ثمة فارق نوعي مسلّم به، وإن ثابر المنظّرون والاعتذاريون لـ «محور المقاومة» على إنكاره علناً، بين المقاربة التي اعتمدتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إزاء إيران وكوكبة الحلفاء والأذرع المرتبطة بها، وبين المقاربات التي انتهجتها الإدارات الأميركية السابقة.
ومقابل هذا التسليم الصامت، تبقى القراءة المعتمدة في الفضاء العام بما يقارب الإجماع، لدى هؤلاء المنظرين والاعتذاريين، في أن الشكل الحالي للسياسة الأميركية إزاء إيران هو مضاعفة وحسب لما سبق أن وُضع حيز التطبيق من عقوبات وتهديدات ودعوات للاستسلام والرضوخ من خلال المفاوضات. وعليه، فإن التصريحات الصادرة من طهران، وأصداءها في الإعلام الموالي لإيران، تؤكد أن تجربة العقود الأربعة الماضية تفيد قطعاً بأن الفشل هو نصيب المسعى الأميركي، وإن تسببت فداحة الضغط الحالية بدرجة مرتفعة من الأذى داخل إيران.
الإرهاصات الواردة من الإدارة العتيدة للرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن، إذ تهمّ بتولي مسؤولياتها، هي أن توجهها بالموضوع الإيراني سوف يختلف بوضوح عن المقاربة الحالية. غير أنه من المطلوب استبيان التباعد القائم بين ما تروّج له السردية الاعتذارية الإيرانية وبين الواقع المتحقق، لاستيضاح كيفية التعامل معها في إطار صياغة التوجه الجديد دون العودة التلقائية إلى الوضع المرتبك والذي سبق سياسة الإدارة الأميركية الحالية.
الزعم والواقع: سنوات ترامب في التصوير المساند لإيران
الضغط الذي مارسته إدارة ترامب على إيران لم يقتصر على ملف التسلّح النووي، وهي المسألة التي كانت قد وظّفتها طهران للحصول على مكاسب استراتيجية منفصلة. ولكن في المقابل، لم تتجه إدارة ترامب إلى إشعال فتيل إسقاط النظام في طهران، كما يُنسب إلى إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش.
بل توجهت إدارة ترامب نحو توسيع مجموعة الأنشطة التي تُسائل فيها إيران، ما جنبّها التمكين العرضي للإرهاب عبر الأذرع، الهادف لتحقيق التمدد للنفوذ الإيراني، والذي كانت إدارة أوباما قد سلّمت به فعلياً. فقد عمدت إدارة ترامب إلى تحدي الازدواجية في طبيعة النظام الإيراني، الثورة والدولة، مطالبةً إيران، من خلال الشروط التي وضعها وزير الخارجية مايك پومپيو، بالتخلي عن منطق الثورة لصالح منطق الدولة، والالتزام بالنظام العالمي، ثم جني الفوائد.
قد تبدو مطالب پومپيو معقولة، إذا ما جرى اعتبارها لذاتها، ولكنها ليست واقعية، ذلك أنها عملياً تدعو الثورة في إيران إلى تصفية ذاتية، في الوقت الذي تشكل في الثورة الشق الأقوى من الكيان المزدوج للسياسة في إيران. على أن «الضغط الأقصى»، والذي فرضته إدارة ترامب على طهران، ثم قتل قاسم سليماني، بالإضافة إلى التطورات في المنطقة، ولا سيما تطبيع العلاقات بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة والبحرين وآخرين، كل هذا دفع باتجاه تحول في الموقف الإيراني نحو منطق التسوية، صادقاً كان أو خلافه.
وسياسة إدارة ترامب إزاء إيران هي أحادية جهاراً نهاراً. والعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة قد حرمت إيران بشكل مباشر، وكذلك بشكل غير مباشر من خلال امتثال الأطراف الدولية المختلفة بما في ذلك الصين، من إمكانية عرقلة إيران لأغراض فرض العقوبات، كما فعلت في السابق بقدر من النجاح عبر خوض غمار دقائق الأمور والقيود في المنظومة الدولية، حين جاءت هذه العقوبات ضمن إطار متعدد الأطراف.
