في ليالي رمضان العطرة، نظم المسؤولون الصينيون زيارة لعدد من الصحافيين الأجانب، لمدينة كاشجر، عاصمة اقليم شينجيانغ، ذي الأغلبية من أبناء الإيغور المسلمين، الذين يؤمنون أن بلدهم تركستان الشرقية منطقة محتلة من جمهورية الصين الشعبية.
جاءت الزيارة الرسمية في أجواء تنظيمية، من الحكومة المركزية في بكين والجهات التنفيذية في الإقليم ردا على حملات المقاطعة الدولية التي تزعمتها الولايات المتحدة ونحو 50 دولة أخرى، للمنتجات الزراعية وغيرها التي تصدرها الصين لأنحاء العالم، بعد أن حصلت على تقارير مادية وشهادات من آلاف من المواطنين، أن الصين تمارس العبودية في تشغيل أبناء الأقليم وتمنعهم من ممارسة شعائرهم الدينية.
هذه الحملة النشطة منذ عهد الرئيس الأمريكي الأسبق ترامب، دعمتها إدارة الرئيس بايدن، ليس بدعوات المقاطعة فقط، ولكن بوضع مسؤولين كبار في الحكومة الصينية في قائمة سوداء محظورالتعامل معهم دوليا.
السلطات الصينية والإعلام
مع ظهور أول مادة إعلامية، جراء تلك الزيارة، نشرت وكالة الأنباء الأمريكية الأسوشيتدبرس، تقريرا مصورا لمسجد عيدكاه درة المساجد في العاصمة التاريخية للإقليم.
رأينا في التقرير القصير محاولة من المراسل الصحافي أن يسير على حافة الهاوية، ربما خوفا من أن ينشر مادة ساخنة تدفع السلطات الصينية إلى طرده، كما فعلت مع عشرات الصحافيين الأجانب خلال الربع الأول من العام الحالي، وعلى رأسهم العاملون في مؤسسة بي بي سي البريطانية وجريدة “واشنطن بوست” الأمريكية، بعد توسعهم في متابعة الأوضاع السيئة للمسلمين الإيغور العام الماضي.
فقد سار على النهج المخطط له من بكين، وقابل إمام المسجد، وبعض المصلين، والتقط صورا في ظل وجود المسؤولين عن إدارات الإعلام في الحزب الشيوعي الصيني في العاصمة والإقليم. فالجميع حرص على أن يبين على الطريقة العربية العسكرية “كله تمام يا فندم”. وبينما السياق يسير في اتجاه الترويج الإعلامي لما تدعيه الصين أنها دولة علمانية ملحدة، تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان، وتنفي تماما أنها تتدخل في أمور الأقليات، وخاصة فيما يتعلق بالدين، فإذ بالكاميرات تكشف لنا عن الفراغ الكبير الذي تشهده المساجد، وهو أمر لم يكن يحدث في هذا الإقليم المعروف بتعلق أهله بالمساجد، وخاصة في أيام رمضان الإيمانية. كما لاحظ المراسل أن أعمار المصلين تبلغ الأربعين وما فوقها، فما كان منه إلا أن سأل الشيخ المدرب في الإدارات الصينية الرسمية كما قال عن نفسه وغيره من الذين يعملون في المساجد، أن انخفاض الأعداد يعود إلى ابتعاد الشباب عن الدين، وتغير اهتماماتهم.
هنا يسأل المراسل الشيخ، ولماذا لا يوجد أطفال أو شباب؟ فيقول الرجل بتلقائية: لأن الدولة تحدد سن اختيار الشباب للدين الذي يتبعه عند 18 عاما، وهو السن القانونية لأن يتعامل الفرد الصيني مع الدين الذي يفضله.
وعندما يستكمل المراسل الجولة في مصنع للمنسوجات واحدى المدارس بالجوار، ويجد العمال مفطرين، والأطفال لم يعرفوا الصوم وغير محتفين بشهر رمضان أسوة بالدول الإسلامية التي يعرفها، يقول لي تشيانغ المدير العام لشركة اكسو هوافو للمنسوجات، نريد أن يكون العمال قادرين على العمل، وأن إمام مسجد عيد كاه المعين من قبل الدولة، قال: إن صيام الأطفال ليس جيدا لنموهم.
