تتصدى إسرائيل في الأشهر الأخيرة لثلاث بؤر توتر أمني مركزية: قطاع غزة، ولبنان، وإيران (ولا سيما في سياق منطقة الخليج). لقد تطور التوتر في الساحات الثلاث على خلفية منفردة، ولكنها تنطوي على قاسم مشترك في شكل جسارة زائدة من جانب أعداء إسرائيل، ومحاولة حذرة من جانبهم لإعادة تصميم قواعد اللعب في المواجهة مع إسرائيل.
التعبير الأول عن ذلك كان حملة “حارس الأسوار” التي بادرت فيها حماس لأول مرة بمعركة عسكرية واسعة، وذلك دون توتر مسبق في قطاع غزة، بل رداً على ما يجري في القدس. في السياق الإيراني، برزت مؤخرا ضربات للسفن في منطقة الخليج، وبعضها بملكية إسرائيلية وعلى رأسها السفينة التجارية التي قتل فيها مدنيان (بريطاني وروماني). أما التعبير الأخير على الميل الموصوف فنجده في نار “حزب الله” إلى شمال إسرائيل عقب هجوم الجيش الإسرائيلي (الذي جاء بعد إطلاق صواريخ من جنوب لبنان)، وذلك لأول مرة منذ 2006.
تشهد جملة الأحداث على تغيير يتحقق في منطق أعداء إسرائيل الذين انتهجوا سياسة كبح في السنوات الأخيرة خوفاً من التورط في تصعيد واسع. يحدث هذا التغيير عقب تحولات في المنظومات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها صعود إدارة جديدة في الولايات المتحدة تعد في نظر الكثيرين في الشرق الأوسط كمن تبدي حماسة أقل من سابقتها للعمل بقوة في المنطقة؛ وتركيز إسرائيل على أزمة كورونا والعقدة السياسية الداخلية المتواصلة؛ والضعف والخوف الذي يبديه العالم العربي السُني، بعد تقديره بأن واشنطن لا توفر له دعماً مستقراً كما كان في الماضي.
إن الجرأة التي تبديها حماس، و”حزب الله” وإيران، ليس معناها الضياع التام للردع الإسرائيلي وإظهار استعداد لمواجهة شديدة القوة معها. يدور الحديث عن تجربة ومناورة هدفهما الفحص كيف يمكن خلق مجال عمل يتيح احتكاكاً مع إسرائيل والرد على أعمالها دون الوصول إلى مواجهة شاملة ضدها. يدور الحديث عن نوع من “المعركة ما بين الحروب” من إنتاج معسكر المقاومة، الذي وجد تعبيراً مختلفاً له في كل ساحة: في قطاع غزة من خلال إرهاب البالونات، وفي الخليج بضرب متواصل للسفن، وفي لبنان بإطلاق متقطع للصواريخ، ليس واضحاً بعد ما إذا كانت هذه ظاهرة شاذة أم نمطاً متكرراً.
تدير الجهات الثلاثة متابعة حثيثة لردود فعل إسرائيل والساحات الإقليمية والدولية على الاحتكاكات المختلفة، وتتلقى انطباعاً على ما يبدو بأنها ليست شديدة كما كانت في الماضي. في حملة “حارس الأسوار” وإن كانت حماس قد تلقت ضربة عسكرية ذات مغزى إلا أنها سجلت إنجازات استراتيجية في شكل عزز صورتها في الداخل وأثار المجتمع العربي في إسرائيل. لم تتكبد إيران ضرراً ذا مغزى بعد خطواتها العدوانية في الخليج (الحوار بينها وبين الأسرة الدولة في الموضوع النووي مستمر، ومندوبو الاتحاد الأوروبي حضروا احتفال تنصيب رئيسها الجديد). ولم يستجب إطلاق الصواريخ في لبنان بضربة إسرائيلية حادة أو بانتقاد دولي لاذع (وإن كانت ترافقت ونقداً شديداً ضد “حزب الله” داخل لبنان). إن تلاحق الأحداث يستوجب فحصاً للشكل الذي تنظر فيه إسرائيل إلى منطق خصومها وتقدير نشاطهم. في هذا السياق، تتبين منذ بضعة أشهر فجوة بين التقدير الإسرائيلي في أن هؤلاء مردوعون ويسعون للحفاظ على الهدوء مع إسرائيل، على خلفية مشاكلهم الداخلية (الضائقة المدنية في القطاع؛ انهيار الدولة اللبنانية؛ والمحاولة الإيرانية لتحسين مكانتها في الساحة الدولية)، وبين الواقع بالفعل الذي يتخذ فيها هؤلاء الجرأة التي ولدت مفاجآت في شكل مبادرة هجومية تتبناها حماس ضد إسرائيل، أو رد “حزب الله” على هجوم الجيش الإسرائيلي في لبنان.
الفرضية الإسرائيلية الأساس حول المردوعات ونفور خصومها من معركة واسعة صحيحة بالفعل، ولكنها تفوت استعدادهم لاتخاذ خطوات عسكرية هي في نظرهم تحت مستوى التصعيد الشامل. هذه فجوة مطلوب فهمها واستيعابها بدلاً من الانجرار إلى حلول سهلة نسبياً، مثل التفسيرات التي تقول إن العدو فقد تفكره وأصبح غير متوقع، مثلما زعم مؤخراً عن يحيى السنوار.
على إسرائيل أن تلاحظ المحور الذي يربط بين ساحات التطور، التي وإن كانت تدار على خلفية منفردة، غير أن اللاعبين المركزيين فيها يعكسون منطقاً مشابهاً، بل ويجرون بينهم حواراً وسياقات تعلم مشتركة. على إسرائيل أن تفهم بأن أعداءها لا يزالون مردوعين من معركة شاملة ضدها، ولكنهم يحاولون الفحص ما إذا كان بإمكانهم إعادة رسم الخطوط الحمراء تجاهها. هذه الدينامية قد توجه إسرائيل، وأعداءها أيضاً، إلى تصعيد واسع، وذلك دون تخطيط وبخلاف مصالح عموم اللاعبين.
بقلم: عاموس جلعاد وميخائيل ميلشتاين
القدس العربي