تُعرَف مواقع المقامرة بأنها وسيلة لتبييض العملات المشفرة غير المشروعة في جميع أنحاء العالم، وإيران ليست استثناءً. فمن نجوم البوب إلى النجوم الإباحية إلى عملات البيتكوين، فإن ظهور مواقع المقامرة عبر الإنترنت في الجمهورية الإسلامية يثير الدهشة – بالإضافة إلى التساؤلات حول ما إذا كان «الحرس الثوري» الإيراني وأجهزة النظام الأخرى تستفيد من القطاع الجديد الفاضح.
في الآونة الأخيرة، أثار مقطع فيديو موسيقي تم تداوله عبر الإنترنت بعنوان “طهران طوكيو” جدلاً في إيران. ويقف وراء هذا الفيديو مغني البوب “ساسي” الذي يتمتع بشهرة كبيرة في إيران – حيث أن أغانيه هي من بين الأكثر شعبية لدى جيل الألفية الإيرانيين داخل البلاد وخارجها، والذين يبدو أنهم يفضلون مزيجه من العامية الاستفزازية والافتراءات المناهضة للمؤسسة الحاكمة بما يكفي لمنحه ملايين المشاهدات عبر الإنترنت. وعلى غرار معظم نظرائه المؤثرين البارزين، يعتمد على الجهات الراعية التي تدفع تكاليف إنتاج أغنياته مقابل زيادة أعداد مشاهدات منتجاتها والحديث عنها عبر الإنترنت.
ويلبي فيديو “طهران طوكيو” كافة هذه المتطلبات. فقد تمّ تصويره في كاليفورنيا مع طاقم وإنتاج فني يتفوّقان على كافة الفيديوهات الموسيقية الفارسية الأخرى. ويتضمن صوراً استفزازية للغاية مثل رقص المغني مع نجمة الأفلام الإباحية الأمريكية ألكسيس تكساس. والأهم من ذلك كله، يتضمن الفيديو مشهداً يُظهر كلاهما يلعبان القمار ويومض اسم الجهة الراعية الإيرانية: “ريفر پوكر” (River Poker). بعبارة أخرى، يُعلن الفيديو بشكل صارخ عن موقع پوكر محلي على الإنترنت في بلد تُحظر فيه المقامرة وغالباً ما يُعاقب عليها بقسوة بموجب الهوية الإسلامية للنظام.
“ريفر پوكر” والنفاذ إلى العملات
إلى جانب كونه مزوداً لخدمات المقامرة غير القانونية، يشتهر موقع “ريفر پوكر” بقبول عملة البيتكوين والنقود الإلكترونية والعملات الورقية من جميع أنحاء العالم في وقت يحتاج فيه النظام الإيراني بشدة إلى النفاذ إلى الأموال النقدية. وواقع إتاحته لإيداعات وسحوبات عملة البيتكوين داخل إيران يجعله وسيلة جذابة بشكل خاص للفساد. وتُعرَف مواقع المقامرة بأنها وسيلة لتبييض العملات المشفرة غير المشروعة في جميع أنحاء العالم، والجمهورية الإسلامية ليست استثناءً. وعلى الأرجح، فإن الأشخاص المنخرطين في هذا النشاط يستخدمون “ريفر پوكر” لتبييض أموالهم غير المشروعة لتصبح مسكوكات معدنية و/أو عملات نقدية “شرعية”، مما يجعل الموْقع والتطبيقات المشابهة له بمثابة “لاس فيغاس إيرانية” بمستوى أدنى.
وحتى بصرف النظر عن عمليات تبييض الأموال المحتملة، فقد أصبح “ريفر پوكر” أحد أكثر مواقع المراهنة شهرة في أوساط الشباب الإيراني على وجه التحديد، لأنه يمَكّن المستخدمين من إيداع وسحب الأموال في شكل عملات مشفرة وقسائم إلكترونية مثل “پيرفكت موني” (Perfect Money)، مما يتيح لهم النفاذ إلى الدولار الأمريكي والعديد من العملات الأجنبية الأخرى. ومثله مثل المئات من مواقع الپوكر الفارسية الإلكترونية الأخرى المتواجدة في بلدان أخرى، فإنه يتيح لهم إجراء مثل هذه التحويلات من حساباتهم المصرفية الإيرانية.
