تاريخ من المجاعات والأوبئة في مصر لم تصنعه الكوارث الطبيعية وحدها

تاريخ من المجاعات والأوبئة في مصر لم تصنعه الكوارث الطبيعية وحدها

لطالما عانت القاهرة من تاريخ طويل من المجاعات والأوبئة، غير أن هذه الأزمات اشتدت وبلغت ذروتها خلال القرن السابع عشر أي أثناء الاحتلال العثماني للبلاد، فأثناء تلك الحقبة انتشر الطاعون وتزامنت معه أزمة غذائية حادة، وحسب دراسة مصرية حديثة فإن العوامل الطبيعية المتمثلة أساسا في فائض النيل ليست الوحيدة المسؤولة عنها، فقط ضاعفت الصراعات العسكرية والسياسية وهجمات البدو المباغتة للسيطرة على فائض الإنتاج من معاناة المصريين.

مثلت المجاعات والأوبئة لبّ الأزمات الاجتماعية القاسية التي واجهت المجتمع المصري في فترة ما قبل القرن التاسع عشر، حتى إنه لم يكد ينجو جيل واحد، خلال تلك الحقبة التقليدية طويلة الأمد، من تعرضه لمأساتها.

وشكلت مواجهة الأزمات الصحية والاجتماعية تحديا للقاهرة على مدى تاريخها وبشكل خاص خلال القرن السابع عشر، تلك الفترة الذي ظلت غامضة في تقدير بعض الباحثين والمؤرخين.

ورصد كتاب للباحث المصري ناصر أحمد إبراهيم يحمل عنوان “الأوبئة والأزمات الاجتماعية في مصر”، أن العصر العثماني يعد إحدى الحلقات الرئيسة لهذه الظاهرة والتي يتناول الكتاب تحليلها وكشف أبعادها المختلفة في تاريخ مصر في القرن السابع عشر.

وبرأيه لم تحظ هذه الفترة بدراسة مستقلة، ليس في مجال الأوبئة والكوارث الطبيعية فحسب، بل في شتى ألوان الكتابة في التاريخ الاجتماعي لهذا القرن الذي يعدّ من أكثر الحقب في تاريخ مصر غموضا، بسبب ندرة الدراسات المخصصة بشأنه.

واستحضر كيف يتميز التاريخ المصري بامتلاكه لأقدم وثيقة عن المجاعات والمتمثلة في “مسلة الجوع” التي تعود إلى عهد “زوسر” في الدولة القديمة، وكذلك في قصة “النبي يوسف” وبقراته السبع العجاف، يأكلن سبعا سمانا؛ حيث كانت الزراعة تمثل عماد الاقتصاد المصري؛ ومن ثم فقد كان تواتر سلسلة طويلة من المجاعات والأوبئة يمثل شيئا مستمرا في التاريخ الاجتماعي والاقتصادي.

عادة ما كان الطاعون يعرّف بلقب خاص وهو لقب يشير إلى البعض من صفته الطبيعية وكذلك إلى الظروف التي حدث فيها، مثل طاعون “فصل الجيش” الذي أطلقه المصريون على طاعون 1655 نسبة إلى الأحداث التي وقعت في ذلك العام، حيث خرجت فرقة مملوكية عثمانية كبيرة إلى الحبشة لتوطيد نفوذ الدولة على هذه المنطقة، وقد وقع الطاعون في أعقاب رجوعها، كذلك أطلق على طاعون 1671 “فصل الحريق” بسبب وقوعه في أعقاب انفجار هائل في سوق البارودية، الذي أدى إلى تهدم عدد لا يحصى من الحوانيت والبيوت، كما تسبب في سقوط ضحايا كثيرين.

وعندما وقعت سيول عارمة لم تحدث بهذه القوة التدميرية قبل عام 1686 وأعقبها الطاعون، فنسب المصريون هذا الوباء إلى السيول وأسموه “طاعون فصل السيل”، كذلك إطلاقهم على طاعون 1696 “فصل الشراقي الكبير” الذي يحمل مدلول الأزمة الاقتصادية الشديدة التي نجمت عن تتابع أحداث الشراقي على مدى ثلاث سنوات متتالية من أواخر 1693 وحتى 1695.

وينقل الكاتب عن ابن عبدالغني قوله “إن هذا الطاعون انفرد بثلاثة مسميات، فإلى جانب هذا الاسم أطلق عليه ‘فصل الشحاتين’ و’فصل الهبا’، فالأول إشارة إلى حركة الخروج الريفي التي تسببت في ازدحام القاهرة بالجوعى والشحاذين، أما الاسم الأخير فهو إيماء إلى وقوع الطاعون خلال فترة رياح الخماسين”.

