تحولت روسيا إلى رقم مهم في الأزمة السورية، بدءًا من استخدامها حق الفيتو ثلاث مرات لمنع صدور قرار دولي بإدانة نظام الرئيس السوري بشار الأسد، مرورًا بطرحها مبادرة تفكيك الأسلحة الكيماوية السورية التي حالت دون توجيه ضربة عسكرية للنظام السوري ودفعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسقاط “خطوطها الحمراء” في سوريا، وانتهاءً برفعها مستوى وجودها العسكري في سوريا، بما قد يؤثر على كافة التحركات الدولية والإقليمية للبحث عن مخرج سياسي للأزمة السورية. ويطرح هذا التوجه الروسي الأخير تساؤلات رئيسية حول مستقبل التسوية السياسية للأزمة السورية، والمسارات المحتملة للجهود الدولية لمحاربة تنظيم “داعش”، خاصة بعد دعوة روسيا إلى تشكيل تحالف دولي واسع لمواجهته.
تحركات متعددة:
اللافت في هذا السياق، هو أن رفع مستوى الوجود العسكري الروسي في سوريا يتزامن مع اتجاه روسيا نحو تفعيل جهودها السياسية من أجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، حيث نجحت روسيا في فتح قنوات اتصال مع بعض ممثلي المعارضة السورية، وهو ما انعكس في الزيارات التي قام بها ممثلو المعارضة إلى موسكو في الفترة الماضية، وفي إعلان نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف عن أن موسكو بدأت العمل للتحضير لمؤتمر “جنيف 3” حول سوريا. كما أعلنت موسكو عن طرح مبادرة لتأسيس تحالف يجمع بعض القوى الإقليمية والدولية، إلى جانب نظام الأسد، لمحاربة “داعش” والمنظمات الإرهابية الأخرى.
لكن يبدو أن عدم نجاح روسيا في إقناع بعض الدول الإقليمية بتغيير توجهاتها حيال إشراك نظام الأسد في التسوية السياسية، فضلا عن الحديث عن إمكانية إقامة منطقة عازلة في سوريا؛ دفعها إلى السعي نحو تغيير موازين القوى لصالح نظام الأسد باعتباره الطرف الأقوى في المفاوضات، والإصرار على عدم فرض شروط مسبقة لرحيل الأسد، وذلك للدفع نحو جمع النظام والمعارضة تحت راية واحدة تتمثل في مكافحة الإرهاب.
مستقبل التسوية:
تعتبر الأزمة السورية ورقة مهمة تسعى من خلالها روسيا إلى تعزيز نفوذها في المنطقة، حيث يبدو أن الرؤية العامة التي تتبناها الدول الغربية باتت مقتنعة بأنه لا يمكن حل الأزمة السورية بدون روسيا التي اعتبرت أن دعم نظام الأسد في مواجهة قوى المعارضة يمثل دفاعًا عن مصالحها الحيوية في المنطقة. ومن هنا أصرت موسكو على عدم الحديث عن مستقبل الأسد إلا بعد محاربة تنظيم “داعش” والتنظيمات الإرهابية الأخرى، وذلك للحفاظ على مؤسسات الدولة السورية.
ويمكن القول إن التحركات العسكرية الروسية الأخيرة تدفع بالأزمة نحو مسارين: يتمثل الأول، في تجميد الجهود المبذولة لتسوية الأزمة، خاصة في ظل اعتراض قوى المعارضة السورية على رفع مستوى الوجود العسكري الروسي داخل سوريا، حيث أدان “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، في 11 سبتمبر 2015، التحركات الروسية، مشيرًا إلى أن “روسيا باتت شريكة للنظام بتدخلها العسكري المباشر بعد أن كانت ترسل له الأسلحة والذخيرة والمستشارين العسكريين طوال أربع سنين”. كما أن قوى إقليمية ودولية عديدة ما زالت مصرة على ضرورة رحيل الأسد، حيث أشار المتحدث باسم البيت الأبيض، جوش آرنست، إلى أن “الولايات المتحدة تشعر بالقلق إثر تقارير حول نشر روسيا عسكريين إضافيين وطائرات عسكرية في سوريا”، وحذر وزير الخارجية الألماني فرانك فالتر شتاينماير روسيا “من اتخاذ مسارات أحادية الجانب في سوريا”، في إشارة، على ما يبدو، إلى أن الموقف الروسي في سوريا سوف يؤدي إلى اتساع مساحة الخلافات بين روسيا والقوى الدولية، التي تصاعدت في الأعوام الأخيرة بسبب اندلاع الأزمة الأوكرانية.
وينصرف الثاني، إلى استمرار المساعي الروسية للتوصل إلى تسوية سياسية تضمن بقاء الأسد. وتشير اتجاهات عديدة إلى أن ثمة اعتبارات ربما تدعم هذا المسار، على غرار المكاسب التي ما زال يحققها نظام الأسد، رغم الضعف الملحوظ الذي بدت عليه المؤسسة العسكرية السورية في الفترة الأخيرة. إلى جانب انشغال العديد من القوى الإقليمية المعنية بالأزمة السورية بصراعات داخلية وملفات خارجية أخرى، مثل انهماك تركيا في الاستعداد للانتخابات البرلمانية المبكرة التي سوف تُجرى في نوفمبر 2015، إلى جانب الحرب ضد حزب العمال الكردستاني. فضلا عن فشل واشنطن في تكوين “معارضة سورية معتدلة”، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من حديث الجنرال لويد أوستن، في 17 سبتمبر، بأنه “لم يعد يقاتل تنظيم داعش في سوريا من مقاتلي المعارضة السورية المسلحة الذين دربتهم الولايات المتحدة سوى أربعة أو خمسة مقاتلين فقط، وأن أول 54 ممن أنهوا برنامج التدريب هاجمهم مسلحو تنظيم القاعدة فور دخولهم سوريا في يوليو الماضي”.
في النهاية، يمكن القول إن الوجود العسكري الروسي لن يؤثر، في الغالب، على إمكانية التوصل لتسوية سياسية. إذ أن الدعم الروسي لنظام الأسد ليس بجديد، ولا يهدف إلى تكرار نموذج التدخل السوفيتي في أفغانستان مرة أخرى لاختلاف الظروف وتباين المصالح. كما أن ثمة تقارير عديدة تشير إلى أن هدف موسكو بالأساس هو حماية المنافذ البحرية والجوية التي تعتمد عليها من أجل مساندة نظام الأسد، وهو ما دفع اتجاهات عديدة إلى تشبيه الوجود العسكري الروسي بانخراط إيران وحزب الله اللبناني في الصراع السوري منذ عام 2013، بهدف تغيير توازنات القوى لصالح الأسد. فضلا عن أن التدخل الروسي لن يحول، على ما يبدو، دون استمرار قنوات التواصل مع القوى الإقليمية والدولية المعنية بالأزمة السورية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، التي فشلت في مهمة تكوين معارضة بديلة لنظام الأسد، أو حتى القضاء على تنظيم “داعش”، إلى جانب إسرائيل التي يقوم رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بزيارة موسكو، في الفترة الحالية، مما يعني عمليًّا أن هناك تنسيقًا ما يجري بين روسيا وإسرائيل حول الأزمة السورية. كما أن تزامن الانخراط العسكري الروسي مع تصاعد حدة أزمة اللاجئين التي تحولت إلى قضية رأي عام عالمي، يمكن أن يضفي وجاهة خاصة على الدعوة إلى ضرورة البحث عن مخرح لتسوية الأزمة السورية، وهو ما قد يعزز من الرؤية الروسية.
المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية