اندلع في لبنان في الأسابيع الأخيرة حِراك قاده شبان من أبناء الطبقة الوسطى، تعبا من عجز الحكومة القائمة عن كلّ شيء تقريبا، بما في ذلك مشكلة النفايات.
وكما في كل الحراكات الشبابية في البلدان العربية منذ عام 2011، بما في ذلك الحِراك العراقي الأخير، فإنّ التحرك بدأ صغيرا في البداية، ويضمّ نخبة معروفة من اليساريين، وأهل النشاط المدني المُعادي للطائفية.
ثم عندما لم يلتفت إليه أحد، وتفاقمت مشكلة النفايات وسط عجز الحكومة حتى عن الاجتماع، فإنّ هذا الحراك تنامى إلى أن وصلت أعداد المشاركين فيه إلى أكثر من عشرين ألفا في مساء الأحد الماضي في 2015/8/22.
وقد كان قادة الحراك يريدون الوصول بهذا الجمع الحاشد إلى السراي الحكومي فوق ساحة رياض الصلح في وسط بيروت، وإلى باحة المجلس النيابي وسط بيروت أيضا. لقد قرروا أن يصلوا إلى المكانَين والاعتصام فيهما إلى أن تنحلَّ قضية النفايات، التي أضافوا إليها وجوه قصورٍ أخرى مثل الكهرباء والمياه والبُنى التحتية. وهي قضايا تفاقمت في حكومة الرئيس ميقاتي السابقة (استمرت ثلاث سنوات وشارك فيها حزب الله وعون وبري وجنبلاط وكان تيار المستقبل خارجها).
وعلى أي حال، فإنّ حكومة الرئيس تمام سلام القائمة منذ عامٍ ونصف (وهي حكومة ائتلافية تشارك فيها سائر الأطراف السياسية ما عدا جعجع) لم حلّت شيئا من تلك القضايا أيضا. بل إنها عجزت عن إقناع أطرافها السياسية الأساسية بالذهاب إلى مجلس النواب لانتخاب رئيس، فتعطّل مجلس النواب ولا يزال، لأن عونا وحزب الله لا يسمحان للنواب بالاجتماع إلاّ إذا كان الهدف انتخاب عون رئيسا للجمهورية.
وقبل ثلاثة أشهر انشلّت الحكومة أيضا، للضغط على أطراف 14 من أجل انتخاب عون من جهة، وتنصيب صهره الضابط الكبير في الجيش قائدا له بعد انتهاء مدة قائد الجيش الحالي في شهر سبتمبر (أيلول) المقبل!
كانت لدى المواطنين (وبينهم فريق من ناشطي شبان وكهول الطبقة الوسطى ذوي النزعات المعولمة) مبررات ومسوِّغات للتجمهر إذن، والمطالبة بمكافحة العجز الحكومي، والفساد.
وفي الليلة الموعودة (ليلة 2015/8/22)، وقد استطاع الشبان الناشطون جمع عشرات الأُلوف، أتوا إذن لاحتلال ساحتي السرايا ومجلس النواب.
وكان لدى القوات الأمنية أوامر بعدم تمكينهم من ذلك، وحصر مظاهراتهم في ساحة الشهداء فلا يستطيعون الاقتراب لتنفيذ الاعتصام، الذي قد يؤدي إلى الإضرار بالأمن، وضرب المؤسستين الدستوريتين الرئيسيتين في البلاد.
لكنّ الحشود الهائلة أصرَّت، وحصلت اشتباكاتٌ لها مع قوات الأمن، وأطلقت عيارات نارية في الهواء من جانب الجيش وحرس مجلس النواب، فتصاعدت الصرخات في وسائل الإعلام دفاعا عن حرية التظاهر، وصرَّح زعماء سياسيون مثل عون ونوابه ووليد جنبلاط بالاستنكار وشتم وزير الداخلية، فاضطرت قوات الأمن للتراجع إلى آخر ساحة رياض الصلح، واندفع وراءها المتظاهرون يرفعون الأعلام اللبنانية، ويحاولون إزاحة حواجز خط الدفاع الأخير للوصول إلى السراي الحكومي. وعند الساعة العاشرة ليلا اندفع من بين المتظاهرين (السلميين) عشرات ثم صاروا مئات، وبدأوا بإلقاء قنابل المولوتوف والحجارة وأعمدة الشارع على قوات الأمن، وردّت قوات الأمن بخراطيم المياه، والقنابل المسيلة للدموع. وظلت الاشتباكات دائرة إلى نحو الساعة الواحدة والنصف ليلا، حيث تدخل الجيش وطرد الشبان العنيفين والمدمِّرين من ساحة رياض الصلح.