والأهم هو أن إدارة ترامب قد أثبتت أن الخطوات الأحادية، حين تقدم عليها القوة الاقتصادية والعسكرية العظمى، هي ذات فعالية تناهز أي مسعى دولي. كما استثمرت إدارة ترامب لصالحها الأهمية الرئيسية للعلاقات مع واشنطن لدى مختلف مكونات المجتمع الدولي، من دول وشركات.
ثالثاً، تجاوزت إدارة ترامب العائق المفروض ذاتياً من قبل حكومات الدول الملتزمة بالحقوق في مواجهة الأنظمة المارقة، حيث تتقيد تلك بالقواعد والأسس المتعارف عليها، فيما تتجاهلها هذه دون اكتراث. وفي حين أن التوجه الجديد لإدارة ترامب قد أدى إلى الضائقة في أوساط المجتمع الإيراني، سعت إلى التخفيف منه باتخاد بعض الخطوات الأولية لتأمين الحاجات الإنسانية، فإن واشنطن رفضت أن ترضخ لمحاولة طهران توظيف ضائقة المواطن في إيران وجعلها رهينة للتخفيف من وطأة العقوبات.
وأكثر الخطوات خطورة في هذا السياق هو إقدام إدارة ترامب على الاغتيال العلني المستهدف لقاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإسلامي، على ما كان عليه من مقام في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لا يفوقه فيه إلا المرشد الأعلى علي خامنئي. وفي حين جرى تأطير عملية الاغتيال هذه داخلياً في الولايات المتحدة لتستوفي الشروط القانونية، فإنها جاءت دون شك خارج المعايير الدولية المعتمدة. بل إن عملية الاغتيال تمّت على الأراضي العراقية، بما تسبّب بالإحراج للحكومة العراقية وبعرقلة الحركة الاحتجاجية، والتي كانت الولايات المتحدة تنظر إليها بإيجابية. وفي حين أن إعلام محور الممانعة قد قدّم قراءات مختلفة لهذه المجريات، فإن الرسالة التي بلغت القيادة الإيرانية كانت جلية: واشنطن، في ظل إدارة ترامب، سوف تسعى إلى تحقيق مبتغاها دون اعتبارات ثانوية ودون قيود.
إدارة ترامب ضمن سردية «الصبر الاستراتيجي» الإيرانية
التصوير الشائع ضمن «محور الممانعة» هو أن التوجه المتصلب لإدارة ترامب إزاء إيران هو سياسة مرحلية محكومة بالفشل، ومتجهة إلى الزوال مع التراجع المرتقب للإدارة القادمة عنها. على أن هذه الإدارة القادمة مهيأة لأن تبني على التطورات الناتجة عن التوجه الحالي وإن بأسلوب أكثر حرصاً، أو أن تجازف بالعودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبلها.
المتابعات الاعتذارية تجعل من التراجع الاقتصادي الحاد الذي تشهده إيران نتيجة سياسة إدارة ترامب، فصلاً آخراً وحسب من ملحمة الصمود والثبات والتي خطّتها الثورة الإسلامية منذ اندلاعها عام ١٩٧٩، والمبنية على تصميم الشعب الإيراني أن يقدّم التضحيات لتحقيق استمرارها. ورغم أن هذه السردية تبتعد بالكامل عن الحقائق على الأرض، حيث يعاقب الإيرانيون لتعبيرهم عن الاستياء أو لمطالبتهم بالحياة الطبيعية والانفتاح على العالم، فإن الجهد الدعائي الإيراني قد حافظ على اليد العليا في ترويج سرديته في الداخل كما في المجتمعات التي يمتد إليها النفوذ الإيراني.
