة، من دون تسميتهما، أو الكشف عن حجم الأموال التي ستفرج عنها وموعد ذلك.
ووفق ربيعي فإنه “بجهود الخارجية والبنك المركزي توفرت ظروف عودة عوائد بالعملة الصعبة من البلدين إلى الداخل”. علما بأن الخارجية الإيرانية قد شكلت سابقا لجنة خاصة لمتابعة إعادة هذه الأرصدة إلى داخل إيران.
وتزامنت تصريحات المتحدث باسم الحكومة الإيرانية، مع مباحثات بين البنك المركزي الإيراني مع نظيره العراقي وسط تفاؤل إيراني بوصولها إلى نتائج مرضية، حيث كشف حينها المدير العام للشؤون الدولية في البنك المركزي الإيراني، حميد قنبري، بعيد زيارته للعراق، أن الوفد الإيراني أجرى “مباحثات مفيدة وبناءة” مع الجانب العراقي، بشأن مصير أموال إيرانية لدى بغداد.
إلا أنه رغم هذه التصريحات، فعلى أرض الواقع، لم يحدث شيء يؤكد الإفراج نقداً عن أموال إيرانية خلال الأشهر الأخيرة، والدليل على ذلك، هي تصريحات الرئيس الإيراني، حسن روحاني، قبل فترة وجيزة، يوم 12 سبتمبر/أيلول الماضي، حيث تحدث بعتاب تجاه “دول صديقة” ترفض الإفراج عن الأموال الإيرانية، قائلا إن “هناك دول صديقة لنا أرصدة لديها في بنوكها، لكنها ترفض تحريرها”، عازيا السبب إلى الضغوط الأميركية على هذه الدول، إذ أكد روحاني أن هذه الدول “أبلغتنا أن الأميركيين يمارس ضغوطا علينا ويهددوننا اذا ما قمنا بالإفراج عن هذه الأموال”.
ولم يسم روحاني دولة بعينها، إلا أنه عندما يتحدث عن دول صديقة، فلابد أنه يقصد العراق، حيث كما ذكر آنفا توجد لديها 5 مليارات دولار لدى بغداد، عوائد الصادرات الإيرانية من الطاقة إلى العراق، لكنه يرفض تسليمها بسبب الضغوط الأميركية.
واذا كان الوضع مع العراق الذي تحظى فيه إيران بنفوذ واسع على هذا المنوال، فبكل تأكيد سيكون الوضع أسوأ مع دول أخرى، مثل كوريا الجنوبية واليابان، التي تربطها علاقات استراتيجية تاريخية مع الولايات المتحدة الأميركية، وفق محللين اقتصاديين.
وبعد امتناع الدول التي تحتجز الأرصدة الإيرانية، ورفضها التجاوب مع نداءات الحكومة الإيرانية، لجأت الأخيرة إلى لغة التهديد، وهي التي اتبعتها حتى الآن مع كوريا الجنوبية، سواء من خلال رفع شكاوى في الأوساط القانونية الدولية، أو من خلال إطلاق تهديدات أخرى.وكشف رئيس مكتب الرئاسة الإيرانية، محمود واعظي، الشهر الماضي، عن أن طهران وجهت “تهديدا” لكوريا الجنوبية بعد رفضها الإفراج عن أرصدة إيرانية، مشيرا إلى اتخاذ بلاده خطوات قانونية في هذا الشأن.
ولا يستبعد أيضا أن يكون التهديد الإيراني ذا طابع أمني، لإجبار كوريا الجنوبية على تسليم الأرصدة، مثل تحركات ضد سفن تجارية وناقلات نفط تابعة لها في مياه الخليج.
غير أن رئيس مكتب روحاني، تحدث عن تلقي بلاده “إشارات إيجابية” من سيول لحل المشكلة، لكنه في الوقت ذاته، توعد بأن طهران “ستنفذ قراراتها اذا لم يقوموا بخطوة عملية” أي تنفذ التهديدات لإعادة الأموال الإيرانية.
