هذا السؤال، الذي يحمل كما كبيرا من الافتراضات، ساعد في إطلاقه في أذهان البعض الحالة الضبابية (الدبلوماسية والإعلامية) السائدة في منطقتنا العربية، بجانب الحروب الأهلية المستفحلة، التي تسبب اضطرابا غير مسبوق في علاقات الجوار، كما تشهد حروبا ضد الإرهاب، معلنة وخفية، تكاد تشعل المنطقة برمتها.
وفي هذا الفضاء الضبابي الصراعي المتوتر، تختلط الحقيقة بالإشاعة اختلاط الملح بالماء، مما يساعد علي سرعة جريان الافتراض والإشاعات الحالة التي نجد أنفسنا فيها، بسبب وجود وسائل الاتصال الاجتماعي التي تفوقت علي أي نوع من أنواع الاتصال المعروفة، والتي أصبحت بحرا تسبح فيه بسهولة قوي ما يسمي بـ (الإعلام المضاد)، أو (الإعلام الخبيث أو الأعمى أو الموجه)، إي إصدار أخبار أو تلميحات مجهلة من جانب مجهولين، أو مبنية علي إشارات من الحقائق الضعيفة والقليلة، ومن ثم تضخيم التفسيرات لتلك الإشارات لتبقي في عقل المتلقي غير المحصن وكأنها وقائع غير قابلة للنقض.
من يعرف حقائق السياسة السعودية يستطيع أن يقول، وبثقة كبيرة، إن التطبيع (السعودي – الإسرائيلي) لا يمكن أن يتم، مهما تكن الأجواء المحيطة، والتغيرات الحادثة، والدوافع المؤدية. فالسياسة السعودية تفرق بوضوح بين ملف (الخلاف مع إيران الجذري والمهم)، و(العداء مع إسرائيل المرتبط بالوجود). أما من يريد أن يطلق الخبائث، فذلك ممكن كما قلت، لأن هناك (الجيوش الإلكترونية) التابعة لقوي متعددة، وربما أجهزة للدول، علي استعداد لأن تطلق تلك الخبائث ليلتقطها العامة ومن في نفسه مرض للتشويش والتوظيف السلبي علي المملكة العربية السعودية التي تتعرض لهجمات إعلامية غير مسبوقة في شراستها وعنفها.
العلاقة مع إيران:
ومن المعلوم أن العلاقة الخليجية والسعودية مع إيران يشوبها التوتر بسبب التدخل الإيراني في الشئون العربية، وفي وضح النهار، فهي تتدخل في سوريا العربية بالمال، والسلاح، والتدريب، وليس هذا سرا، حيث قال الرئيس الأسد -في خطاب متلفز في آخر يوليو 2015- إن إيران تساعد الدولة السورية، وقدم الشكر لها ولحزب الله اللبناني المؤتمر بأوامر طهران. وما نعرفه أن في سوريا حرب إبادة تقريبا لشعب سوري عربي يطالب بحقوقه المشروعة. كما تتدخل إيران في لبنان تحت مسمي (المقاومة)، وقد خُلقت تلك المقاومة من محازبين لها، وشكلت لهم ميليشيا مسلحة قهرت الشعب اللبناني، وعطلت الدولة اللبنانية، واستخدمت في حرب شعب عربي آخر، هو الشعب السوري، بل وصلت طلائعها إلي العراق. كما أصبحت معسكرات حزب الله في غياب الدولة اللبنانية مرتعا للتدريب والتجنيد لكل من القوي المضادة لإيران، مثل البحرين التي تربطها بدول الخليج روابط كبري من التاريخ والتداخل الاجتماعي.
وتقوم إيران أيضا بدعم ميليشيات فئوية في العراق تأتمر بأمرها من أجل تأجيج الصراع الطائفي هناك. كما يتجول قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، في المدن العراقية والسورية جهرا. كما تتدخل إيران في دعم مجموعات خارجة عن السلطة في البحرين كما ثبت أخيرا في تمويل وتهريب أسلحة ومعدات تفجير تخل بالسلم الاجتماعي. وأخيرا ما قدمته إيران للجماعة الحوثية في اليمن من تمويل وتدريب من أجل شق الصف اليمني، حيث قام مجلس الأمن بإصدار بيانه رقم 2216 في 14 أبريل 2015 المتضمن إدانة واضحة للحوثي الخارج عن الشرعية. إذن الملف الإيراني الخليجي متخم بالعديد من المشكلات التي لا ترغب إيران في حلها بصراحة.