هل هناك تواطئ من قبل سلطات النظام؟
نظراً لطبيعة النظام الإيراني، فإن هذا الارتفاع في المقامرة عبر الإنترنت، ومقاطع الفيديو التي تُعلِن عنها، هو أمر يثير الدهشة على الأقل. ففي اتصالات خاصة مع المؤلف، أشار الخبراء الذين لديهم خبرة عميقة في التعامل مع القطاع المالي للبلاد إلى أن البنوك المحلية غالباً ما تتخلف عدة خطوات عن الأفراد الذين يشاركون في النشاط غير المسجل لتداول العملات الرقمية. ولكن، بصفة عامة، تنخرط سلطات النظام بشكل كبير في مراقبة كل من القطاع المصرفي والنشاط المحلي عبر الإنترنت، بغض النظر عن مدى اهتمامها أو قدرتها على صعيد مراقبة معاملات محددة مرتبطة بالنشاط غير المشروع. لذا يبدو أن أحد استنتاجيْن لا مفر منه: عندما يتيح موقع إلكتروني شهير مثل “ريفر پوكر” وبصورة علنية معاملات المقامرة من المصارف المحلية وإليها، فإما أن يختار النظام التسامح مع هذا النشاط أو يتواطأ فيه بصورة فعالة، ربما كوسيلة أخرى لتبييض الأموال بينما يخضع لعقوبات دولية وقيود مالية.
ومن أجل الارتباط بالنظام المصرفي الإيراني وفتح حسابات في البلاد، يجب أن تخضع أي شركة تقوم بمثل هذا العدد الكبير من التعاملات لعملية تدقيق شاملة يفرضها النظام. ومع ذلك، فإن البحث البسيط على الإنترنت عن عبارة “لعب الپوكر على المواقع الإلكترونية الإيرانية” كفيل بعرض قائمة طويلة من الجهات التي تقدم خدمات المقامرة والتي ترتبط علناً بالمصارف في إيران على الرغم من كونها غير قانونية في البلاد. وبطبيعة الحال قد يتساءل المرء لماذا يسمح النظام على ما يبدو لانتشار هذا القطاع المتمثل بـ “الاختباء على مرأى من الجميع”، وما إذا كانت طهران تستفيد منه بأي طريقة مباشرة.
ولم تكن إيران منفتحة دائماً أمام تجارة العملات المشفرة، حيث حظرتها السلطات رسمياً في عام 2016. وبعد ذلك بعامين، برز القطاع المحلي للمقامرة عبر الإنترنت وسرعان ما ازدهر إثر انتعاش العملات المشفرة عالمياً. وبعد ذلك بوقت قصير، أعلن البنك المركزي عن خطط لتنظيم تداول العملات المشفرة.
وفي غضون ذلك، أدخل النظام المصرفي خدمة بطاقات ائتمان متكاملة عبر الإنترنت حملت اسم “ايرانيكارت”، وهي شركة “خاصة” تعمل مع تحالف مكوَّن من 24 مصرفاً محلياً، بعضها يديره «الحرس الثوري الإسلامي» أو أحد فروعه. ومنذ رفع الحظر المفروض على العملات المشفرة، تخطط الحكومة الإيرانية لاستخدام عملات البيتكوين في المعاملات المحلية والدولية – والآن، كل ما يحتاجه الفرد الإيراني لهذا الغرض هو بطاقة صراف آلي وحساب على شبكة “إيرانيكارت”.