ويضيف “وهناك طواعين أخرى دلت مسمياتها على طبيعتها، كطاعون 1667 الذي عرف بـ’فصل الموت الأصفر’؛ لأن المصاب بعدواه كان يصفرّ وجهه وجلده، فيصير مثل الليمون فيقع ميتا في الحال، كما ارتبطت أسماء طواعين أخرى بأسماء بعض الباشوات، فطاعون 1619 أطلقوا عليه ‘فصل جعفر باشا’، وطاعون 25/ 1626 عرفوه بـ’فصل بيرم باشا’ وطاعون 42/ 1643 ‘فصل مقصود باشا”.

وبعض الطواعين الأخرى ارتبطت مسمياتها وفقا لفئة الضحايا، كانوا يطلقون عليه “فصل الأكابر” بسبب موت أبناء أحد الوزراء، وعدد كبير من الأمراء والأغوات وأولادهم وخدمهم والكثير من مماليكهم، أو يعرفونه بـ”فصل الولدان أو الشباب” لأن ضحاياه من الأطفال والصبية والشباب، وحين أصدر مصطفى باشا 23 / 1626 أمرا استوعب به ذعر الناس ومنع النساء من العويل أثناء الموكب الجنائزي، كما منعهن من ارتداء ملابس الحداد السوداء، فأطلق المصريون على هذا الطاعون “الفصل الساكت”.

ويقول إبراهيم “حين تطول فترة الطاعون تكون النتائج السلبية أكثر خطورة، ففي طاعون مقصود باشا 42/ 1643 الذي استغرق سبعة أشهر لحق الخراب بنحو 230 قرية بسبب موت فلاحيها وملتزميها أيضا، ومن المفترض أن تواتر المجاعات والأوبئة على فترات زمنية متقاربة كان يضاعف المأساة؛ إذ لا يكاد يفيق الفلاحون وجميع الأهالي من هجمة حتى تطالعهم جائحة مماثلة، وقد حدث ذلك على الأقل مرتين في القرن السابع عشر، كانت أولاهما بين عامي 18 ـ 1626 ‘حالة قحط وخمس نوبات طاعونية’، وثانيتهما بين عامي 53 ـ 1656 ‘نوبتان للطاعون’، وعلى مستوى القرن وقعت ثماني عشرة حالة طاعون ‘بمتوسط حالة كل خمس سنوات ونصف السنة’ كان معظمها بالغ الشدة والتأثير، إلى حدّ أن عددا كبيرا منها كان يجتاح جميع الأقاليم الريفية دون هوادة”.

ويتتبع الباحث الأزمات الاقتصادية والمجاعات التي ضربت مصر خلال القرن السابع عشر، مؤكدا أن المتغيرات الطارئة على مناسيب فيضان النيل صعودا وانخفاضا كانت لها مردودات سلبية على الاقتصاد المصري بالشكل الذي كان يدفع تداعيات الأزمة الغذائية كافة إلى البروز سريعا.

ومن ثم فقد مثل فيضان النيل أهم ظاهرة طبيعية ظلت تسهم بدور رئيسي في تعريض السكان لتلك الأزمات طيلة الثلثين الأولين من القرن السابع عشر، بينما يتبدل الأمر تماما في الثلث الأخير من هذا القرن. حيث لم يعد انتظام وفاء المناسيب وتوافر إمكانات الزراعة والإنتاج كافيين لتمكين اقتصاد الولاية من الحفاظ على استقراره أو رخائه النسبي، وذلك بسبب المشكلات النقدية، وقد لوحظ أن معظم الأزمات قد أعقبها انتشار الطاعون على نطاق واسع شمل جميع المدن والأقاليم، وهو ما يؤكد العلاقة الجدلية بين الأزمات الغذائية وانتشار العدوى الوبائية.

يوضح إبراهيم أن هذه الأزمات الاقتصادية والوبائية لم تصنعها الكوارث الطبيعية وحدها، حيث كانت هناك أسباب وعوامل أخرى غير طبيعية.

ويقول “أما العوامل الأخرى كفوضى الضرائب الرسمية المتعددة والشاذة والتي استوعبت جزءا كبيرا من دخول المنتجين في الريف والمدن، وصراعات الفرق العسكرية وهجمات البدو من أجل السيطرة على الفائض الإنتاجي، وما ترتب عليها من آثار سلبية على عملية الإنتاج وعلى مستوى معيشة السكان، بالإضافة إلى تكالب الوزراء على احتكار الغلال وتهريبها بصفة خاصة إبان الأزمات، إلى جانب أعمال المصادرات الفجة لتركات الأهالي، ولما كان العمل الإنتاجي (الفلاحين والحرفيين خاصة) أكثر المتضررين من هذه الممارسات فقد كانوا من أكثر ضحايا المجاعات والطواعين”.

ولعل هذا ما ضاعف من مؤثراته السلبية على الاقتصاد، كذلك كان الغياب شبه التام للإدارة أو السلطات المحلية عن الاهتمام بشؤون المرافق والخدمات الصحية السبب في تنامي العدوى وانتشارها بصورة متكررة.

