الباحثة شذى خليل*
تظهر مساعٍ دولية للتخلص من هيمنة الدولار الأميركي على الاقتصاد العالمي، لما مرت به تلك الدول جراء عقوبات وقرارات وأوضاع اقتصادية وسياسية غير متوقعة، من قبل الولايات المتحدة الامريكية، في حال مخالفة الدول سياستها لأي سبب من الأسباب ، ولتجنب تلك الأوضاع المؤثرة وبشكل مباشر على توازن الاقتصاد المالي العالمي، من بين تلك الدول روسيا، إذ تبحث عن بدائل للدولار الأميركي في مدفوعات الطاقة مع الخارج، لأن تسوية عقود الطاقة، ممثلة بالنفط ومشتقاته والغاز، بعملتي اليورو والروبل ستحدّ من الحاجة إلى الدولار الأميركي.
شركات النفط والغاز المملوكة للدولة في روسيا، بالفعل، استكشاف تسويات بديلة للعملات في مواجهة التوترات الجيوسياسية مع الولايات المتحدة.
ان هذه الفكرة “التبادل التجاري بعملات محلية” غير الدولار، وفي حال تطورها وشمولها لدول، وخاصة إن قررت تلك الدول الاتفاق على الاستعاضة باليورو عن الدولار، فلا شك أنها ستحدث فرقاً شاسعاً، وربما تكون هكذا خطوة -إن حصلت- بداية لإزاحة هيمنة الدولار عن الصدارة أو الإطاحة به جزئياً على الأقل، فيما سيستغرق احتمال كهذا وقتاً غير معلوم، ونتائج مجهولة التفاصيل، بل ربما يؤدي إلى نشوء نظام اقتصادي متعدد العملات ونظام عالمي موازي متعدد الأقطاب.
الأمر بالنسبة لأوروبا التراجع عن استخدام الدولار مقابل اليورو في عدد من التبادلات التجارية الدولية، خاصة أن عددا من الدول كالصين وروسيا تسعى للهروب من سيطرة الدولار هي الأخرى، وقد وقعت بلدان عدة اتفاقيات من أجل تسهيل دفع الصرف بعملتيهما، وحتى السعودية وافقت على إنشاء أنظمة موازنة خارج الدولار مع الهند من أجل بيع نفطها، حيث يسعى الاتحاد الأوروبي إلى التخلص من هيمنة الدولار على التجارة العالمية، من خلال دعم وتعزيز اليورو، وبحسب محللين اقتصاديين ، فإن دول أوروبا تدرس خطواتها حول ما يجب عليها فعله مثل تأكيد استقلال اليورو تماماً عن الدولار الأمريكي، وتعزيز فرص جذب اليورو أكثر لزيادة القوة المالية لبلدان الاتحاد، وزيادة رواج اليورو مقابل الدولار الأمريكي في التجارة الدولية، وبالتالي فإن السعي الحقيقي هو رفع استخدام اليورو في العملات الاحتياطية للبنوك المركزية، حيث يبلغ حالياً 20%، فيما يبلغ منافسه الدولار أكثر من 60%، ويبلغ الذهب نحو 10%، وتتشارك عموم العملات النسبة المئوية المتبقية بما دون العشرة في المائة.
للخروج من العقوبات الأمريكية المفروضة من جانب واحد، ومما ساعد الدولار الأمريكي على فرض هيمنته على التحكم بالتجارة الدولية مع تسلطه على قرارات الكثير من الدول والشركات العالمية، من خلال التلويح بفرض عقوبات اقتصادية عليها، وهذا ما فعلته الولايات المتحدة فعلاً مع بنك (BNP Paribas) الذي غرمته بنحو 9 مليارات دولار بتهمة تحايله على الحظر والعقوبات المفروضة على السودان!
ويعد الدولار العملة الاحتياطية الدولية الوحيدة التي تسمح بتسوية جميع عمليات التبادل التجاري الدولي، وهو أيضا معيار النظام المالي العالمي من خلال نظام جمعية الاتصالات العالمية بين البنوك “سويفت” (SWIFT) الذي يضمن جميع المعاملات العالمية من خلال شبكة تضم 3500 بنك حول العالم.
وقد مكنت قوة الدولار الهائلة المحاكم الأميركية من مقاضاة ومعاقبة عدد من الشركات الأوروبية خلال العقد الماضي، فتم تغريم بنك “بي إن بي باريبا” (BNP Paribas) بما يقارب 9 مليارات دولار، ووضع تحت إشراف اللوائح الأميركية، بسبب التحايل على الحظر المفروض على السودان الذي كانت تعتبره واشنطن دولة إرهابية آنذاك.