وتثير هذه التغييرات والشبكات المؤسسية احتمال قيام «الحرس الثوري» الإيراني وعناصر أخرى في النظام باستخدام مواقع مثل “ريفر پوكر” كأداة أخرى لتبييض الأموال، حيث يتبادلون عملات البيتكوين مقابل الريال والعكس صحيح. وعلى أقل تقدير، يتغاضى كل من النظام المصرفي والجهات التنظيمية الحكومية عما يجري، في الوقت الذي ينخرط فيه مئات الآلاف من الزبائن الإيرانيين في معاملات المقامرة التي يعتبرها النظام غير قانونية – وهو وضع يجب أن يرفع الأعلام الحمراء في واشنطن نظراً لارتفاع مخاطر تبييض الأموال و الاحتيال من قبل الأفراد والكيانات الذين يخضعون للعقوبات الأمريكية.
وعلى الرغم من أن مبلغ الأموال التي يتم تحويلها إلىى داخل البلاد وخارجها بواسطة هذه المواقع غير معروف، إلا أن هناك تفاصيل أخرى راسخة، بما فيها واقع كَوْن إدارة معظم مواقع المقامرة الإيرانية المزعومة البالغ عددها 3500 موقع أو الترويج لها يتم من قبل مواطنين إيرانيين مزدوجي الجنسية يقيمون في تركيا، وفقاً لتقرير وكالة “أنباء فارس” من عام 2020. ومعظم هؤلاء الأفراد لا يفعلون الكثير لإخفاء هوياتهم. وفي الواقع، غالباً ما ينشرون علناً على موقع “انستاغرام” ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى لجذب المزيد من الزبائن. وفي بعض الأحيان، أدى مثل هذا النشاط الترويجي إلى رد فعل عنيف ضد هؤلاء المؤثرين، حيث ادعى مستخدمو بعض المواقع أن حساباتهم في لعبة الپوكر قد تم تعطيلها فجأة أو تم إفراغها من آلاف الدولارات من الائتمانات. ومع ذلك، لا يمكن لأي مستخدم إيراني يجد نفسه في هذا المأزق تقديم شكوى رسمية، لأن الاعتراف بكونه زبوناً لموقع إلكتروني غير قانوني قد يعرّضه لخطر الغرامة أو العقاب. لذلك، فمن الناحية النظرية، بإمكان قطاع المقامرة السرية الإيرانية وأي من عناصر النظام المتورطة فيها أن يتلاعبوا بحسابات المستخدمين مع إفلاتهم النسبي من العقاب.
وبصرف النظر عن التلاعب المحتمل، فمن المؤكد أن نمو القطاع داخل إيران يخدم المالكين والجهات الراعية بصورة جيدة، بينما يساعد أيضاً النظام في جعل العملات المشفرة أكثر انتشاراً من خلال دمجها في خدمة شائعة عبر الإنترنت. وتستحق هذه الفوائد غير المباشرة وحدها اهتمام الولايات المتحدة، لا سيما عندما تقترن باحتمال كبير مشاركة «الحرس الثوري» الإيراني وكيانات النظام الأخرى في القطاع وجني فوائد مباشرة من خلال تبييض الأموال والجرائم الأخرى.
ووفقاً لذلك، على الحكومة الأمريكية حث “آبل” و”غوغل” و”أمازون” وغيرها من الشركات المزودة للتطبيقات على إلغاء كافة خدمات المقامرة الإيرانية من متاجرها وخدمات السحابة الخاصة بها. يتعيّن على السلطات أيضاً تحذير المواطنين الذين يحملون الجنسيتين الإيرانية والأمريكية المشاركين في هذا القطاع والمشاهير الأمريكيين الذين يروّجون له بأنهم قد يخضغون لإجراءات قانونية تتعلق بالعقوبات الأمريكية إذا استمروا في هذا النشاط. وتتمثل إحدى الوسائل في نقل هذه الرسالة في المشاريع الإعلامية وغيرها من المبادرات التي تسلّط الضوء على نطاق مخططات تبييض الأموال ومخاطر المشاركة فيها، حتى عن غير قصد. وأخيراً، على السلطات الأمريكية التعاون عن كثب مع نظيراتها التركية لتحديد أي من أقسام المقامرة عبر الإنترنت والشبكات المصرفية مرتبطة بتبييض الأموال داخل إيران وخارجها، وتفكيك أي كيانات تجدها مذنبة.
آراش علائي