خسائر متبادلة: حدود التصعيد الصيني – الأمريكي حول تايوان

خسائر متبادلة: حدود التصعيد الصيني – الأمريكي حول تايوان

أكّد الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 22 أكتوبر الجاري، أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ستدافع عسكرياً عن تايوان، إذا ما شنّت الصين هجوماً على هذه الجزيرة التي تعتبرها جزءاً لا يتجزأ من أراضيها. وأثارت تعليقات بايدن إدانة سريعة من قبل بكين، والتي أعلنت أنه لا يوجد مجال للصين لتقديم تنازلات بشأن قضية تايوان. وعلى الرغم من محاولة مسؤولي البيت الأبيض التراجع عن تصريحات الرئيس في الأيام التالية، موضحين أن بايدن لم يعلن عن أي تغييرات في سياسة واشنطن الراسخة بشأن تايوان، والتي تتضمن في طياتها الاعتراف بمبدأ الصين الواحدة.

وتتنامي مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية تجاه مستقبل تايوان في ظل التوتر العسكري مع الصين، والذي بلغ أسوأ مستوياته منذ أكثر من 40 عاماً، وفقاً لتصريحات وزير دفاع تايوان بعد أيام من تحليق أعداد قياسية من الطائرات الصينية في منطقة الدفاع الجوي للجزيرة مطلع أكتوبر 2021. وما يزيد من المخاوف وجود تقديرات بأن الجيش التايواني لا يستطيع بمفرده الصمود أمام هجوم صيني بمفرده.

ملفات خلافية متصاعدة:

تعكس الأزمة الأخيرة بين الولايات المتحدة والصين تصاعداً للتوتر بين الجانبين، والتي لا تقتصر على جزيرة تايوان وحدها، ولكنها تمتد إلى محاولة واشنطن بناء تحالفات عسكرية لتطويق الصين، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

1- نكوص واشنطن عن “الصين الواحدة”: مثّل تبني واشنطن سياسة “الصين الواحدة” (One-China policy) أحد الاتفاقات الرئيسية في الاجتماع السري الذي جمع وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، هنري كيسنجر، مع رئيس الوزراء الصيني حينها، شو أونالاي، في يوليو 1971، وهو الاجتماع الذي مهد لإقامة تبادل دبلوماسي بين البلدين، وقلّص من الوجود العسكري الأمريكي في تايوان، وسمح بأن تحل الصين محل الأخيرة في مجلس الأمن والأمم المتحدة.

وظلت السياسة الرسمية للولايات المتحدة تؤكد أنها لا تدعم استقلال تايوان، حتى لا تثير أزمة دبلوماسية مع بكين. أما سياستها الفعلية، على مدار العقود الأربعة الماضية، فكانت تقوم على الحفاظ على الوضع الحالي لتايوان المنفصلة عن الصين، والدفاع عنها وتزويدها بالأسلحة اللازمة للدفاع عن نفسها، وتقديم وعود بالتدخل عسكرياً في حال سعت الصين إلى تغيير الوضع القائم بطرق غير سلمية.

ويتنامى الاعتقاد لدى المسؤولين الأمريكيين من أن تصعيد الجيش الصيني من وتيرة وكثافة مناوراته العسكرية بالقرب من حدود تايوان ما هو إلا بداية الغزو المباشر لتايوان انطلاقاً من نية الصين الوحدوية. ولذا منح الكونجرس الرئيس سلطة مشروطة لاستخدام القوة العسكرية رداً على العدوان الصيني على تايوان.

2- بناء واشنطن أحلاف عسكرية: تصاعدت خلال السنوات الأخيرة الخلاف بين واشنطن وبكين بسبب عسكرة الصين لبحر الصين الجنوبي، وممارساتها التجارية غير العادلة، وغيرها من القضايا. كما بدأت واشنطن تبدي قلقاً من تنامي النفوذ الصيني في منطقة “المحيط الهندي – الهادئ”، وتسعى لتحجيمه.

ولذلك شرعت واشنطن في تبني سياسات عسكرية ودفاعية أكثر حزماً عبر تعزيز قدراتها العسكرية في جنوب شرق آسيا، وتأسيس تحالفات دفاعية مع دول المحيطين الهندي والهادئ، والتي كان آخرها تشكيل تحالف أوكوس (AUKUS) مع كانبيرا ولندن، وكذلك إحياء الحوار الأمني الرباعي “الكواد” مع اليابان والهند وأستراليا.

أهمية تايوان للصين

تتمتع تايوان بأهمية بالغة بالنسبة للصين من المنظور الجيوسياسي، فعلى مر التاريخ، كان يتم اتخاذ الجزيرة كقاعدة عسكرية لمهاجمة الصين، بدءاً من الأسر الصينية القديمة المتصارعة، وصولاً إلى الهجوم الياباني خلال الحرب العالمية الثانية. ومن هذا المنطلق، تتمثل دوافع الصين من تأكيد أحقيتها في ضم الجزيرة في التالي:

1- تعزيز شعبية الحكومة الصينية: يُعد ضم تايوان للصين قضية قومية من الدرجة الأولى في البلاد، إذ يستخدمها قادة الحزب الشيوعي الصيني لإذكاء المشاعر الوطنية بهدف تعزيز شعبيتهم، وخاصة أن الصين تواجه بعض المشكلات المحلية المتصاعدة، بما في ذلك نقص الكهرباء، وموجات جديدة ومتقطعة من الإصابات بفيروس كوفيد-19، فضلاً عن مخاوف الانكماش الاقتصادي طويل الأجل. وفي هذا السياق، يمكن القول إن الرئيس الصيني “شي جين بينج” (Xi Jinping) قد يفكر في استخدام القوة للسيطرة على تايوان لبناء إرثه السياسي.