وفاتني أن أقول إن منظمي حركة «طلعت ريحتكم»، كانوا قد طلبوا من أنصارهم عند الحادية عشرة ليلا العودة إلى بيوتهم. ولذلك فإنّ المدمِّرين بقوا ساعتين وحدهم يتضاربون مع القوات الأمنية، ويشعلون الحرائق، ويكسّرون المحلات التجارية المقفلة. وقد تبين يوم الاثنين 8/22 أنّ دمارا هائلا حصل في ساحتي رياض الصلح والشهداء، وأنّ عدد جرحى قوات الأمن 99، وعدد جرحى المشاغبين 62، وأنه أُلقي القبضُ على 31 من الذين سمتهم وسائل الإعلام: المندسِّين. إنما اللافت أنّ هؤلاء «المندسِّين» تركوا آثارا تدل على هويتهم تمثلت في شعارات على جدران مسجد محمد الأمين وبجواره تقول إن ثورة الحسين اندلعت.. إلخ.
لا أريدُ هنا مناقشة هوية “المندسّين”. بل أُريدُ أولا مناقشة شعارات المنظّمين السلميين لحملة “طلعت ريحتكم”. كل الذين ظهروا على وسائل الإعلام ما نددوا بالفساد والنفايات إلاّ عَرَضا، ليمضوا إلى إيضاح برنامجهم في نقطتين: إسقاط الحكومة، والذهاب إلى انتخابات لمجلس نواب جديد، باعتبار أن المؤسستين غير شرعيتين، وكلّ القابعين فيهما من الحرامية والنصّابين. ومضى اثنان منهم للقول: الشعب يريد إسقاط النظام، وردد المئات (من غير المندسين) هذا الشعار وراءهما.
وعندما سألهما الإعلاميون الذين تفنّن كلٌّ منهم (وبخاصة السيدات) في تدليعهم: إنما إذا سقطت الحكومة يحدث الفراغ الكامل، فكيف إذا اقترن ذلك بانحلال مجلس النواب؟ وأجاب الشاب الذي وصفته الإعلامية بأنه دكتور: ولماذا لا؟ هذا النظام فاسد وغير شرعي، وبلاد بلا حكومة أفضل من هذه الحالة. وقالت إعلاميةٌ لزعيمٍ آخر: لماذا لا تطالبون بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وعندما يحصل ذلك تنحلّ الحكومة، وتجري انتخابات جديدة لمجلس النواب، فتتحقق بذلك كل مطالبكم؟ أجاب الزعيم: هذا غير مهم الآن، لا بد من إزالة الزبالة السياسية المتمثلة في الحكومة ومجلس النواب، وبعدها لكل حادث حديث.
ما أصابني «رابوصٌ» ولا كابوس. لكنّ كلَّ هذا المنطق بتفاصيله وبرنامجه هو برنامج الجنرال عون، الذي يقول منذ شهورٍ بضرورة استقالة الحكومة دون أن يستقيل وزراؤه، ويقول إن مجلس النواب غير شرعي، ونوابه مشاركون فيه، ويدعو لانتخاب رئيس للجمهورية من الشعب. ويمضي إلى القول: الدستور غير شرعي أيضا، ولماذا لا نذهب باتجاه مجلس تأسيسي لتغيير النظام كما اقترح السيد نصر الله؟! ويقول له كل المسيحيين الآخرين: لكنْ إذا ذهب «الطائف»، ذهبت المناصفة، ولم تعد هناك ضمانات لبقاء الرئاسة بيد المسيحيين!
برنامج شباب الحراك المدني أو قادتهم هو نفس برنامج عون إنما هناك فرقٌ واحد: عون يريد إسقاط النظام بحجة أن نص «الطائف» وأهل السنة أكلا حقوق المسيحيين، بينما يريد الشبان الطيبو الرائحة إسقاط النظام بسبب فساده!
وأُريد التنبيه إلى نقطة أخرى تتعلق بحوادث سابقة. ففي عام 2008 احتل حزب الله بيروت، لإرغام حكومة الرئيس السنيورة على الاستقالة. وفي عام 2011 ظهر “شبان القمصان السود”، هكذا سمتهم وسائل الإعلام، وتعرضوا للناس، للإرغام على التسليم بحكومة الرئيس ميقاتي.
بين المتظاهرين وغير المتظاهرين أُناسٌ طيبون كثيرون جدا. لكنّ منظر منظّمي الحراك أو الذين استولوا عليه من الشبان المعولمين المحاطين بـ«زُعران» الأحياء المجاورة لوسط بيروت يدفعونني للريبة الشديدة. لنا الله، وحرية التظاهر!
رضوان السيد
صحيفة الشرق الأوسط اللندنية