وقد نشر أخيرا السيد محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، رسالة مفتوحة في الصحف العربية في الثالث من أغسطس 2015 (الجار ثم الدار)، قدم فيها بعض المقترحات لحلول للمشكلات العالقة، ولكنه تجاهل في دبلوماسيته الشعبية (المقال) الحلول الدولية لتلك المشكلات، مما يؤذن بأن هذا الملف سوف يطول البقاء فيه. كل ذلك (الشأن الإيراني) لا يدفع المملكة العربية السعودية إلي التوجه لفتح اتصال مع إسرائيل. علي العكس، من المتوقع أن يحدث تقارب إيراني – إسرائيلي بعد الوفاق الدولي بين إيران والقوى الكبرى على ملفها النووي.
حقيقة العلاقات مع إسرائيل:
في الفترة الأخيرة، بدأت بعض الأخبار تلمح بعلاقة ما بين السعودية وإسرائيل، وهي -في نظري- محاولة للاصطياد في الماء العكر، كما يقال. وقد بنيت تلك الأخبار والتكهنات علي مقابلة لشخص واحد، سعودي (ليس ذا صفة رسمية) مع مسئول إسرائيلي في إطار حضور ندوة علمية، فسرها البعض بأكثر مما تستحق، أنها بداية علاقات وطيدة بين دولة ذلك الشخص (المملكة العربية السعودية) وإسرائيل، كما ظهرت صورة في آخر أسبوع من يوليو 2015 لسيارة عليها أرقام سعودية في حيفا، استبشرت بها بعض وسائل الإعلام الإسرائيلي، ووظفتها الجيوش الإلكترونية المعادية علي أنها أول (غيث التطبيع) بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. وسرعان ما عرف علي نطاق واسع أن تلك السيارة مملوكة لمهندس بريطاني يعمل في السعودية، ذهب بها إلي هناك في طريقه إلي بلده. فإن كان الافتراض أن هناك “علاقة ما يمكن أن تقوم بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل”، فإن الإجابة العقلانية: هذا لا يمكن أن يحدث لأسباب موضوعية، منها أن الموقف ثابت للملكة تجاه إسرائيل، كونها دولة محتلة للأراضي العربية. أما إذا كان السؤال: هل هناك (علاقة ما بين بعض دول الخليج وإسرائيل)، فإن الإجابة نعم، ولكنها نعم بحروف صغيرة. فقد تمت دعوة بعض الرسميين الإسرائيليين في أوقات سابقة إلي الدوحة، العاصمة القطرية، وفي وقت ما في إطار حضور ندوات عالمية عقدت هناك، ذلك ليس سرا، بل مذاع ومعلن، وفي الوقت نفسه لا يعني علاقات دائمة، ومنظمة، ورسمية. فقط علينا أن نذكر أن الدوحة هي الملاذ الآن لبعض كبار القادة الفلسطينيين المناوئين لإسرائيل، وهذا دليل علي موقف الدوحة الثابت من القضية. كما أن هناك علاقات بين بعض دول الخليج، إما سافرة أو تحت السطح، جرت وتجري لأسباب طارئة ومؤقتة في بعض اللقاءات الدولية.
إلا أن المهم في هذا الموضوع أن إقامة علاقة ما لا تعني أولا التطبيع (هناك دول عربية لها سفارات في تل أبيب)، ومع ذلك لا يجري التطبيع الكامل بينها وبين تل أبيب، حيث إن شعور الجمهور العربي غير قابل لذلك التطبيع، بسبب ما ترتكبه إسرائيل من موبقات تجاه الشعب الفلسطيني، آخرها في بداية شهر أغسطس 2015، حيث أدي العدوان الإسرائيلي إلي حرق طفل وهو نائم، وتعريض أسرته للخطر، مما عُدَّ بمنزلة دليل آخر علي صلف إسرائيل الذي معه لا يمكن أن تكون هناك طريقة ما للتعامل معها.
