لا يحتاج الأمر انتظار نتائج لجنة التحقيق لتخمين الجهات التي تقف وراء محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، فجر يوم الأحد الماضي، فمليشيات تحالف الفتح الولائية القريبة من إيران، وفي مقدمتها عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، تعدّ الكاظمي خصمها الرئيس على الساحة العراقية، وقد هددت باستهدافه أكثر من مرّة، ولم تخفِ، حتى وهي تحاول نفي تهمة تدبير محاولة قتله، أنها تريد التخلص منه. فالكاظمي، على الرغم من استناده إلى توافقات سياسية هشّة، وافتقاره إلى قاعدة دعم برلمانية خاصة به، يظل يمثل خطراً على مشروع فصائل “الحشد الشعبي” الهادف إلى إنشاء دولة تتمثل إيران في نظام حكمها، وتنشد إلحاق العراق بها، وبولاية الفقيه الذي يديرها. وقد أعطت نتائج الانتخابات البرلمانية المبكّرة التي أشرفت على إجرائها حكومة الكاظمي مزيداً من الأسباب للتخلص من الرجل، سواء عبر منعه من العودة إلى رئاسة الحكومة، أو حتى تصفيته جسدياً. وعلى الرغم من كل الضغوط التي مارستها، بما فيها استخدام الشارع، لم تفلح ضغوط حلفاء إيران في ترهيب مفوضية الانتخابات ودفعها إلى تغيير النتائج، بعد إعادة الفرز في آلاف الصناديق الانتخابية. المحاولة الأخيرة في هذا السياق جاءت يوم الجمعة الماضي عندما بدا أنّ هناك مسعىً لجرّ الحكومة إلى مواجهة في الشارع تعيد خلط الأوراق سياسياً، وتعطي مبرراً للفصائل لاستخدام القوة في وجه الدولة.
لا يمكن النظر إلى التجاوزات التي تقوم بها المليشيات، كما فعلت أخيراً في قرية نهر الإمام، حيث نفّذت مجزرة بأهلها، رداً على مجزرة نفذها تنظيم داعش في أهالي قرية الرشاد المجاورة، أو استهدافها الناشطين الرافضين للتدخلات الإيرانية في أثناء احتجاجات مدن الوسط والجنوب، أو منع الأجهزة الأمنية من الاضطلاع بمهامها في فرض النظام، لا يمكن النظر إليها إلا من زاوية الاستهداف الممنهج والمقصود للدولة العراقية، والعمل بموجب أجندةٍ أجنبيةٍ غرضها الرئيس إبقاء العراق ضعيفاً، ممزّقاً، تديره حكومة صورية، مهمتها توفير غطاء لمليشياتٍ تمتلك السلطة الفعلية على الأرض، وتأخذ أوامرها من وراء الحدود.
يتحمّل الكاظمي جزءاً كبيراً من المسؤولية عمّا جرى هذا الأسبوع، وعمّا آل إليه الوضع الأمني عموماً في أنحاء البلاد، فالضعف والتردّد الذي أبداه خلال الأشهر الثمانية عشر من توليه السلطة في مواجهة المليشيات زاد من جرأتها على الدولة، وتماديها في استهدافها، وصولاً إلى استهدافه هو شخصياً، باعتباره المسؤول الأول فيها. تعاطي الكاظمي مع محاولة اغتياله، حتى اللحظة، يفيد بأنه ما زال متردّداً في اتخاذ خطوات حاسمة لاستعادة هيبة الدولة وسلطتها، ووقف كل التجاوزات ضدها. موافقته على وساطة أجنبية تمثلت باستقباله قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، يعني أن الكاظمي وافق على اعتبار المليشيات نداً للدولة، بدل التعامل معها كتنظيماتٍ خارجة عن القانون، لا وساطة (خصوصاً أجنبية) معها، في حين أن هناك فرصة حقيقية في ظل الدعم الدولي الكبير الذي تلقاه بعد محاولة اغتياله، بما في ذلك من مجلس الأمن، وفي ضوء حالة التذمر الشعبي من تجاوزات المليشيات، وأكّدتها نتائج الانتخابات التي ألحقت بالمليشيات هزيمة نكراء، لإنهاء فوضى السلاح واستعادة سلطة الدولة.
إذا حزم الكاظمي أمره، وتحرّك بهذا الاتجاه، فهناك إمكانية لأن يتحوّل إلى قائد وطني عراقي، وأن يدخل التاريخ باعتباره السياسي الذي استعاد سيادة العراق واستقلاله، وقضى على فوضى المليشيات وفسادها، وأنهى التدخلات الأجنبية في شؤونه. حتى يحصل ذلك، ينبغي أن يتوقف الكاظمي عن المماطلة في إعلان نتائج الانتخابات، ما يعني انتهاء ولاية البرلمان الحالي، والتحرّك من ثم باتجاه حل هيئة الحشد الشعبي، ودعوة من يرغب من عناصر المليشيات، باستثناء قياداتها، إلى الانتساب، بصفتهم أفراداً، إلى أجهزة الأمن والجيش. أما قياداتها، فيمكن أن يخيّروا بين أن يعودوا من حيث أتوا، وإلى حيث ينتمون (إيران)، أو البقاء والمحاسبة على الجرائم وسوءات الفساد التي ارتكبوها خلال العقدين الماضيين بحق العراق وأهله. وبهذا تُحصَر كل أنواع السلاح، بما في ذلك الخفيف، بيد الدولة. هذا يعني برلماناً جديداً، حكومة جديدة، دولة جديدة، عراقاً جديداً. فهل يفعلها الكاظمي، أم يبقى أسير تردّده، ويضيع الفرصة على نفسه وعلى بلاده؟
العربي الجديد