كل العقوبات تؤدي الى تركيا، وذلك بعدما أصبح هذا البلد عرضة لمختلف التهديدات، بسبب مواقفه السياسية والعسكرية التي تثير قلق الحلفاء في الغرب كحالة فرنسا، قبل الأعداء الكلاسيكيين في الشرق وشمال الشرق مثل روسيا.
وتحتفظ ذاكرة الثقافة العالمية بالمثل الشهير: كل الطرق تؤدي الى روما، ويرتبط بالطرق التي شيدتها الإمبراطورية الرومانية في مجموع البحر الأبيض المتوسط، وكانت كلها تؤدي الى روما التي حطمت رقما قياسيا كعاصمة للإمبراطورية في التاريخ. وبصياغة أخرى وفي سياق مختلف يسعفنا المثال في القول «كل العقوبات تؤدي الى تركيا» إذ تطالعنا وسائل الإعلام وآخرها فايننشال تايمز بعزم لجنة القوات المسلحة في مجلسي النواب والشيوخ الأمريكي فرض عقوبات على تركيا بسبب شرائها منظومة الدفاع الجوي الروسية المتطورة إس 400. وهذه عقوبات تُضاف الى عقوبات أخرى يهدد بها الاتحاد الأوروبي بتحريض من فرنسا وترفعها كذلك دول عربية مثل الإمارات العربية والسعودية.
ولا يمكن فهم تناسل العقوبات وتنوعها ضد تركيا إلا على خلفية التطورات الجيوسياسية التي يشهدها البحر الأبيض المتوسط، وارتباطا بالمكانة التي تحجز لنفسها في مسرح السياسة وصنع القرار الدولي.
علاقة بالعقوبات المتعلقة بمنظومة الدفاع الجوي إس 400 الروسية، فقد اقتنت تركيا وهي المنتمية لمنظومة شمال الحلف الأطلسي أهم نظام دفاعي ضد الصواريخ والمقاتلات في العالم، إذ فضلت الاستمرار في الصفقة رغم التهديدات بل وتخلت عن المقاتلة إف 35 الأمريكية. وبقرارها هذا، فهي تكون قد بدأت تستقل عن السلاح الغربي وتبني تدريجيا دفاعها بمعزل عن الغرب. وكل دولة ذات طموح إقليمي ودولي أوسع وممتد زمنيا لا يمكنها ترك الدفاع عن أمنها القومي في أيدي أطراف ثالثة وإن كانت حليفة. في الوقت ذاته، يغضب الأمريكيون على تركيا لأن قرار اقتناء إس 400 يوجه ضربة موجعة للصناعة العسكرية الأمريكية. وبدأت دول تفضل اقتناء منظومات مضادة للطيران وبسعر في المتناول بدل الحصول على قروض وشراء مقاتلات. ولهذا تهدد واشنطن كل الدول التي تنوي اقتناء هذه المنظومة بما فيها الهند. وإذا فقدت واشنطن الهيمنة على مبيعات الأسلحة تقلص نفوذها وتراجع تأثيرها.
وأصبحت العقوبات الأوروبية المعلنة بين الحين والآخر بمثابة سيف ديموقليس جديد على رأس تركيا، وتتزعم فرنسا مسلسل التهديدات منذ سنة، وهذا ليس بغريب، إذ تنظر باريس بعين الريبة لإقدام تركيا على اقتحام فضاء البحر الأبيض المتوسط وجوارها الإقليمي. فقد قلصت تركيا من نفوذ فرنسا في ليبيا بشكل درامي خلال الصيف الماضي، وكانت خسارة فرنسا في ديان بيان فو سنة 1954 مقدمة لانهيار الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، والمواجهة بين أنقرة وباريس حول ليبيا صيف 2020 هي بمثابة «بيان ديان فو» دبلوماسية للفرنسيين.
وحدّت تركيا من لعب فرنسا أي دور في ملف ثروات شرق المتوسط، وتركتها بلغة تحكيم كرة القدم «في حالة شرود» في ملف الصراع الحربي بين أذربيجان وأرمينيا. وتدرك باريس أن تحول تركيا الى قوة وازنة ومركزية سيكون سدا في وجه الغرب بشأن صياغة أي خريطة جيوسياسية للمنطقة على شاكلة «سايس بيكو» ويتخوف الغرب من إقدام دول أخرى على تقليد تركيا في هذا المسار.
كل الدول تهدف الى تعزيز أمنها القومي واستقلالية قرارها السياسي والمشاركة في صنع القرار الدولي على الأقل في جوارها الإقليمي، لكن الطريق ليس مفروشا بالورود، وستكون هدفا لشتى أنواع العقوبات من الحلفاء قبل الأعداء، وهو ما يحدث لتركيا حيث أصبحت «كل العقوبات تؤدي الى تركيا».
القدس العربي