في رواية آرثر كونان دويل، “العالَم المفقود” The Lost World، يصطحب البروفيسور تشالنجر مجموعة من المغامرين إلى أميركا الجنوبية، حيث يكتشفون هضبة مليئة بالديناصورات. وليست تتمة الكتاب الأقل شهرة، “حزام السم” The Poison Belt، مثيرة بشكل خاص -وليس فقط بسبب الغياب المخيب للديناصورات. هذه المرة، يستدعي تشالنجر الفريق نفسه إلى ساسكس، حيث يخبرهم أن كوكب الأرض يمر عبر “حزام سُمّي” من الأثير. ولكن -على عكس بقية البشر المحكوم عليهم بالانقراض الفوري- يؤكد لهم أنهم سيكونون قادرين على العيش لفترة أطول عن طريق عزل أنفسهم في خِدر زوجته مع إمدادات الأكسجين التي أمرهم بإحضارها. وينجو الأبطال، بطبيعة الحال، ويقومون بجولة حزينة في ما يبدو عالماً ميتاً، فقط ليستيقظ الجميع بعد ذلك بطريقة سعيدة، من دون أي ذكرى لما حدث.
نُشرت رواية “حزام السم” في العام 1913. ولم تكن أسطوانات الأكسجين في ذلك الوقت تقنية جديدة: كان قد تم تطويرها لأول مرة في العام 1868 لاستخدامها في التخدير. وكان ج. س. هالدين قد اصطحب معه أسطوانات الأكسجين في رحلة استكشافية إلى بايكس بيك، كولورادو في العام 1911، حيث سجل ملاحظات حول فسيولوجيا نقص الأكسجة على ارتفاعات عالية. (ما يزال البحث مستمراً حتى يومنا هذا في مختبر أبحاث بايكس بيك للجيش الأميركي). وكانت العضوة الوحيدة الأنثى في فريق هالدين هي مابيل فيتزجيرالد. وبعد الرحلة، نشرت ورقة في المجلة العلمية “المداولات الفلسفية للجمعية الملكية”، توضح العلاقة الوثيقة بين الارتفاع وزيادة تركيز الهيموغلوبين في الدم. وفاز العلماء الذين شرحوا أخيرًا الأساس الجزيئي لمسار استشعار الأكسجين الكامن وراء هذه الظاهرة بجائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء أو الطب في العام 2019. وكان بيتر راتكليف، مدير الأبحاث السريرية في معهد فرانسيس كريك، حيث أعمل الآن، واحداً من هؤلاء. وقد بدأ محاضرة نوبل بعرض بعض البيانات التي جمعتها فيتزجيرالد.
ما يزال هناك الكثير لاكتشافه حول فسيولوجيا استشعار الأكسجين، ولكن لا يوجد أي لغز على الإطلاق بشأن ما يحدث عندما تحرم شخصًا من الأكسجين بشكل كامل. لا تستطيع الرئتان المصابتان والملتهبتان امتصاص كمية كافية من الأكسجين من الهواء. وهذا هو السبب في أن مرضى “كوفيد” المصابين بشدة يموتون. ويمكن للأكسجين التكميلي البديل منع حدوث ذلك -الأمر بهذه البساطة. وإذا أصبحت إمدادات الأكسجين في المستشفيات مثقلة، فإن العديد من الأشخاص الذين كانوا سيعيشون لولا ذلك -بفضل العلاج المباشر الموجود منذ 150 عامًا- سوف يموتون. هذا ما رأيناه في الهند، ونراه الآن في أوغندا وأجزاء أخرى كثيرة من العالم حيث كانت تدابير الصحة العامة غير كافية لمنع الانتقال غير المنضبط للفيروس. وهذا أيضا ليس لغزا.
