وقع الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي، اتفاقاً ينهي رسمياً المهمة القتالية الأمريكية في العراق بحلول نهاية 2021، بعد أكثر من 18 عاماً على دخول القوات الأمريكية البلاد، وذلك في ختام الجولة الرابعة من الحوار الاستراتيجي بين بغداد وواشنطن. وأكدت بغداد في المقابل التزام العراق بحماية أفراد التحالف الدولي الذين يقدمون المشورة والتدريب.
وستكون الجولة الرابعة من جولات الحوار الاستراتيجي بين البلدين هي الأخيرة، حسب تصريحات وزير الخارجية العراقي. ومن ثم فإن التفاهمات التي تمت بين الجانبين خلالها سوف تشكل الإطار العام الحاكم للعلاقات الثنائية بينهما.
تفاهمات الجولة الرابعة:
عُقدت الجولة الأولى من الحوار الاستراتيجي بين الطرفين افتراضياً بتاريخ 11 يونيو 2020، بينما عقدت الجولة الثانية في العاصمة واشنطن في 19 أغسطس 2020، والثالثة عقدت بتاريخ 7 أبريل 2021. وتعد من ضمن القضايا البارزة التي تمت مناقشتها خلال هذه الجولات مسألة الوجود العسكري الأمريكي في العراق، خاصة مع تسريب مسؤولين أمريكيين معلومات قبل الجولة الأخيرة من الحوار بإمكانية اتجاه واشنطن لسحب قواتها من العراق.
ولم يكشف الكثير من المعلومات عن مضامين التوافقات التي تمت بين بايدن والكاظمي، باستثناء بعض الأمور التي كشف عنها الطرفان في المؤتمر الصحفي، والتي يمكن توضيحها في التالي:
1- تحويل وضع القوات الأمريكية: تضمن الاتفاق الأمريكي – العراقي سحب القوات القتالية بحلول 31 ديسمبر المقبل، وتحوّل صفة الوجود العسكري الأمريكي في العراق إلى استشاري وتدريبي، ولا يعد هذا بالأمر الجديد الذي سيؤدي إلى تحوّل حقيقي للدور العسكري الأمريكي في العراق. فقد كان البيان الرسمي المشترك لجولة الحوار الثالثة بين البلدين في 7 أبريل الماضي نص على الأمر نفسه.
ويمكن النظر إلى هذا الاتفاق باعتباره تكتيكاً استراتيجياً، يهدف إلى رفع الحرج عن الكاظمي، من جانب الميليشيات المدعومة من إيران، والتي كانت تضغط بقوة لإخراج هذه القوات عبر توجيه عمليات تستهدفها، فضلاً عن دعمه سياسياً في مواجهة الأحزاب السياسية القريبة من إيران، وذلك قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة في أكتوبر.
وأكد الرئيس الأمريكي استمرار التعاون الأمني مع العراق ضد الإرهاب خلال المرحلة الجديدة، وهو ما يعني استمرار الدعم الاستخباراتي الأمريكي للقوات العراقية. وعلى الرغم من أن الإرهاب يقصد به تنظيم داعش، فإن واشنطن ترى أن دعم القدرات الأمنية للقوات العراقية سوف يؤهلها في فترة تالية لتحجيم التهديدات النابعة من ميليشيات إيران.
2- إقامة شراكة سياسية طويلة الأمد: تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز الشراكة السياسية مع العراق، وهو ما وضح في تأكيد الكاظمي أن التنسيق بين العراق والولايات المتحدة لن يقتصر على الجانب الأمني وحده.
3- تعزيز استقلال العراق عن طهران: تسعى واشنطن لدعم جهود الكاظمي للحفاظ بمسافة كافية عن إيران، وسعى الكاظمي لتحقيق ذلك أمنياً، عبر محاولته غير الناجحة لتحجيم ميليشيات إيران، فضلاً عن محاولة إرساء مشروع المشرق الجديد مع مصر والأردن، أو دراسة الربط الكهربائي مع دول الخليج، لتعزيز استقلالية بغداد اقتصادياً عن طهران.
وترى واشنطن أن جهود الحكومة العراقية في ضبط ميليشيات إيران لاتزال دون المستوى. وتسعى القوات الأمنية العراقية إلى تأمين القواعد الأمريكية، من دون محاولة الاشتباك مع القائمين بهذه الهجمات.
4- عدم تحول العراق إلى قاعدة لتهديد المنطقة: تأتي ضمن التفاهمات المحتملة بين الجانبين الأمريكي والعراق ضمان ألا يكون العراق مصدر تهديد لجواره الإقليمي، حيث تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحصول على التزامات من الحكومة العراقية بعدم استخدام أراضيه كمنطلق لتهديدات محتملة لجيرانه من جانب الميليشيات التابعة لإيران داخل العراق.
ووضح ذلك في تصريحات السفير الأمريكي في العراق ماثيو تولر يوم 28 يوليو، والتي أكد فيها أن بايدن أشار إلى “أنّ استقرار العراق هو استقرار للمنطقة. وجود العراق كدولة قويّة مستقرّة وموحّدة، ينعكس على المنطقة”.
5- دعم إجراء الانتخابات العراقية: تسعى واشنطن لضمان انتخابات عراقية حرة ونزيهة، واستغلال الرأي الشعبي المناوئ لطهران والسياسيين العراقيين المرتبطين بها، وذلك لتعزيز مصطفى الكاظمي، والذي بذل جهوداً لتحجيم النفوذ الإيراني.