والمحافظة على اليد العليا قد تحققت من خلال إعادة صياغة الوقائع والحوادث. فالرد الإيراني على اغتيال قاسم سليماني، مثلاً، اقتصر على قصف مقتضب إلى حد الرمزية لبعض المنشآت الأميركية في العراق، ولكن تقديمه الإعلامي جرى على أنه تبديل خطير بالموازين يحقق الندية الاستراتيجية بين إيران والولايات المتحدة. ولا شك أن مجهود المحافظة على السيطرة الإعلامية يجد دعماً وتعزيزاً وتوسيعاً من خلال توظيف السقطات الكلامية المتكررة والتذبذب المتواصل في المواقف لدى الرئيس ترامب نفسه، من خلال الإشارة إلى أن هذا السلوك ليس عرضياً أو مقتصراً على شخص هذا الرئيس، بل هو فضح لسمة أصيلة في السياسة الأميركية، تظهر جلياً ما أن يسقط قناع اللياقة والتعقل، والذي يضعه سائر السياسيين الأميركيين.
وعليه، فإن الإعلام الموالي لإيران قد أسهب بتقديم الحالات المؤيدة لهذا التصوير للأداء الأميركي، من التفريط بالحركة الاحتجاجية العراقية، إلى التخلي عن المقاتلين السوريين الأكراد لمصيرٍ مجهول يتحكم به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. بل أن سلوك الرئيس الأميركي ترامب، من تبجحه المتواصل والمستفيض بأنه يستحصل على المبالغ الضخمة من دول الخليج بما يقارب الإكراه، كما كلامه المتكرر بأنه كان على الولايات المتحدة الاستيلاء على حقول النفط العراقية، أو تصويره الإبقاء على قوة أميركية في سورية لأغراض الاحتفاظ المشابه بحقول نفط، جميعها يشكل مادة دسمة لرسم السياسة الأميركية على أنها ارتجالية اعتباطية وغير صالحة لأن يعتمد عليها. ضف إلى ذلك التأكيدات المتعددة من جانب ترامب بأن تنظيم «الدولة الإسلامية» قد أنشأه باراك أوباما أو هيلاري كلينتون.
كل هذه المقاطع الصوتية والمرئية، والتي يتكرر بثها في الإعلام الموالي لإيران، قد كرّست التصوير الغالب للولايات المتحدة لدى جمهور المشاهدين والمستمعين بأنها قوة شر واستيلاء واستغلال وطيش، لا يعوّل عليها، فيما إيران، على الجانب الآخر من المعادلة، هي الحليف الأول ضمن حلفاء متساوين في «غرب آسيا» يسعى إلى مقاومة التدخل الخارجي والأطماع الدولية، يعتمدون الثبات و «الصبر الاستراتيجي» بنجاح على مدى العقود الأربعة الماضية. وكما نجحوا بالأمس، فإنهم يتوقعون مواصلة النجاح اليوم، وما نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية للعام ٢٠٢٠ إلا مناسبة للتأكيد على صواب الرؤية الإيرانية، وإن كان ثمة ريبة وتوجس من «نفق ترامب»، أي الأسابيع القليلة المتبقية من عهدته، والتي قد تشهد خطوات تصعيد مباغتة.
نحو سياسة أميركية جديدة إزاء إيران: ضبط إيقاع السرديات
من شأن مقومات الخطاب هذه أن تتحكم بنظرة من يتلقاها إزاء السياسة المرتقبة لإدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن. فواشنطن، في الإعلام الموالي لإيران، هي التي تسعى دوماً إلى تسوية مشبوهة ما، وطهران، هي التي تمانع. والإشارة الضمنية هنا هي أن إيران مستعدة بالتأكيد لحوار حقيقي، إنما على أساس استيفائه للشروط العادلة، وتحديداً أن تعود واشنطن إلى الاتفاق النووي. ومن خلال هذا الهبوط الهادئ المبتعد عن التهويل بالتصعيد العسكري، يمكن لإيران زعم الامتثال الدائم بالنظام الدولي، أو النجاح المرتقب لمقاربة الصبر الاستراتيجي، أو كليهما.
وبالتوازي مع هذا التموضع، يروّج المؤيدون لإيران مقولتين، أولاهما تفيد بأن الإدارة الأميركية القادمة محكومة بالضعف، ومستهلكة بالشؤون الداخلية، ومرتبكة لأشهر عديدة في صياغتها لسياسة إزاء إيران والشرق الأوسط. أما الثانية، فهي التي ترى في وفرة الوجوه التي انضمت إلى هذه الإدارة، والتي سبق لها أن عملت ضمن إدارة أوباما وكان لها دور في صياغة الاتفاق النووي، ما يفيد بأن الرئيس المنتخب جو بايدن قد قرّر للتو العودة إلى سياسة أوباما في مسايرة إيران.