يقال إن العامل المعدي القادر على إصابة شخص جديد لكل شخص مصاب حاليًا لديه معدل تكاثر (R الشهير) من 1. فإذا كان R أقل من 1، فإن عدد الإصابات سوف يتناقص بشكل كبير؛ وإذا كان أعلى من 1، سينتشر المرض بشكل كبير إلى أن يطوِّر السكان مناعة كافية لجعل R أقل من 1. من السهل فهم النمو الأسي من الناحية الرياضية، لكنه يتحدى الحدس البشري. وتقدم قصة الأرز ولوحة الشطرنج التوضيح الكلاسيكي لهذا النمو. يسأل الحاكم -الذي يُفترض أنه حكيم- خادمًا عما يريده كمكافأة على عمل شجاع. ويقول الخادم إنه يريد حبة أرز للمربع الأول من المربعات الـ64 على رقعة الشطرنج الخاصة بالإمبراطور، واثنتين للثانية، وأربعة للثالثة وهكذا، ومضاعفة عدد الحبوب لكل مربع. ويسعَد الإمبراطور بالموافقة على هذا الطلب المتواضع على ما يبدو. فبعد كل شيء، لا تكاد المربعات العشرة الأولى توفر أكثر من بضع لقيمات، وبحلول المربع الخامس عشر، سيكون لديه حوالي كيلوغرام من الأرز. ولكن بحلول المربع 64، كان قد جمع 2 مرفوعة إلى أُس 264 حبة، ما يساوي (18.446.744.073.709.551.615) حبة، أي أكثر من إنتاج العالم من الأرز لألف عام -أو أنه، على الأرجح، سيكون قد أغضب حاكمًا غير حكيم بطريقة قاتلة. وتبدو محاولة جعل السياسيين يفهمون مفهوم النمو المتسارع مشكلة دائمة.
في الهند، حيث نشأ كل من الشطرنج والمتغير “دلتا”، أعلن الحاكم غير الحكيم النصر على “كوفيد”. في خطاب أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في 28 كانون الثاني (يناير)، حمل ناريندرا مودي “رسالة ثقة وإيجابية وأمل”. وتواصلت الغطرسة: “لن يكون من المستحسن الحكم على نجاح الهند بالمقارنة مع نجاح دولة أخرى. في بلد يسكنه 18 في المائة من سكان العالم، أنقذ هذا البلد البشرية من كارثة كبيرة من خلال احتواء كورونا بشكل فعال”. ثم تبع ذلك النقص في الأكسجين والحرق الجماعي للجثث في نيسان (أبريل). وعلى عكس ادعاء مودي السخيف، تم تصدير نسخة “دلتا” من الفيروس إلى العالم، والتي تتفوق على نسخة “ألفا” التي كانت في السابق مهيمنة بالكامل.
“ألفا”، و”بيتا”، و”غاما” و”دلتا”: هكذا سمَّت منظمة الصحة العالمية متغيرات “سارس-كوف-2” بأسماء جديدة. ويُعرف “المتغير ألفا” أيضًا باسم B.1.1.7، وكان يُعرف سابقًا باسم “كينت” Kent في المملكة المتحدة و”المملكة المتحدة” UK في كل مكان آخر؛ و”بيتا” B.1.351 أو “جنوب إفريقيا”؛ و”غاما” هو النسخة “البرازيلية” P.1، و”دلتا” هو B.1.617.2 أو “الهند 2” India 2، وقد بدت نسختا B.1.617.1 وB.1.617.3 أيضًا منطويتين على احتمال أن تكونا سيئتين. ومن السهل تذكُّر “ألفا” و”بيتا” و”غاما” و”دلتا”، لكننا وصلنا إلى متغير “لمدا” Lamda في وقت كتابة هذا التقرير، وأنا لا أتطلع إلى رؤية “أوميكرون” وPi وما إلى ذلك. وليست لدينا خطط لما يحدث بعد أن نصل إلى “أوميغا”. من الأسهل عند أحد المستويات فهم المتغيرات حسب بلدها الأصلي، لكن هذا يمكن أن يؤدي إلى ظهور تفسيرات مؤسفة وعنصرية في بعض الأحيان. ويشتكي الزملاء اليونانيون من استخدام هذه الحروف، لكنَّ من الأسهل تسمية متغير مثير للقلق بحرف يوناني بدلاً من استدعاء حرف روماني متبوعًا بسلسلة من النقاط والأرقام التي لن يكون لها معنى يمكن فهمه حقاً حتى لعلماء المعلومات الحيوية.
تتطور الفيروسات من أجل تحسين الانتقال. ويقال في كثير من الأحيان إن هذا يعني أنها تصبح أقل فتكًا بمرور الوقت، لأن الفيروس الذي يقتل مضيفه لن ينتقل بعد ذلك إلى آخرين. وقد يكون هذا صحيحًا بالنسبة لفيروس شديد القتل يقتل مضيفه مبكرًا، لكن فيروس “سارس-كوف-2″، يصيب معظم المصابين بأعراض خفيفة، وتحدث معظم الوفيات بعد أسبوعين أو أكثر من الإصابة عندما يكون الفيروس قد أصبح قابلاً للانتقال أكثر ما يكون قبل ذلك بكثير، حيث تبلغ قابلية انتقاله ذروتها بين اليوم الرابع والسابع تقريبًا من الإصابة. ويتم تصنيف المتغيرات على أنها “مثيرة للقلق” إذا كانت أكثر قابلية للانتقال، وإذا تسببت في مرض أكثر خطورة أو إذا تهربت من المناعة. وحتى الآن، تُظهر المتغيرات المثيرة للقلق التي تم تحديدها جميع الظواهر الثلاث، أكثر أو أقل.