ويلاحظ أن هذه الانتخابات سوف تكون محورية، إذ يتوقف نفوذ واشنطن على تمكن القوى المناوئة للوجود الإيراني من الفوز بهذه الانتخابات، والتي تتمثل تحديداً في الكاظمي والتيار الصدري، وغيرهما من القوى التي تتخوف من محاولات طهران المستمرة للهيمنة على العراق. وفي المقابل، فإن طهران ووكلاءها في العراق يسعون لتحقيق مراكز متقدمة في هذه الانتخابات، على الرغم من الاحتجاجات الشعبية الشيعية ضد طبقة السياسيين المرتبطين بإيران.
وأكد تولر أنّ “هناك بعض الجهات تريد عرقلة الانتخابات”، مؤكّداً أن الولايات المتحدة “تقدم دعماً مالياً كبيراً، أولاً ليونامي التي ستضطلع بدور في مراقبة الانتخابات، وكذلك للهيئة العليا المستقلة للانتخابات، من خلال المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية التي تقدم دعماً فنياً”. كما أكد أن “الشعب العراقي يريد أن يرى انتخابات نزيهة، وأن يشارك الكثير من العراقيين في التصويت”، وذلك لقطع الطريق أمام أحزاب إيران من توظيف الترهيب أو عمليات شراء الأصوات للمحافظة على وزنها الحالي في السياسة العراقية.
تحديات التفاهمات المشتركة:
تتمثل أبرز التحديات لنجاح التفاهمات الأمريكية العراقية ما يلي:
1- مدى استجابة إيران لطلبات الكاظمي: تعد إيران هي المحرض الرئيسي للميليشيات الشيعية العراقية لاستهداف الوجود الأمريكي في العراق. ولذا، فإنها ستكون معنية بنتائج هذه الجولة من المفاوضات، خاصة فيما يتصل ببقاء القوات الأمريكية هناك.
ويدرك الكاظمي ذلك جيداً، ولذلك كان يخطط لزيارة طهران عقب عودته من واشنطن وبعد تنصيب إبراهيم رئيسي رئيساً للبلاد، وهو ما وضح في تصريحه “إننا في حاجة إلى الاستقرار ولهذا سأزور طهران بعد تنصيب رئيسها الجديد، فلدينا ملفات كثيرة عالقة وهناك مواضيع مشتركة تحتاج إلى حوار وحلول”، وهو ما يعكس إدراك الكاظمي بأن طهران طرف رئيسي في إثارة الاضطرابات في العراق، وأن هناك حاجة لضبط إيران سلوك ميليشياتها في العراق.
وتراهن طهران على أن إدارة بايدن قد تتجه للانسحاب من العراق، إذا ما وصلت الفصائل الشيعية لاستهداف قواتها في العراق، وهو ما يغريها على مواصلة تصعيد عملياتها ضد الوجود الأمريكي.
2- موقف ميليشيات طهران: عبرت الفصائل المسلحة، عن رفضها المبدأي نتائج هذا الحوار، حتى قبل إذاعة البيان النهائي بشأن تحول القوات القتالية إلى مهام التدريب والمشورة، واعتبرت هذه الفصائل أن هذا التحول ما هو إلا خطة أمريكية لكسب المزيد من الوقت، والبقاء لوقت أطول في البلاد. وهدد نصر الشمري نائب الأمين العام لـ”حركة النجباء”، أحد فصائل الحشد الشعبي الشيعية، بـ”استمرار استهداف القوات الأمريكية في العراق حتى بعد تغيير المسمى”.
ووصل قائد فيلق القدس الإيراني الجنرال إسماعيل قاني إلى العاصمة العراقية بغداد في زيارة “سرية” يوم 28 يوليو، أي بعد لقاء بايدن والكاظمي، حيث سيجتمع خلالها مع زعماء الفصائل المُسلحة العراقية. ويلاحظ أن هذه الزيارة سوف تكون مؤشراً محتملاً على التصعيد، حيث إن زيارات قاني، ومن قِبله زيارات القائد الأسبق قاسم سُليماني كانت تستبق حملات تصعيد مكثفة تقودها الميليشيات الشيعية ضد القوات الأمريكية في العراق.
ويلاحظ أن هناك انقساماً بين القوى الشيعية حول الوجود الأمريكي، إذ إن زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، كان من أبرز الداعمين لتحول دور القوات الأمريكية، بل وكتب بياناً مطولاً دعا فيه إلى وقف كل العمليات، التي كانت تستهدف الوجود الأمريكي العسكري والدبلوماسي، في رسالة تكشف عن وجود قلق لدى التيار الصدري من أن يؤدي الانسحاب الأمريكي إلى زيادة سطوة الميليشيات الشيعية المرتبطة بإيران في مواجهة تلك المستقلة عنها.
3- قدرة بغداد على تأمين الوجود الأمريكي: من المفهوم، وفقاً للتفاهمات الأمريكية – العراقية، أن تتولى الحكومة العراقية المسؤولية المباشرة عن تأمين القوات الأمريكية داخل العراق، وهو ما يثير التساؤل حول مدى قدرة بغداد على القيام بذلك، وكذلك موقف القوات الأمريكية، والتي اتجهت مؤخراً إلى الرد على الاعتداءات ضدها، وهل ستواصل هذا النهج أم لا.
وفي الختام، فإن هذه الجولة الأخيرة من الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة، ستكون لها تأثيرات كبيرة، ليس فقط على الداخل العراقي، بل كذلك على الأمن الإقليمي، وهو ما يستدعي مراقبة التطورات العراقية خلال الفترة القادمة، والتي ستكون فترة اختبار حقيقية لمدى قدرة الحكومة العراقية والولايات المتحدة على تثبيت أي اتفاقيات أو تفاهمات بين الجانبين، في ظل التحديات الإيرانية المتوقعة.
المستقبل للدراسات