ولا شك أن إدارة بايدن العتيدة مرشحة لأن تنتهج سياسة مختلفة بوضوح عن تلك التي اعتمدتها إدارة ترامب، والقائمة على الأحادية والاستباحة. ولكن القناعة بأن إيران قد التزمت بنص الاتفاق النووي دون أن تتجه إلى الاعتدال في سائر المسائل، التقني منها مثل مسألة الصواريخ الدقيقة، أو الأكثر شمولاً كمسألة التمدد بالهمينة على المنطقة، هي قناعة متحققة حتى في صفوف من يؤيد الاتفاق النووي بقوة. بل قد يكون من المغالطة والتدليس إنكار أن إيران قد استفادت من الاتفاق لتوسيع دائرة نفوذها في المنطقة.
وبغضّ النظر عن أي تقدير حول النهج الذي قد تتبعه إدارة بايدن القادمة، فإن التصريحات العلنية من طهران تفيد بأن إيران تهمّ باستعادة زمام المبادرة فور تنصيب بايدن في كانون الثاني المقبل. في العراق، قد تسعى إلى تجاوز التسوية التي قبلت بها على مضض، والتي جاءت بمصطفى الكاظمي رئيساً للحكومة. في سوريا، قد تعمد إلى تعزيز حضورها الميداني واستعادة الندية التي اهترأت مع الشريك الروسي. في لبنان، قد تعمد إلى الاستحصال على رضوخ دولي وإقرار ضمني أو صريح بهيمنتها على مؤسسات الدولة. وفي اليمن، يُنتظر أن تساهم في توطيد الحكم لصالح حلفائها، وفي تعميق تأثيرها عليهم.
ولكن، إذا واجهت إيران إدارة أميركية جديدة غير مستعدة للقبول بهذه التحركات، فإنها قد تسعى إلى مقايضة العودة الأميركية إلى الاتفاق النووي بهدنة ميدانية وخطابية على مختلف الجبهات. فقد تسمح مثلاً لمسيرة التطبيع التي تشهدها المنطقة بأن تسير قدماً. والمنظرون الموالون لإيران يعتبرون للتوّ بأن مسيرة التطبيع هذه محكومة بالفشل القادم لا محالة، بل من شأن فشلها أن يبطل التوازن الداخلي والذي كانت الحكومات المطبّعة قد أنجزته مع شعوبها. أي أن إيران، في هذا الموضوع، مستعدة لحالة أخرى من «الصبر الاستراتيجي»، مع الاحتفاظ بجملة واسعة من المقومات التي قد تساهم في الدفع بالاتجاه المتوافق مع مبتغى الصبر.
أما أميركياً، فبغضّ النظر عن الطبيعة المشاكسة والتفريطية للعديد من خطوات إدارة ترامب، فإنه من شأن فريق عمل بايدن أن يقرّ بأن سياساتها قد حقّقت قيمة تصحيحية قابلة لأن تستثمر. فالعودة إلى الاتفاق النووي قد يكون هدفاً موصوفاً، إنما على أساس الوفاء بنص الاتفاق كما بروحه، المتكاملة، المنصوص عليها بتسميته الرسمية. فالرؤية المعتمدة لدى إيران الثورة للمنطقة، بما تتضمنه من إنهاك للدول المعنية، تنذر عند تجاهلها بتفاقم ما لها من نتائج مستقبلية مدمرة. هذا فيما إمكانية التصدي للهيمنة الإيرانية تبدو اليوم متاحة في مختلف الدول والمجتمعات المعرّضة لها، العراق، لبنان، سوريا، واليمن، وذلك مع اعتبار خصوصيات الأوضاع في كل حالة.