في إشاعة جو من احتمال (العلاقة الإسرائيلية – السعودية)، يجري الحديث عن أن هناك (عدوا مشتركا) هو الدولة والسياسة الإيرانية التوسعية، ولكن ذلك ليس له مكان من التصور العقلي من جانب السياسة السعودية ذات الثوابت. فإسرائيل لها موقف من إيران من زاوية محددة، والسعودية ودول الخليج لهما موقف من إيران من مواقف مختلفة تماما، فليس بينهما أرض مشتركة، وليس بينهما إمكانية تعاون في هذا الملف. نحن نعرف أن هناك قاعدة عربية عامة للتعامل مع إسرائيل، وكانت بمبادرة من المملكة العربية السعودية في اجتماع القمة العربية في بيروت عام 2001، تقوم علي سلام دائم مقابل الأرض العربية كاملة التي احتلت في حرب عام 1967، وإشهار دولة فلسطينية عاصمتها القدس، والتي سميت بـ “المبادرة العربية”، بعد تبنيها من القمة تلك، ولكنها لم تتحرك إلي الأمام بسبب موقف إسرائيل الرافض من مبادرة السلام تلك، وتلكؤ تل أبيب في فتح أي حوار جدي مع السلطة الفلسطينية الشرعية. بجانب أن أي علاقة مع إسرائيل، علي أي وجه، بالنسبة لدول الخليج، خاصة المملكة العربية السعودية (لها نتائج عكسية ضارة). فالجميع يعرف أن إيران تتغذي في دعايتها في العالم العربي، وتحشد مؤيدين لها علي أنها (معادية لإسرائيل) كما الرأي العام العربي. وبسبب أن الموقف الخليجي الشعبي من فلسطين يحمل حساسية عالية ضد أي علاقة بالدولة المحتلة، فكيف يمكن إعطاء إيران الكثير من الوقود، في حال التفكير في تعاون خليجي – إسرائيلي.
المملكة العربية السعودية، من جهة أخري، ودول الخليج لهما موقف معلن ضد النظام القائم في سوريا، وهو نظام -في رأيها ورأي شعوبها- يقوم بقتل المواطنين السوريين وتشريدهم، ويوفر مقرا للنفوذ الإيراني، وهو -أي ذلك النظام- محافظ عليه من قِبل إسرائيل. فهناك العديد من التصريحات والأعمال الإسرائيلية التي تري أن وجود النظام الحالي في سوريا هو خير ضمانة للأمن الإسرائيلي، وهو نظام تتشارك كل من إيران وإسرائيل في الحفاظ عليه، والدفاع عنه. وهذا ملف يضع دول الخليج وإسرائيل في موقف المتعارض تماما.
أما القضية الأهم والأكبر، فهي القضية الفلسطينية التي تري دول الخليج قاطبة، والمملكة العربية السعودية، كدولة قائدة وكبري في المنظومة الخليجية، أن قضية فلسطين قضية لا يمكن التنازل عنها، ولابد من نصرتها. وقد جرت محاولات عديدة من جانب الإدارة السعودية للم شمل الفلسطينيين (حماس والسلطة)، لكنها مع الأسف باءت بالفشل بسبب الصراع الفلسطيني – الفلسطيني الداخلي. إلا أن القضية نفسها لا يمكن التفريط فيها. كما أن المملكة تحتضن المدينتين المقدستين (مكة والمدينة)، وهي قبلة المسلمين جميعا، والقبلة الأخرى هي المسجد الأقصى الذي تضع إسرائيل يدها الثقيلة عليه.
وبالتالي، فإن أي (علاقة) مع إسرائيل غير متخيلة من جانب القيادات الخليجية مجتمعة، وعلي وجه الخصوص القيادة السعودية. البعض يفترض أن هناك (مصالح مشتركة) إسرائيلية – خليجية، وهي في الحقيقة متخيلة، وليست واقعية، فليس هناك ما تحتاج إليه دول الخليج من إسرائيل، وغير متوافر في مكان آخر من العالم. كما أن أي خلل في جبهة الموقف الممانع لإسرائيل وسياساتها ضد الفلسطينيين يدخل شرورا كثيرة أعظم بكثير من أية فوائد مرتجاة، إن وجدت.
وتضخم إسرائيل من جانبها أي ثغرة، ولو صغيرة، من الإشارات التي تترجمها علي أنها (فاتحة الطريق) لعلاقات، ولو مستترة، فنجد أن عددا من سياسييها ومسئوليها يرغبون في إحراج مشاركين سعوديين في ندوات عالمية، إما بالمصافحة، أو بالحديث المباشر. ولكن حتى لو تم ذلك، فهو لا يتعدي إشارات علي المستوي الشخصي البحت ليس لها ما بعدها. وأيضا، تحتفل الصحافة الإسرائيلية عن طريق تضخيم أحداث أو وقائع تشهرها علي أنها وقائع بشري تطبيع، كما حدث قبل أشهر عندما حطت طائرة مستأجرة في مطار تل أبيب، أشيع أنها سعودية، وتبين لاحقا العكس. فلو كانت هناك أية إشارات من هذا القبيل، لبادر الإعلام الإسرائيلي بنشرها تفاخرا. كما أن الملاحظ أن (الإعلام المضاد) يضخم من تلكم الأحداث المفرقة والصدفية، ليضفي للمتلقي أن (فلانا) يشغل وظيفة (مستشار) كبير المقام في هذه الإدارة الخليجية أو تلك، أو هذا (مقرب) من متخذي القرار، وذلك محض تضخيم ليست له علاقة بالواقع، وسرعان ما تنفجر تلك الفقاعات الإعلامية، وتتلاشي في وجه مطلقيها.