واليوم بعد تصريحات همتي الجديدة، ليس واضحا بعد إن كانت لها ترجمة على أرض الواقع من خلال الإفراج عن أرصدة إيرانية مجمدة قريبا وأن لغة التهديد المستخدمة ضد كوريا الجنوبية ستأتي بأكلها أم لا.
وإن حدث الإفراج فثمة تساؤلات ملحة ستطرح حينها عما اذا كانت العملية قد تمت بتنسيق أميركي مع الدولة المحتجزة للأرصدة أو من خلال الالتفاف على العقوبات الأميركية وتجاهلها، إلا أن الخيار الأخير مستبعد حيث من شأن ذلك أن يعرض هذه الدول لعقوبات أميركية، فضلا عن أن الولايات المتحدة رفضت خلال العامين الأخيرين استخدام إيران أرصدتها المجمدة في الخارج لشراء الأدوية والمواد الغذائية سواء عبر الآلية المالية السويسرية، التي أسستها سويسرا بتنسيق واشنطن أو عبر آلية “إينستكس” الأوروبية، فكيفك ستسمح بالإفراج عنها مباشرة إلى إيران.
والمسألة الأخرى أنه إذا قررت دولة ما الإفراج عن هذه الأرصدة من المستبعد أن يتم تسليمها نقدا إلى إيران، إذ إنها في أمسّ الحاجة إلى النقد الأجنبي لوقف تدهور قيمة الريال، فعلى الأغلب يتم الأمر من خلال المقايضة أو شراء السلع من الدول المعنية.
وفي السياق، كشف وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، خلال مارس/آذار الماضي، أن “عدة دول أعادت جزءاً من أموالنا”، لكن كما رصد “العربي الجديد” واتضح من تصريحات الوزير الإيراني، أن طهران لم تحصل على هذه الأموال نقداً، بل من خلال المقايضة أو شراء السلع من الدول المعنية، أو في سياق “التجارة الإنسانية”، أي التجارة غير المحظورة أميركيا، التي تشمل بيع المواد الغذائية والأدوية والمستلزمات الطبية. وفي هذا الإطار، قال ظريف إن “ثمة طرقا مختلفة لاستعادة الأموال الإيرانية عبر المقايضة أو عمليات الشراء”.
وفي السياق، قال خبراء إيرانيون أخيرا تعليقا على تقرير “رويترز” عن ارتفاع كبير في الصادرات النفطية الإيرانية إنه بعد ذلك يشكل استلام إيران عوائد هذه الصادرات التحدي الأبرز أمامها، مشيرين إلى عدم إمكانية ذلك على ضوء العقوبات الأميركية ضد النظام المالي الإيراني.
كما لا يخفى أن تصريحات محافظ البنك المركزي بشأن “أنباء أيجابية” عن الأرصدة الإيرانية المجمدة، قبل أن تكون لها دلالة حول هذا الموضوع، ربما تكون لها دوافع أخرى لطمأنة الشارع الإيراني، بعد المخاوف المتصاعدة من انهيار العملة، بغية التأثير على أسواق العملات الصعبة لوقف تدهور الريال.
وعليه، أثرت هذه التصريحات إيجاباً على العملة الإيرانية، لتستعيد جزءا بسيطاً خلال معاملات، الأحد الماضي، بعدما خسرت 50% من قيمتها، خلال الأشهر الستة الماضية، حيث ارتفع سعر الصرف من 300 ألف ريال مقابل الدولار الواحد، يوم السبت الماضي، إلى 270 ألف ريال في اليوم التالي.وكثفت طهران جهودها لاستعادة أموالها المجمدة في الخارج على وقع توجه واشنطن نحو فرض حظر شامل على نظامها المالي، حيث كشفت وكالة بلومبيرغ الأميركية في 28 سبتمبر/أيلول الماضي أن إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تدرس فرض عقوبات جديدة على إيران، بهدف “فصل الاقتصاد الإيراني عن العالم الخارجي”، وذلك من خلال تصنيف القطاع المالي بأكمله بأنه محظور واستهداف نحو 14 بنكاً، مشيرة إلى أن هناك هدفين من العقوبات المقترحة؛ الأول هو سد واحدة من الثغرات المالية القليلة المتبقية لإيران التي تسمح لها بجمع إيرادات.