2- تحقيق الهيمنة الإقليمية: تُعد تايوان جزءاً من سلسلة الجزر الأولى التي تمتد من اليابان إلى الفلبين. ويلاحظ أن هذا المفهوم هو مفهوم أمريكي يشير إلى أن الولايات المتحدة تطوق الصين من خلال التواجد العسكري في هذه الجزر، والتي يأتي من ضمنها تايوان. ولذلك، فإنه في حالة نجاح الصين في استعادة الجزيرة، فإن بكين سوف تتمكن من كسر محاولات واشنطن لتطويقها، ومن ثم تعزيز قدرتها على تحقيق الهيمنة الإقليمية.

3- إضعاف المصداقية الأمريكية: ستقوض خسارة تايوان مصداقية الولايات المتحدة؛ حيث إن التحالفات الأمريكية في المحيط الهادئ تقوم على الاعتقاد بأن واشنطن قادرة وراغبة في حماية حلفائها من الهيمنة الصينية. وفي حالة إخفاق واشنطن، أو تقاعسها في الدفاع عن تايوان، فسيكون من الطبيعي أن تخسر مصداقيتها أمام حلفائها في جنوب شرق آسيا، وخاصة اليابان والفلبين وكوريا الجنوبية، وهو ما سيصب في صالح تأكيد هيمنة الصين الإقليمية، بل وتأكيد صعودها كقوى عظمى في النظام الدولي. كما أن خسارة جزيرة تايوان لصالح الصين سوف تكون مؤشراً لانهيار الإمبراطورية الأمريكية، وتراجعاً للهيمنة الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

4- تعزيز قوة بكين الاقتصادية: تمثل السيطرة على تايوان تأكيداً لقوة الصين الاقتصادية، خاصة أن تايوان تسيطر على صناعة أشباه الموصلات الحيوية في العالم. ومع فرض إدارة الرئيس ترامب عقوبات على الصين تتعلق بحرمان الشركات الصينية الكبرى من الحصول على أشباه الموصلات المنتجة في الولايات المتحدة أو المنتجة في أماكن أخرى من العالم، استناداً إلى التكنولوجيا الأمريكية، فإن هذه العقوبات لم تضر فقط بالشركات الصينية، ولكنه أوضح كذلك وجود انكشاف صيني في هذا المجال.

تحاشي المواجهة العسكرية:

يمكن القول إن الحفاظ على الوضع الراهن كما هو عليه، هو الحل الأمثل، بالنسبة لكل من الولايات المتحدة والصين، وهو ما يمكن توضيحه في التالي:

1- استبعاد بكين المواجهة العسكرية: لا يوجد أي دليل قاطع على نية الصين الوشيكة لمهاجمة تايوان. فمن الواضح أن بكين تكتفي فقط بالتعبئة العسكرية والتصريحات العدائية، وذلك بهدف تغيير المواقف الدبلوماسية لواشنطن وتايبيه للعودة إلى التفاهم المتبادل بشأن “مبدأ الصين الواحدة”، والذي يفضي في النهاية إلى إعادة التوحيد السلمي للصين مع تايوان، فضلاً عن الضغط على واشنطن لعدم تسليح تايوان بأسلحة نوعية تراها تهديداً لها.

ونظراً لأن محاولة تغيير الوضع الراهن حالياً قد يكون مكلفاً اقتصادياً وعسكرياً، فإن بكين تفضل الحفاظ عليه، ولكن إذا أعلنت تايوان استقلالها، أو اعترفت الولايات المتحدة بتايوان كدولة ذات سيادة، فإن الكثيرين في البر الرئيسي سينظرون إلى غزو الجزيرة باعتباره حرباً ضرورية.

2- التكلفة العسكرية المرتفعة لواشنطن: تشير بعض التقديرات العسكرية إلى إمكانية هزيمة واشنطن في حربها ضد الصين حول تايوان، خاصة إذا هاجمت الصين حاملات الطائرات الأمريكية في البحر، والقواعد الجوية الأمريكية المنتشرة في جنوب شرق آسيا.

وحتى في حالة نجاح الولايات المتحدة في صد هجوم الصين على تايوان، فإن مثل هذا الانتصار سيكون باهظ التكلفة، سواء بالنسبة للخسائر في الأرواح، أو المعدات العسكرية، أو إعادة تجديد قواعدها العسكرية، وبالتالي، سيتعين على أمريكا أن تنفق مئات المليارات من الدولارات للحفاظ على منظوماتها الدفاعية في جنوب شرق آسيا.

وعلى هذا النحو، يمكن القول إن الولايات المتحدة الامريكية تواجه معضلة، وهي أن خسارة تايوان لصالح الصين سوف يكون مؤشراً على الانحسار الفعلي للأحادية القطبية الأمريكية، أما الانتصار، فسوف تكون تكلفته مرتفعة على نحو يخصم من فوائد أي انتصار قد تحققه واشنطن ضد الصين.

وفي الختام، يمكن القول إن الحفاظ على الوضع القائم سوف يمثل مصلحة مشتركة لكل من الصين والولايات المتحدة، وهو ما يستلزم من واشنطن عدم توظيف تايوان كأحد أرواق للضغط ضد الصين، عبر تعزيز القدرات العسكرية لتايوان بصورة تستفز بكين، وعليه، فإن محاولة التوصل لحل وسط بين واشنطن وبكين في بعض الملفات الخلافية الأخرى قد يساهم في تقليل حدة التوتر بين الجانبين.

المستقبل للدراسات