يمتاز المتغير “ألفا” بأنه أكثر قابلية للانتقال، وأكثر تسبباً بالمرض، لكنّ احتمالية تهربه من المناعة هامشية فقط. ولدى نسخ “بيتا” و”غاما” طفرات تتيح ارتباطًا أقل بالأجسام المضادة، وبالتالي من المتوقع أنها تتهرب من المناعة. وفي حين أن “بيتا” و”غاما” لم تتمكنا من السيطرة في المملكة المتحدة، تسبب متغير “ألفا” في موجة مدمرة من العدوى في كانون الأول (ديسمبر) عندما كان هناك القليل جدًا من المناعة. وكنتُ قد كتبت سابقًا عن الأخطاء الفادحة التي تسببت في ذلك (لندن ريفيو، عدد 4 آذار/ مارس). وأدت استجابة الحكومة اللاحقة -تنفيذ حملة تلقيح فعالة للغاية وتخفيف القيود بشكل تدريجي بما يكفي لإبقاء R أقل من 1- إلى القضاء على المتغير “ألفا” تقريباً. ولولا “دلتا”، لكنا الآن بصدد تهنئتهم على نجاحهم وإعداد أنفسنا لقدر معتدل من المتعة في 21 حزيران (يونيو).
عندما تصدرت طفرة الإصابات في الهند عناوين الصحف لأول مرة، لم يكن من الواضح ما إذا كان سببها متغير جديد حقاً. وعلى عكس المملكة المتحدة، حيث يتيح تسجيل تسلسل الفيروسات الكشف السريع عن المتغيرات، لم يكن هناك الكثير من البيانات في الهند. كان متغير “ألفا” موجودًا، ولكن كانت هناك أيضًا ثلاثة أشكال “هندية” منه. وأحد هذه الأشكال، B.1.617.1، المصنف الآن باسم “المتغير قيد التحقيق (كابا) kappa”، يعرض طفرة شوهدت في “بيتا” (التي يعرفها العلماء بشكل غير رسمي باسم “Eeek”) المرتبطة بالتهرب من الاستجابة المناعية للجسم. وأشارت التكهنات المبكرة إلى أن “كابا” قد يكون هو المسؤول عن الكارثة التي تتكشف في الهند.
في 2 نيسان (أبريل)، أعلنت وزارة النقل البريطانية عن إضافة الفلبين وباكستان وكينيا وبنغلاديش إلى “القائمة الحمراء” للبلدان، ما سيؤدي إلى فرض حظر السفر والحجر الصحي لمدة عشرة أيام على المواطنين العائدين. كان هذا “لحماية البلاد من المتغيرات الجديدة… في وقت حرج لبرنامج اللقاح”. وهو قرار جيد، ولكن لماذا لم يتم وضع الهند على القائمة الحمراء أيضًا؟ كان من المقرر أن يلتقي مودي وجونسون في وقت لاحق من الشهر. وفي النهاية، كان لا بد من إلغاء فرصتهما لالتقاط الصور على أي حال، لكن الهند لم تنضم إلى القائمة الحمراء حتى 23 نيسان (أبريل). ومن دون هذا التأخير، ربما لم نكن لنؤجل الآن تاريخ إنهاء القيود إلى 19 تموز (يوليو). وقد تم تشخيص متغير “دلتا” الذي تخطى “ألفا” لدرجة أنه أصبح مسؤولاً الآن عن أكثر من 90 في المائة من الإصابات الجديدة.
كان برنامج التطعيم في المملكة المتحدة من بين الأفضل في العالم. وتظهر أحدث البيانات من دائرة الصحة العامة البريطانية أن 80 في المائة من البالغين لديهم أجسام مضادة لـ”سارس-كوف-2″. وكان معدل امتصاص اللقاح أعلى من 90 في المائة في الفئات العمرية الأكبر سنًا، وقد يكون في النهاية مرتفعًا بالمثل بالنسبة للأفواج الأصغر سنًا. ويعود هذا النجاح إلى الإعلام الممتاز عن المخاطر (الصغيرة) والفوائد (الهائلة) للتحصين. وتم تحديد المخاطر الصغيرة جدًا لشكل معين من التخثر الناتج عن لقاح “أسترا-زينيكا” بعناية، وتم شرح القرار الحكيم بتقديم بديل لمن هم دون الأربعين عامًا بوضوح وصدق. وعلى الرغم من بدء انتشار اللقاح الذي لا تكاد تشوبه شائبة، ما يزال متغير “دلتا” ينتشر، حيث R أعلى بكثير من 1.