أما الهدف الثاني، فهو وضع عقبة أمام الوعد الذي قطعه المرشح الديمقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية، جو بايدن، بعودة الولايات المتحدة للاتفاق النووي مع إيران.
وتركت هذه العقوبات المشددة أثرها على الاقتصاد الإيراني خلال الأيام الأخيرة قبل حتى أن تبدأ، إذ زادت وتيرة تراجع الريال الإيراني، لتكمل مفاعيل الإعلان الأميركي عن إعادة فرض العقوبات الدولية على طهران خلال الشهر الماضي، بعد تأكيد واشنطن أنها فعّلت آلية “فض النزاع” بالاتفاق النووي ضد إيران، رغم معارضة شركاء الاتفاق الخطوة واعتبارها “بلا أثر قانوني”.
وفي السياق، أشار محافظ البنك المركزي الإيراني، السبت الماضي، على “إنستغرام” إلى هذه التأثيرات، قائلا إنه “خلال هذه الأيام بعد طرح موضوع تفعيل آلية فض النزاع، انتشرت أنباء حول قطع النظام المالي الإيراني عن الخارج، ترك ذلك أثره النفسي على سوق العملات بغض النظر عن إمكانية تنفيذ ذلك وتأثيره العملي”.
أما عن تأثيرات قطع النظام المالي الإيراني عن العالم الخارجي خلال الفترة المقبلة على الاقتصاد الإيراني، فيمكن القول إن الخطوة الأميركية في حال اتخذت، لا تترك تأثيراً عملياً كبيراً، إذ إن تواصل النظام المالي الإيراني مع الخارج مقطوع بالكامل منذ عامين تقريبا، إذ لا يمكن لطهران إجراء أي عملية مالية مع الأنظمة المالية في الخارج، سواء البنوك أو المؤسسات المالية الأخرى، حتى في التجارة الإنسانية، لتشتكي الحكومة الإيرانية كثيراً بعد تفشي كورونا في البلاد خلال الشهور الماضية من عدم تمكنها من إجراء معاملات لشراء أدوية تحتاجها في هذا التوقيت لمواجهة الفيروس.
وفي الوقت نفسه، رغم النجاحات التي حققتها الحكومة الإيرانية، في الالتفاف على العقوبات الأميركية في صادرات النفط خلال سبتمبر/أيلول الماضي، لكنها لا تملك خيارات في الالتفاف على النظام المالي العالمي للحصول على عوائد صادراتها النفطية وغير النفطية.
لكن لا يُنكر أن هذه العقوبات، كما قال همتي، تترك آثاراً نفسية على سوق العملات وتتسبب بالمزيد من تدهور الريال الإيراني مما يرفع أسعار السلع والخدمات ويقلص القدرة الشرائية للمواطن الإيراني أكثر.
بالتالي، كثفت طهران خلال الفترة الأخيرة جهودها للحصول على أرصدتها المجمدة في الخارج لمواجهة تحدي الحظر الشامل الذي تواجهه في التواصل مع النظام المالي الأجنبي، وعليه فإن هذه الجهود تأتي في سياق الاستعدادات والتحضيرات الإيرانية لمواجهة الوضعية التي يمكن أن تنجم عن الإعلان الأميركي المحتمل لقطع النظام المالي الإيراني عن الخارج، وتحديدا في ظل انسداد الأفق لأي انفراج سياسي في الأزمة مع الولايات المتحدة.
العربي الجديد