شهدت مدينة اسطنبول مؤخراً جولة جديدة من اللقاءات التي تطلق عليها الحكومتان التركية واليونانية تسمية «المحادثات الاستكشافية» والتي كانت قد بدأت في شباط /فبراير 2002، وتوقفت منذ سنة 2016 بسبب تعاظم قضايا النزاع حول قضايا متعددة تشمل أمن بحر إيجة والتنقيب عن النفط والغاز في شرق المتوسط. وإذا كانت الجولة الأخيرة، وهي الـ61، قد اقتصرت على مستوى تمثيل بدا منخفضاً من الجانبين، فشمل نائب وزير الخارجية التركي ودبلوماسياً متقاعداً من الجانب اليوناني، فإن جدية أنقرة وأثينا في التعامل مع نتائجها لم تكن خافية، كما انعكست في ترحيب مسؤول الشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، وكذلك الناطق الجديد باسم الخارجية الأمريكية.
ومن الطبيعي أن تكون هذه الجولة السياسية، التي سوف تعقبها جولة أخرى عسكرية يستضيفها مقر الحلف الأطلسي، محل ترحيب من جانب جميع الأطراف والقوى الإقليمية والعالمية، لأنها تستبدل التصعيد والمناورات العسكرية بلغة الحوار والدبلوماسية من جانب أول، وتسمح من جانب ثان بوضع جميع القضايا الخلافية على طاولة البحث والتفاوض. ذلك لأن النزاع بين تركيا واليونان ليس جديداً أولاً، وهو ثانياً لا يقتصر على التنقيب عن النفط والغاز أو ترسيم الحدود البحرية أو تحديد طبيعة الوجود العسكري في بحر إيجة، ويشمل ثالثاً محاور أخرى مثل الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي وفرنسا وقبرص.
واضح إلى هذا أن الجانب التركي يريد لهذه الجولات أن تكون واسعة النطاق وأن تشمل العدد الأكبر من القضايا الخلافية، وعلى رأسها نزع السلاح في عدد من الجزر اليونانية المحاذية للشواطئ التركية، والبروتوكولات الاقتصادية للمياه المشتركة في بحر إيجة، وترسيم الجرف القاري التركي ونظيره في الشطر التركي من قبرص. وهذا توجه مفهوم، بالنظر إلى أن سلة الأهداف التركية تشمل أيضاً تحسين آفاق انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وتعديل التوترات الأخيرة مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حول صفقة الصواريخ الروسية، وكذلك مع فرنسا وسواها من الدول الأوروبية المنحازة إلى اليونان، وفي غمرة هذا كله لا تغيب الأغراض الاقتصادية من كامل التحرك التركي.
في المقابل تعلن أثينا حماساً أقل من أنقرة بخصوص جداول أعمال «المحادثات الاستكشافية» هذه، وتميل أكثر إلى حصرها في ترسيم الجرف القاري والحصول من تركيا على تعهد بعدم التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في المناطق التي تعتبرها اليونان سيادية، وقد أعلن الناطق باسم الحكومة اليونانية أن هذه المفاوضات لا تنطوي على «نتيجة ملزمة» والهدف هو «التقاط الخيط من نقطة انقطاع الاتصالات في سنة 2016». وهذا تقدير غير واقعي ويجافي الحقائق الفعلية لتوازن القوى الراهن في شرق المتوسط، كما يتنافى مع حصيلة ردود الأفعال على صعيد الحلف الأطلسي وكلا البلدين عضو فيه، وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي الذي سبق أن اتخذ عقوبات بحق تركيا لكنها بقيت حبراً على ورق.
والأرجح استطراداً أن صوت الدبلوماسية يمكن بالفعل أن يتغلب على هدير البوارج الحربية، خاصة بعد حادثة الاحتكاك التي وقعت في الصيف الماضي وكادت أن تشعل فتيل المواجهة العسكرية، ولهذا فإن التقاط هذا الخيط تحديداً هو في صالح البلدين وكامل مياه شرق المتوسط.
القدس العربي