جاء الرد من مسؤول بسيط شارحا للمأساة التي يتعرض لها المسلمون في “كاشجر” وغيرها من المدن في مناطق الإيغور. فالمسلم لا يستطيع أن يتعلم دينه أو يعلمه لأبنائه، إلا إذا تخطى 18 عاما، والرجل لا يمكن أن يصلي في مصنعه أو مكان عمله، والشيخ لا يسمح له بتربية لحيته، إلا إذا تخطى سن 65 عاما، والمرأة لا يمكن أن تغطي وجهها وإلا وضعت في قائمة الإرهابيين، ولابد أن يمر الجميع بدورات تدريبية في معسكرات التوجيه الفكري للحزب الشيوعي، ليحصل على لقب “المواطن الصالح”.
وهذا الكلام عبارة عن لوائح صدرت في السنوات الأخيرة من الحكومة الصينية، والتي بدأت التعسف مع المسلمين منذ وصول الرئيس الحالي شي جين بينغ للسلطة. فرغم إعلانه عدة مرات ووجود قوانين تسمح بحرية المسلمين والبوذيين والطاويين والمسيحيين في ممارسة شعائرهم إلا أن الرجل الذي جاء عبر الدولة العميقة التي يمثلها، تراجع عن كثير من المكاسب التي منحها الحزب الشيوعي الصيني للأقليات الدينية منذ انتهاء حكم ماو وسقوط عصابة الأربعة 1979، وتحديدا مع تولي الزعيم دينغ هسياو بنغ السلطة، وتطبيقه سياسة الاصلاح والانفتاح التي بدأت بالاقتصاد وامتدت للمؤسسات الدينية المختلفة.
التحولات الجذرية
من العجيب أن نشاهد هذا التحول بعد أن رصدت منذ عشرين عاما، التحولات الجذرية التي انتهجها الحزب الشيوعي مع المساجد والكنائس والمعابد. فقد كتبت في مجلة “الصين اليوم” التي تصدر عن دار الصين اليوم للمطبوعات الأجنبية، التابعة لمجلس الدولة الصيني، تقريرا مصورا حول فتح الصين أبواب المعابد البوذية للزيارة، ليس للسياحة فقط ولكن ليمارس الشباب والشيوخ طقوسهم بحرية. ودخلت المساجد في بكين وتيانجين وشانغهاي والكنائس الأرثوذوكسية والبروتستانتينية والمعابد الطاوية، لنقل التحول الذي رأيناه حقيقا في معاملة الصين مع أصحاب الديانات المختلفة.
نشر التقرير على غلاف المجلة التي تصدر باللغات السبع الكبرى في العالم، لأن الصينيين رأو فيه ترويجا لمجتمعهم البادئ في الانفتاح على العالم، وخاصة العرب والمسلمين. وحرص الصينيون منذ هذا التاريخ على أن تكون المساجد قبلة المدعوين من الصحافيين والدبلوماسيين العرب بخاصة، سواء نظمت تلك الزيارات من جمعيات الصداقة العربية الصينية أو وزارات الخارجية والتجارة والإعلام أو الحزب الشيوعي ذاته، حيث فتح الحوار مع أحزاب غير شيوعية في العالم ومنها حزب الوفد المصري الليبرالي.
كانت الزيارات مجدولة مع أئمة المساجد، وخاصة مسجد نيو جيه الكبير في بكين، والحوارات مع الأئمة والمسلمين المقيمين حول المسجد، ومشاهدة المحلات التجارية لبيع الأغذية للمسلمين منظمة بدقة.
ولم يغب عن تلك اللقاءات التي تمت بيننا وبين المسلمين الصينيين مسؤولي الحزب الشيوعي والأجهزة الأمنية التي كانت تصاحبنا في كل خطوة، مع ذلك كنا نشاهد ارتفاع مستوى المعيشة للمسلمين أسوة بغيرهم. وأجرينا العديد من اللقاءات مع بعض المسلمين بعيدا عن عيون السلطة في زيارة خاصة قمنا بها لهذ المناطق، حيث وجدنا تطورات ايجابية كثيرة في المباني والمنشآت والمحلات في بكين وتيانجين والتقينا بمئات من أبناء الإيغور في الصين ومصر وتركيا والأماكن المقدسة، وسرنا أنهم يتمتعون بقدر من الحرية الدينية وحريتهم في السفر للحج والدراسة في الأزهر واسطنبول. وزاد الأمر فرحة عندما شرعت الصين تنظيم دورة الألعاب الأولمبية في بكين في 8 أغسطس-آب 2008، حيث حرصت الدولة على توفير سبل الراحة لكافة الفرق، وركزت على توفير المأكولات الإسلامية للأطقم المشرفة على الفرق واللاعبين.