ويؤكد أن ردود الفعل الإدارية تجاه الأزمات كانت تحددت في نطاق ضيق للغاية بسبب سيادة المفهوم التقليدي لأعباء الدولة في الحكم والذي كان يقصر مسؤولياتها على مهام دفاعية ـ أمنية، أما ما يتعلق بحياة المجتمع ونظمه المختلفة فقد نيئت بكاهل الرعايا الذين لم يكونوا ـ في الوقت نفسه ـ في حال تمكنهم من القيام بأعبائها.

القرن السابع عشر كان أشدها فتكا بالسكان، حيث شهد ما لا يقل عن عشر أزمات غلاء شديد “مجاعات نوعية وشاملة”، بالإضافة إلى ثماني عشرة جائحة

والمحصلة النهائية أن المواجهة لم تكن في أغلب الأحايين حاسمة؛ وخاصة في ظل ضعف الدولة وانصياعها التام لرغبة العسكر في عزل الوزراء المصلحين أو ذوي النزعة الجادة في المواجهة، وهو ما أدى إلى تفجر مظاهرات شعبية عنيفة تنهب وتدمر وتحرق صوامع الغلال الحكومية، غير أن الأخيرة سرعان ما كانت تفض هذه الحركات فور إطلاق الرصاص وإسقاط عدد من القتلى؛ الأمر الذي كان يدفع الجماهير إلى ممارسة شتى ألوان التهكم الاجتماعي والسياسي كنوع من المقاومة السلبية التي كانت تخفف عنهم المعاناة أو الضغوط غير المحتملة إبان سنوات المجاعات والأوبئة التي كانوا يمثلون أولى ضحاياها، في حين ظلت جماعات النخبة العسكرية والبرجوازية وكذلك الجاليات الأجنبية قادرة على تأمين نفسها سواء بمغادرة البلاد أم باتخاذ “العزلة” سياج حماية فعالة؛ وخاصة حين تكون ضربات الطاعون شديدة ومدمرة وشاملة.

ويخلص الباحث إلى أبرز التغيرات التي أحدثتها المجاعات والأوبئة كان “التضخم النقدي الذي ألم آنذاك بالعملة العثمانية، والذي استمر دون توقف، وضعف الدولة الذي بات محسوسا وخاصة بعد عجزها عن مواجهة الأزمة المالية، مما كان له أثر في دفع العسكر الذين أضيروا من تراجع القوة الشرائية لمرتباتهم النقدية، إلى اللجوء إلى وسائل متنوعة؛ ففرضوا الضرائب الاستثنائية المتعددة والشاذة التي استوعبت جزءا من دخول المنتجين، كما مارسوا ألوانا مختلفة من الابتزازات والمصادرات، هذا في الوقت الذي تكالبوا فيه على معظم مقاطعات الالتزام التي مكنتهم من السيطرة على الفائض الإنتاجي واحتكاره، وبصورة مطردة تحكموا في حركة وممارسة المضاربات على نطاق واسع”.

وشكلت هذه التطورات الخلفية الأساسية التي مهدت بدرجة كافية لوقوع الأزمات الغذائية وما تلاها من طواعين وأوبئة والتي ظل المجتمع مهددا بها حتى نهاية القرن الثامن عشر؛ حيث كان في وسع جماعة النخبة “وهم كبار الملتزمين” افتعال الندرة إثر الإعلان عن سوء منسوب الفيضان. وقد شهد القرن السابع عشر ما لا يقل عن عشر أزمات غلاء شديد “مجاعات نوعية وشاملة”، كان أشدّها فتكا بالسكان في سنوات 1/ 1602، 30/ 1631، 1676، 94/ 1695، بالإضافة إلى ثماني عشرة جائحة طاعونية.

وخلص ناصر إبراهيم إلى أن أزمات الغلاء والمجاعات والأوبئة كانت تنشط كظاهرة وتزداد وطأتها في تدمير السكان خلال الفترات التي انحسرت فيها قوة الدولة وبرزت في مقابلها القوى المحلية التي فرضت نفوذها في استغلال شؤون الولاية كافة. وقد كان ذلك سببا في الحيلولة دون أن تشهد هذه الفترات طفرة سكانية، ليعاود منحنى الانخفاض الديموغرافي أدراجه التي كان عليها قبل الفتح العثماني، بينما تتوسع أوروبا بقوة في وضعها الديموغرافي بفضل دينامية النظم الاقتصادية والسياسية وتطبيقها للإجراءات الوقائية والعلاجية ولاسيما “الحجر الصحي” وعزل المناطق الموبوءة، والذي لم يطبق على نحو واضح أو فعال إلا في العقود الأولى من القرن التاسع عشر.

العرب