من جانب إسرائيل، فإنها بالطبع تسعي لخلخلة هذا الجدار الصلد، خاصة الدبلوماسية السعودية، بأشكال مختلفة، وتضخيم أحداث منفصلة، أولا بسبب ثقل المملكة العربي علي الأصعدة العربية والإقليمية والدولية، وثانيا من أجل (عمل فتنة)، وتشتيت في الرأي العام العربي، الذي هو غير محصن في كثير منه لقياس الفروق العقلانية بين الإشاعة والحقيقة، وبين الفقاعة والواقع.
وإذا ما وضعنا إيران في الميزان الذي نتحدث عنه، فإن هناك قلقا عالي المستوي من التدخلات الإيرانية في المنطقة العربية بعامة، وفي الخليج خاصة، كما أسلفنا، تحدث عنه وزير خارجية المملكة العربية السعودية عادل الجبير، من أن بلاده تتصدي (للشغب) الإيراني في المنطقة. والحقيقة الواضحة أن إسرائيل في الموضوع الإيراني ليست مهتمة، إلا بتطورات (السلاح النووي الإيراني) وأيضا ما يصاحبه من (ابتزاز للولايات المتحدة) للحصول علي أسلحة حديثة، ومعونات اقتصادية، ولكن يوجد بينها وبين إيران تعاون اقتصادي ملحوظ. كما أن الموقف ضد (النووي) من الجانب الإسرائيلي هو موقف لتعظيم الفوائد التي تجنيها من الولايات المتحدة. فالأمر في النهاية لا يمكن أن يوضع علي قاعدة (عداء مستحكم)، وهو حتى الآن صداقة خفية، مظهرها التوافق علي بقاء النظام السوري، وتمدد اقتصادي إسرائيلي في شمال العراق، وصمت مطبق عن الحدود اللبنانية – الإسرائيلية التي تقوم إيران (بلجم تابعها) حزب الله من أية مشاغبات علي طول تلك الحدود الصامتة، منذ نحو أربع سنوات حتى الآن، ومرشحة للصمت المطبق. فحتى (جمعة القدس) التي يحرص النظام الإيراني وتابعوه علي إحيائها بضجيج كبير من أجل التذكير باهتمامهم بالقضية الفلسطينية، أصبحت ظاهرة صوتية تستخدم لحشد العامة في آخر أسبوع من كل شهر رمضان كجزء من سرقة الشعار لا أكثر، مرت هذا العام بسلام. كما أن الانفتاح الاقتصادي الإيراني، بعد التوقيع في 14 يوليو 2015 علي الاتفاق النووي، سوف يفتح بابا للشركات الإسرائيلية للعمل في إطار الاقتصاد الإيراني العطش إلي كل إشكال الدعم التقني والفني. بل إن إسرائيل الرسمية، بعد التوقيع، بدأت تتحدث عن مقاربة استراتيجية لإيران مختلفة عن السابق.
مؤشرات الخطورة علي الأمن الخليجي لا تزال كما هي قادمة من مكانين لا يختلفان في الأهداف. فإسرائيل تشكل أحد المؤشرات الأساسية لتهديد الأمن القومي العربي عموما، كما تشكل إيران مؤشرا آخر. كما أن العداء الإيراني – الإسرائيلي هو عداء تكتيكي، تستفيد كلتا الدولتين من ضعف الصف العربي، أو حتى العمل علي إضعافه. وليس هناك ما يرجي عمليا من أية علاقة بإسرائيل أو حتى تقاطع المصالح معها.
الافتراض الآخر أن يكون هناك جدار عربي يحرس الدولة والمجتمع في الخليج، كما في مصر، من تلك التدخلات السلبية، وإعادة بناء مشروع استنهاضي عربي، تكون أساسه دولا مثل مصر والمملكة العربية السعودية، إلي جانب دول الخليج. يبدو أن تحالف “عاصفة الحزم” منذ أشهر، وهو تحالف عربي واسع، قد يكون الضمانة الأساسية لدرء الأخطار الضخمة المرتقبة علي المنطقة العربية ككل.
د. محمد الرميحي
مجلة السياسة الدولية