وعرفت الصين اقتصادا جديدا، شهد بداية ميلاده في الدول الغربية، وهو تجارة الحلال. و هذه التجارة التي نمت بسرعة هائلة بعد دورة بكين في الصين حيث ارتفع حجم المبادلات التجارية وفقا لهذا النظام. وحاولت الصين الاستحواذ على نسبة كبيرة منه، لتنافس بذلك ماليزيا ولندن ودول الخليج التي ساهمت في نشر هذه التجارة، أن أنشأت مؤتمرا اقتصاديا سنويا لتجارة الأغذية الحلال مع الدول الإسلامية وتجمعات المسلمين حول العالم، وذلك في مقاطعة قانسو ذات الأغلبية من مسلمي “الهوي” ذوي الأصول الصينية.
ورغم وقوع العديد من التفجيرات التي ارتكبتها شخصيات من الإيغور على طائرة وقطارات في مدن مختلفة في الصين نهاية العقد الماضي، إلا أن السلطات الصينية لم تكن قاسية مع الأقليات من المسلمين في الدولة برمتها، واكتفت باجراءات مشددة مع المقيمين في شينجيانغ. وحصلت الصين على دعم من الدول العربية في مواجهة هذه التفجيرات، حيث ظهر في البداية على أنه تشجيع من رابطة الاتحاد الدولي للإيغور الذي تتزعمه الناشطة ربيعة قدير، التي يعتبرها بعض الإيغور منشقة عن الحزب الشيوعي الصيني التي كانت تمثله في مجلس نواب الشعب، بعد أن صادرت السلطات الصينية الأنشطة التجارية لها ولعائلتها. وتغاضى البعض عن القيود المشددة على أبناء الإيغور في الداخل وملاحقتهم في الخارج، من أجل الحفاظ على مصالح المسلمين في المناطق الأخرى في الصين، ودعمها للقضايا العربية في المحافل الدولية إلى أن انتهجت الصين سياسة “التطهير العرقي” التي تتبعها في كاشجر وأورومتشي عاصمة الأقليم، حيث يحرم الناس من ممارسة شعائرهم والتزامهم بدخول المساجد بتصاريح أمنية وتحريم الصوم أثناء العمل والدراسة وأصبح قادة الحزب الشيوعي هم الذين يعلمون المسلمين قواعد الدين والأخلاق.
وفي الوقت الذي ترسل بكين لمئات الآلاف من الأسر الصينين من قومية الهان التي تمثل 90 في المئة من السكان في البلاد، لأمتلاك الأراضي وشغل الوظائف في الإقليم، وتحصل على خيراته العظيمة من بترول ومياه ومعادن نادرة، أصبح المواطن هناك محروما من حريته وممتلكاته وممارسة شعائره.
الممارسات العنصرية
ربما تمكن مراسل الوكالة الأمريكية، من كشف بعض الممارسات العنصرية التي تمارسها بكين مع المسلمين، دون أن يدري هول المعضلة التي يواجهها الناس هناك، ولكن ما نعرفه من زياراتنا وأصدقائنا الصينيين العائدين من هناك يشيب له الولدان. فتجارة الحلال التي فرحت بها الصين وحاولت السيطرة عليها أصبحت محظورة، حيث منعت الحكومة وضع كلمة ” حلال ” بالعربية أو الصينية على المحلات والمبيعات لأنها ترمز للمسلمين. هدمت الحكومة عشرات المساجد، بل والكنائس في المدن البعيدة عن حركة السائحين والمحظور دخولها لغير الصينيين دون تصريح من الدولة مثل كاشجر وأورومتشي. تجبر الحكومة أصحاب المطاعم الإسلامية على بيع الخمور مع الوجبات.
تغير النهج الصيني مع المسلمين، في وقت تتعاظم فيه العلاقات التجارية مع الدول العربية والإسلامية التي تتعاون مع الصين منفردة أو في ظل مشروع “الحزام والطريق” الذي أطلقه الرئيس الحالي شي جين بينغ، حتى أصبحت الصين الشريك التجاري الأول لمعظم الدول العربية وخاصة مصر والخليج. وبعد أن كانت توظف تجمعات المسلمين داخلها لدعم هذه العلاقات أصبحت تستخدم العرب في سحق الإيغور بزعم مكافحة الإرهاب، وتحاصر حقوق المسلمين الآخرين، تحت ستار حماية أمن الدولة، ولما لا والدول العربية تفعل مع مواطنيها الأفاعيل الشيطانية نفسها.
عادل صبري
القدس العربي