لماذا يجب أن ينجح “دلتا” حيث فشل كل من “بيتا” و”غاما” والمتغيرات الأخرى المثيرة للقلق حتى الآن؟ جزء من التفسير هو زيادة قابلية الانتقال. لدى “ألفا” طفرة معينة في البروتين الفيروسي المعروف باسم “سبايك” ترتبط بزيادة قابلية الانتقال. ولدى المتغير “دلتا” طفرة مختلفة في المكان نفسه، يبدو أنها تعطيه قدرة أكبر على الإصابة بالعدوى. ماذا عن التهرب المناعي؟ استخدم مجموعة من زملائي في معهد “كريك” اختبار تحييد الفيروس الحي الذي كنا نطوره للتحقق مما إذا كان “دلتا” قادراً على الهروب من استجابات الأجسام المضادة. وتوقعنا انخفاضًا طفيفًا في قدرة المصل المناعي على منع الفيروس من دخول الخلايا. وبدلاً من ذلك، رأينا أن المتغير “دلتا” كان سيئًا مثل المتغير “بيتا” من هذا المنظور، ولم تكن لدى معظم الأشخاص الذين تلقوا جرعة واحدة فقط من اللقاح مستويات الأجسام المضادة الكافية لمنع العدوى. وأكدت هذه النتيجة دراسات مختبرية أخرى وبيانات من العالم الحقيقي. كان قد تم إيقاف متغير “ألفا” إلى حد كبير بجرعة واحدة من اللقاح، أما بالنسبة للمتغير “دلتا”، فمن الضروري حقًا الحصول على كلتا الجرعتين لتوفير الحماية الكافية. هذا هو السبب في تسريع الجدول الزمني للجرعات الثانية في المملكة المتحدة.
سوف نصل قريبًا إلى نقطة يتضاءل فيها تهديد “كوفيد” في المملكة المتحدة بشكل كبير بسبب المناعة واسعة الانتشار. ومن غير المحتمل أن يتسبب فتح القطاعات في 19 تموز (يوليو) في قدوم موجة مدمرة أخرى من الحالات التي تدخل المشافي -على الرغم من أنه ربما ما يزال هناك ضغط كبير في بعض المناطق. لكنني أخشى وقوع كارثة في أجزاء من العالم حيث التغطية التطعيمية ليست بهذا القدر من الارتفاع. فالمتغير “دلتا” أكثر قابلية للانتقال من المتغير الأصلي، وهو يتفادى المناعة جزئيًا وربما يسبب مرضًا أكثر حدة. ومع أن البنية التحتية للرعاية الصحية في الهند تعد متطورة نسبيًا مقارنة بالعديد من البلدان، فقد عانت مع ذلك بشكل كبير.
في قمة مجموعة السبع في كورنوال، تم التعهد بتقديم مليار جرعة من اللقاح لأفقر البلدان بحلول نهاية العام المقبل -ما يكفي لحماية 500 مليون شخص. وقد انخفض هذا الرقم مسبقاً. وحتى لو أنه لم يكن قليلًا جدًا، فإنه متأخر بالتأكيد. يمكننا، ويجب علينا، أن نفعل المزيد -بأكبر قدر من السرعة- لدعم البلدان الفقيرة: ليس فقط باللقاحات، ولكن بالاختبارات، وتسجيل التسلسل، والأكسجين. وكلما تأخرنا، اقتربنا أكثر من النصف الثاني من رقعة الشطرنج. إن الحديث بعبارات مجردة عن “الحد من التفاوتات الصحية العالمية” لا يحمل قوة أخلاقية كافية. وإذا لم يكن الإيثار دافعًا كافيًا، فإن المصلحة الذاتية المستنيرة ستكون كذلك. إن انتقال هذا الفيروس في أي مكان في العالم يزيد من فرصة ظهور متغير أكثر فتكًا وقابلية للانتقال وأكثر احتمالاً للتهرب من اللقاحات. فهل نريد حقًا أن نجلس مثل البروفيسور تشالنجر في غرفته المغلقة، ونشاهد العالم وهو يختنق؟
الغد