وتعتبر أبرز نقاط قوة الدولار، قوانينه التي تسمح لأمريكا بمحاكمة جميع الشركات التي تستخدمه، وكونه العملة الاحتياطية الوحيدة التي تتيح تسوية عموم عمليات التبادل التجاري الدولي، بالإضافة إلى اعتباره معيار النظام المالي العالمي من خلال نظام جمعية الاتصالات العالمية بين البنوك (SWIFT) الذي يضمن جميع المعاملات البنكية حول العالم.
وتعد الرغبة الأوروبية في الهروب من هيمنة الدولار جزءا من تركة رئاسة ترامب التي ظلت أوروبا 4 سنوات تحت تذبذب قراراتها غير المتوقعة وتهديدها بالعقوبات الجمركية والانتقام والحظر.
وقد شكل خروج واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني وفرضها حصارا يحظر جميع العلاقات التجارية مع طهران، مؤشرا خطيرا جعل أوروبا تدرك مدى ضعفها وعجزها، إذ لم تجد وسيلة للهروب من الإملاءات الأميركية لسبب واحد هو الدولار الذي تسمح القوانين لأميركا بمحاكمة جميع الشركات التي تستخدمه.
وستستغرق نتائج تنفيذ الرغبة الأوروبية في تعزيز دور اليورو وقتا طويلا قبل أن يظهر تأثيرها الحقيقي، وتساءل الكاتب: هل سينتج عن ذلك نظام متعدد العملات يعبر عن ميزان القوى الجديد لصالح الصين وقيام عالم متعدد الأقطاب؟
ومع أنه من المستحيل التنبؤ بما سيحدث، فإنه من المؤكد أن التغييرات لن تكون سلسة ولن تقع دون أزمات ومعارك، ومع ذلك فإن نص المفوضية الأوروبية يمثل بالفعل تطورا عميقا على طريق نهاية النظام النقدي المبني حول ركائز الدولار والنفط، علما أن قرارات ترامب غير المنتظمة قد أدت إلى التشكيك في تفوق العملة الأميركية.
اما الصين فهي الأخرى تعمل كل ما بوسعها من أجل الخروج من هيمنة الدولار وسطوته على مبادلاتها مع العالم الخارجي.
ويزيد من هذه العجلة الانهيارات والكوارث التي جلبتها هذه العقوبات لعملات واقتصاديات إيران وروسيا وفنزويلا وسوريا ولبنان ودول أخرى.
حيث تتمثل الخطوات الصينية في شراء المزيد من الشركات المنتجة للذهب، آخرها شركة “غولد فيلد” الغويانية في أمريكيا الجنوبية.
ومع شرائها للعشرات من شركات ومناجم الذهب في أفريقيا قبل ذلك أصبحت بكين أكبر منتجي المعدن الأصفر بكمية تقارب 500 طن في السنة مقابل نحو 210 أطنان للولايات المتحدة.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الصين ليست تقليديا من البلدان المخزنة للذهب الذي يعد إلى جانب ناتج محلي إجمالي قوي أفضل ضامن لاستقرار العملة، فإن السيناريو المرجح من وراء ذلك يقول بأنها تعد العدة لدعم التعامل الدولي بعملتها من خلال احتياطي ذهبي كبير واقتصاد يصعد بسرعة لاحتلال موقع الصدارة في العالم، ويدعم هذا الرأي قول فانغ هاي شينغ، رئيس لجنة تنظيم الأوراق المالية الصينية: بأن اعتماد الصين على “النظام القائم على الدولار يجعلها عرضة للخطر”.
كما تزداد أهميته على تزايد حدة النزاع التجاري الأمريكي الصيني وعشرات العراقيل التي وضعتها إدارة ترامب ” أيام حكمه ” أمام الصادرات الأوروبية.
ومما لا شك فيه أن أي صعود أوروبي إلى القطبية يتطلب تعزيز موقع اليورو في المبادلات التجارية العالمية إلى جانب الدولار، الذي ما يزال يسيطر على هذه المبادلات رغم مرور عقدين على التعامل بالعملة الأوروبية التي تشكل 20% من العملات الاحتياطية على مستوى العالم.
ومن المفارقة أن هذا الدور المتواضع يقابلة ناتج محلي إجمالي أوروبي يقارب مثيله الأمريكي بحدود 20 تريليون دولار عام 2018.
في الختام الصين والاتحاد الأوروبي وروسيا يعملون للتخلص من هيمنه الدولار، والصين والاتحاد الأوربي، يعملان أيضا من اجل التخلص من أية مفاوضات معها على ضمان مصالحه من خلال تحقيق مطالب عدة من أبرزها مزيد من الانفتاح في السوق الصينية على الشركات الأوروبية.
ومن التبعات المرجحة لذلك، أن الاتحاد وبدعم ألماني أقوى من ذي قبل، يريد ان يأخذ دور اقتصادي عالمي أقوى إزاء القطبين الكبيرين اللذين يتنازعان على النفوذ الذي هيمنت عليه واشنطن عالميا منذ انهيار المعسكر الشيوعي سابقا.
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية