ليس ذلك اتهاماً نشير إليه ولا عيباً نعاير به، إنما هي حقيقة موضوعية نناقشها بكل تجرد، تكاد تستوي فيها أو في جزء منها كل الدول العربية مع استثناءات محدودة لفترات قصيرة، إلا أننا كعرب غير متهمين بالديمقراطية أو ميلاد الدولة العصرية، ونحن نشترك في ذلك مع أمم أخرى غير عربية وغير إسلامية، فالمشكلة أكبر من ذلك وأضخم، ولو تأملنا التاريخ العربي منذ صدر الإسلام حتى الآن لوضعنا أيدينا على بعض المفاتيح التي أدت إلى ما نشهده من أحداث وما نحمله من ذكريات، واضعين في الاعتبار أن هذه السطور تسعى لتوصيف الواقع وعلاج المرض والصعود إلى مرتبة تستحقها الشعوب العربية على سلم الدولة المدنية الحديثة والديمقراطية المعاصرة بكل مالها وما عليها، وسنحتكم إلى استقراء التاريخ أحياناً واستدعاء أحداثه الكبرى أحياناً أخرى، ونقدم عبر النقاط التالية تصوراً للحاضر وتوقعاً للمستقبل مع إشارات أمينة إلى الماضي في تراثنا الفكري والسياسي وهويتنا القومية:
أولاً، يملك العرب نظريات موازية لكل ما يمر بهم في حاضرهم أو مستقبلهم، وهو أمر يدفع إلى اجترار الماضي والنزوح إليه باستمرار، فإذا تحدثنا عن البرلمان الحديث كان الرد أن تراثنا الإسلامي يحمل في طياته مشاهد مثيلة لما نتحدث عنه، فاجتماع سقيفة بني ساعدة (على سبيل المثال) هو مظهر من مظاهر الديمقراطية عند اختيار أول خليفة بعد رحيل النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وإذ تراجع كثيرون ممن اعتنقوا الإسلام في تلك المرحلة الخطيرة من تاريخ الدعوة تردد القول الصائب “من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت”، كما تشدد أبو بكر رضي الله عنه تجاه مَن امتنعوا عن دفع الجزية وقال قولته الشهيرة “والله لو منعوا عني عقال بعير كانوا يدفعونها لرسول الله لقاتلتهم عليه”، فالديمقراطية بالمفهوم الإسلامي كانت تعطي الحاكم الفرد مسوغاً لكي يفعل ما يشاء ويتصرف كما يريد، وأنا أريد أن أقول هنا إنه ليس صحيحاً أن الإسلام الحنيف يعادي الديمقراطية الغربية، بل هو يرى أن لديه نظرية متكاملة تغني عن الممارسات الانتخابية الغربية عند اختيار الحاكم أو إعطاء البيعة، ولكن الذي حدث هو نوع من الانقلاب العقلي الذي جعل جمهرة المسلمين يلتقطون عبارات من الثورة الإسلامية التي فجرتها الدعوة المحمدية في مجتمع جاهلي خاصم الحرية، وأدمن الرق والعبودية وابتعد عن حقوق الإنسان فجاء الإسلام لكي يكون تصحيحاً إلهياً من ظلامات الفوضى وأوثان الجاهلية.
ثانياً، إن الأمر المحزن حقاً هو تلك الازدواجية التي عاشها العرب في العصور الحديثة، إذ لديهم في تراثهم التاريخي وذاكرتهم الدينية ما يجعلهم يؤمنون بأن الإسلام قدم نظرية للسياسة والحكم، وأن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم على أن تكون لهم الجنة في نهاية حياتهم، كما أن ظهور ومضات من العدل السياسي والشورى قد جعلت الأمر يختلف في أعين المسلمين بالمقارنة مع ما يجري في الغرب من تجاوزات وخروقات لحقوق الإنسان وأساليب التفكير، فهناك من العرب مَن ينتزع عصر الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز الذي عُرف بالعدل والتقى والورع، وينسبه عن حق إلى الإسلام بمبادئه السامية بعيداً عن نسبته لبني أمية بما في تاريخهم من صراعات ودماء ومظالم، فانحياز المسلم لدينه هو أمر طبيعي حرمه من تأمل الديمقراطية الغربية ونجاحاتها عبر القرون، على الرغم من اعترافنا بأنها تمر بأزمة حقيقية في زماننا المعاصر، فالكل يعترف بأن الديمقراطية الغربية ليست في أزهى عصورها، ولا أفضل أحوالها حتى أن كثيراً من المفكرين السياسيين ينذرون بنهاية الديمقراطية الغربية بعد عقود قليلة.
ثالثاً، إن العربي بطبيعته نازح إلى ماضيه، منفصل عن حاضره، يردد الأناشيد والأذكار ويقرأ في ديوان الحماسة ويلوك أمجاد العرب صباح مساء، بينما الدنيا تجري حوله والتكنولوجيا الحديثة تقطع الطريق على الجميع، إذ إن أدوات العصر الجديد تؤدي إلى نقلة نوعية في أساليب الحياة وأنماط السلوك، لذلك لا بد أن يخرج العرب من شرنقة الماضي، وأن يعيشوا ويتفاعلوا مع حياة العصر كما يجب أن تكون، وأن يتمكنوا في كل وقت من أخذ أفضل ما فيه ولا يظلوا أسرى للماضي يفتشون فيه عن بديل للعصر الذي يعيشونه، فلكل عصر ما يناسبه، ولكل أوان ما يتماشى معه، ومن العبث أن نتوهم أن الماضي هو الذي يحكم وأن التراث أقوى من المعاصرة، فتلك أطروحات تتميز بالعناد ولا تعرف التسامح الفكري أو الانفتاح العقلي.
رابعاً، خلط العرب بين الدين والقومية، بين الإسلام والعروبة، وحسبوا أن كل ما يُنسب إلى الإسلام هو عربي، وأن كل خصائص العروبة تلحق الإسلام على الجانب الآخر، وتلك محاولات تتسم بالتعميم ولا تعرف معنى التخصيص وحسن الاختيار، فالعروبة هوية بينما الإسلام عقيدة، وليس كل العرب مسلمين ولا كل المسلمين عرباً، فالدمج بين الأمرين يؤدي دوماً إلى كثير من الاضطراب في تفسير الحقائق ومواجهتها ووزن الأمور للتعرف عليها، فقد عايش العرب فترات صعود وهبوط ومراحل انتصار وانكسار إلى أن جاء عليهم حين من الدهر اتسمت فيه المنطقة العربية بالتراجع بعد أن تمكنت منهم السيطرة الأجنبية، وحكمت عليهم المتغيرات الدولية بأن يكونوا أحياناً خارج دائرة العصر، ولقد حان الوقت الآن لتدبر الأمر والفكاك من قيود الماضي، ولعل ما جرى في جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية كنموذجين لدولتين كبيرتين تعبران عن ثقل عروبي وإسلامي، ما يؤكد أن الانطلاق إلى المستقبل ممكن، وأن التحليق في سماوات العقل وارد، وأن قيود الماضي وأغلال الفكر الظلامي لا بد لها أن ترحل عن العقل العربي حتى تفتح الأمة الأبواب والنوافذ وتستقبل التيارات الفكرية العصرية والديمقراطية الحديثة مع احترام حقوق الإنسان.
خامساً، يجب علينا كشعوب تعيش في مهبط الأديان السماوية الثلاث أن نباهي بالثراء الروحي الذي نمتلكه والعطاء الديني الذي آل إلينا، بشرط أن يكون ذلك في إطار من الوعي والرشاد والقدرة على التمييز بين الأمور في كل شؤون حياتنا ومراحل مستقبلنا، فقد آن الأوان لزوال السحب والغشاوات التي سكنت الوجدان العربي وحرمته من إعمال التفكير الرشيد وأبعدته عن الرؤية الصادقة، فكان الثمن غالياً وكانت الضريبة فادحة دفعناها من دماء شعوبنا وموارد أوطاننا دون أن ندرك أن الثمن فادح، على الرغم من أن الخلاص يبدو ممكناً، وأن كسر قيود الماضي أصبح حتمياً. ويجب أن نتذكر دائماً أن الاغتراب عن العصر الذي تعيشه البشرية هو نوع من العزلة والحرمان القسري عن مزايا التقدم ومباهج العصر وأضواء المستقبل، خصوصاً أن هناك ومضات ضوء في حاضرنا توحي بأننا نقف في بداية الطريق الصحيح نحو مجتمع الأمل الذي ننشده، والذي يتمتع فيه البحث العلمي بأولوية متميزة، ويظل الدين فيه حارساً للقيم، ولكن يبقى العقل قائد المسيرة، وهو الذي يمسك بزمام الأمور، حيث لا مكان هنا للخرافة أو تزييف الوعي أو العبث بالعقول. مرحباً بالديمقراطية العصرية والدولة الحديثة دون العدوان على التقاليد السليمة والقيم الرشيدة والثوابت المرنة التي تستجيب لمتغيرات الزمان وقوانين الحياة، ولنتذكر دائماً أن أدق مفهوم وأحدث تعريف للدولة الديمقراطية، هو أنها دولة سيادة القانون الذي يجب أن نحتكم إليه ونخضع لسلطانه ونؤمن بسيادته دوماً في مساواة كاملة وعدالة ناصعة دون تفرقة أو تمييز أو تهميش، فالكل سواء أمام العدالة العمياء.
مصطفى الفقي
اندبندت عربي