فالعراق قد حاز على أول رئيس حكومة من الجيل التالي. مصطفى الكاظمي يجسد حالة وطنية جلية، غير ملوّثة بالفساد، وملتزمة برؤية للسياسة والعالم منسجمة مع القيم والمصالح الأميركية. التحدي أمام الكاظمي هو في ترجمة الرؤية والطاقة إلى برنامج قابل للتنفيذ يصادق عليه جمهور الناخبين. الكاظمي ليس بحاجة إلى تدخل أميركي أو إلى دعم أميركي لصالحه، ولكن بالتأكيد يحتاج إلى ضبط للمعترك الانتخابي لتجنيبه التأثير غير المشروع من جانب إيران، ولا يمكن لهذا الضبط أن يتحقق دون متابعة أميركية ناشطة.
في لبنان، على إدارة بايدن أن تدرك أن الطبقة السياسية الناهبة الفاسدة غير قابلة للإصلاح، وأن انحدارها إلى هذه الحالة جرى بالتواطؤ المتعمد مع الحليف المحلي الثابت لإيران، أي حزب الله، وعليها بالتالي أن تمتنع عن المقاربة المعتلة والتي تعتبر بأن حزب الله هو أقل فساداً وأنه قد يكون لهمينته جانباً إيجابياً في منع لبنان من الانهيار. من حيث المبدأ، وبالتأكيد من حيث الأداء، سيطرة حزب الله على لبنان هي إشعار بتدمير لبنان كدولة وكمجتمع. والأصح أن تتابع إدارة بايدن ما قد حققته الحكومة الأميركية، في ظل الإدارة الحالية وسابقاتها، في الملاحقة والتصدي للدور المدمّر لحزب الله داخل لبنان وخارجه.
في الموضوع اليمني، قد يكون فريق عمل الرئيس المنتخب بايدن على حق في مساءلته للأداء السعودي في الحرب الجارية. غير أن التنسيق مع الرياض يبقى لازماً لإعادة التوازن إلى المجتمع اليمني، وكذلك ضمن الأوساط الزيدية المؤثرة، والتي يبدو وكأن المنحى القائم هو الاستهتار بالتواصل معها، وتركها للتأثير الإيراني.
أما في الملف السوري، فالإدارة المقبلة تواجه مسؤولية تصحيح الخطوات الناقصة والإهمال والتخلف عن تشكيل الرؤية الشاملة، والتي ارتكبتها الإدارتين السابقة والحالية. فالاستمرار بالتوجه على ما هو عليه خطأ سافر: وما صعود تنظيم «الدولة الإسلامية»، وتفاقم الإرهاب، ومد الهجرة إلى أوروبا وما استتبعه من تغذية للتيارات اليمينية المتشددة، على مدى العقد الماضي، إلا أدلة واضحة على أن الحرب في سوريا، والتي أخطأ ترامب وأوباما باعتبارها مسألة محلية، حبلى بالتداعيات العالمية. ولمواجهة هذه القضية الشائكة لا بد لإدارة بايدن من أن ترتقي بالولايات المتحدة من موقع القدرة المحدودة على عرقلة المشاريع الروسية، كما هي عليه اليوم، إلى انتهاج دور أكثر وضوحاً وتجانساً ووزناً للمساهمة بصياغة المستقبل السوري. ولا شك أنه لإدارة بايدن ملفات طارئة عديدة أخرى تتطلب المعالجة، على أن الملف السوري هو حقاً اختبار للولايات المتحدة في دورها القيادي، كما في قيمها ومصالحها.
لإدارة بايدن المقبلة من المقومات ما يمكنها من معالجة كافة هذه الملفات، بالإضافة إلى القضية الفلسطينية والتي لا تزال ذات أهمية متحققة. وحين تواجه هذه الإدارة مسألة توزيع مقوماتها ومواردها البشرية والمادية لاستيعاب قضايا عالم كامل يعيش الأزمات المتعددة، فإنها قد تختار تأجيل العناية الدقيقة لمسألة إيران والدور الأميركي في الشرق الأوسط. على أنه لا بد من الإدراك بأن إيران ومعها محور الممانعة تتحضر لجولة أخرى من «الصبر الاستراتيجي»، وأن حساب إهمال هذا التوجه الإيراني هو لغير صالح الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها.