الدول الكبرى منشغلة بنفسها ولا مجال لحلّ جماعي لأزمة التضخم

الدول الكبرى منشغلة بنفسها ولا مجال لحلّ جماعي لأزمة التضخم

واشنطن – أدت جائحة فايروس كورونا وما أحدثته من صدمة في سلاسل الإمداد واضطرابات في سوق العمل، إلى نقص في البضائع وارتفاع معدلات التضخم في أغلب دول العالم، في وقت تبدو فيه الدول الكبرى منشغلة بحلّ مشكلاتها الاقتصادية الداخلية ولا تلتفت إلى غاية الآن نحو بقية العالم أين ترتفع الأصوات محذرة من ارتفاع سريع وغير مسبوق في الأسعار سيضاعف من حدة الأزمات الاقتصادية.

ويرى محللون أنه من الواضح أنه لن يكون هناك حل جماعي لأزمة التضخم العالمية، حيث ستحاول كل دولة إيجاد مخرج لها منها بعيدا عن حسابات واحتياجات الدول الأخرى.

ويقول المحلل الاقتصادي الأميركي دانيال موس في تقرير نشرته وكالة بلومبرغ للأنباء إنه عندما يتعلق الأمر بالارتفاع السريع لمعدلات التضخم في العالم حاليا، لا يمكن الاعتماد على تحرك حاسم من جانب أهم اقتصادين في العالم وهما الولايات المتحدة والصين. فكل دولة من الدولتين تجد نفسها أسيرة في فخ خيارات سياساتها وأولوياتها المحلية الخاصة. كما أن أيّا من الدولتين لا تبدو مستعدة للتحرك بقوة لوقف زيادة الأسعار.

وبالنسبة إلى هؤلاء الذين ما زالوا متمسكين بفكرة أن موجة التضخم الحالية مؤقتة وأنها بمثابة فترة راحة مقبولة بعد سنوات من التضخم المنخفض، تقول الأرقام والبيانات الاقتصادية الأخيرة عكس ذلك. فأسعار الجملة في الصين سجلت خلال الشهر الماضي أكبر ارتفاع لها منذ 26 عاما، كما ارتفعت أسعار المستهلك. في الوقت نفسه أعلنت وزارة العمل الأميركية عن ارتفاع أسعار المستهلك بأسرع وتيرة لها منذ 1990، وبما يتجاوز توقعات خبراء الاقتصاد.

دانيال موس: واشنطن وبكين غير مستعدتين للتحرك لوقف زيادة الأسعار

وشهدت بعض الدول دعوات وتحركات لمطالبة الحكومات باستراتيجيات واضحة لمواجهة التضخم، حيث طالب المجلس الاستشاري الاقتصادي للحكومة الألمانية البنك المركزي الأوروبي بتوضيح كيف سيكبح جماح سياسته النقدية فائقة المرونة في ظل ارتفاع معدلات التضخم. ومن المتوقع ارتفاع معدل التضخم في ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا عن المستوى الذي يستهدفه البنك المركزي الأوروبي خلال العام المقبل.

ويقول دوس إن المشكلة هي أن الحل الذي تعرفه أغلب البنوك المركزية لمشكلة التضخم المرتفع وهو زيادة أسعار الفائدة، لا يبدو هذه المرة حلا مناسبا في ظل التداعيات الاقتصادية لجائحة فايروس كورونا المستجد. فحتى أشد المنتقدين للسياسات النقدية المرنة الممتدة يقولون إن المسؤولين عن السياسة النقدية لديهم وصفة مجربة وحقيقية.

ولا تستطيع البنوك المركزية، على الأقل في الولايات المتحدة وأوروبا، المغامرة بقبول مستويات التضخم الجامحة ومخاطر العودة إلى أيام السبعينات السيئة، عندما دفعت أسعار النفط العالية أسعار المستهلك في تلك الدول إلى مستويات قياسية، وما كان لذلك من تداعيات اقتصادية. أما في الحالة الصينية، فإن معدلات التضخم المرتفعة تهدد بإهدار جزء كبير من الازدهار والاستقرار الاقتصادي الذي حققه الانفتاح الاقتصادي الذي قاده الرئيس الصيني الأسبق دينج سياو بينغ في ثمانينات القرن العشرين.

وبحسب ورقة بحثية نشرها بنك الاحتياط (المركزي) الأسترالي، فإنه رغم كل ما يقال عن الحرب الباردة بين بكين وواشنطن، تمضي تجربة التضخم في الصين على خطى النموذج الغربي.

وتخشى الصين على النمو الاقتصادي الذي تراجع بالفعل مقارنة بمستواه في الربع الأخير من 2019 قبل تفشي جائحة كورونا في العالم. وما بدأ في الصين باعتباره تعافيا اقتصاديا قياسيا خلال العام الحالي، يواجه الآن خطر الانهيار. وقد خفض بنك أوف أميركا مؤخرا توقعاته لنمو الاقتصاد الصيني خلال العام الحالي من 5.3 في المئة إلى 4 في المئة من إجمالي الناتج المحلي.

وبالتالي فمن المحتمل أن تمضي الصين عكس المنطق السائد، فتخفف سياستها النقدية رغم ارتفاع معدل التضخم، حيث حذر رئيس الوزراء لي كيشيانج من مخاطر الضغط على الاقتصاد بتشديد السياسة النقدية.

وعلى الجانب الآخر في الولايات المتحدة سيجد مجلس الاحتياط الاتحادي (البنك المركزي) الأميركي أنه من الصعب تشديد السياسة النقدية بسرعة.

المجلس الاستشاري الاقتصادي للحكومة الألمانية يطالب البنك المركزي الأوروبي بتوضيح كيف سيكبح جماح سياسته النقدية فائقة المرونة في ظل ارتفاع معدلات التضخم

ويشدد جيروم باول رئيس المجلس على أنه يجب سحب سياسة التيسير الكمي النقدية قبل التفكير في زيادة أسعار الفائدة. ولمّا كان سحب سياسة التيسير الكمي سيتم تدريجيا، فإنه من غير المتوقع حدوث أي زيادة في أسعار الفائدة الأميركية قبل منتصف 2022. ويميل مجلس الاحتياط إلى التروي في سحب برامج التحفيز الاقتصادي وسياسة التيسير الكمي، لتجنب حدوث موجة هلع بين المستثمرين في أسواق المال كما حدث في 2013.

وفي أوروبا، من غير المحتمل أن تصغي كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي للانتقادات الألمانية للسياسة النقدية فائقة المرونة. فرؤساء البنك المركزي الأوروبي اعتادوا منذ تدشين العملة الأوروبية الموحدة على التحذيرات الألمانية من السياسة النقدية فائقة المرونة. ورغم أن البنك خضع في البداية للنفوذ الألماني؛ حيث إن مقره في فرانكفورت، وأول كبير خبراء اقتصاد فيه كان الألماني أوتمار إيسنج أحد المدافعين عن السياسة النقدية المتشددة، لكن هذه الأيام تزايد نفوذ الحمائم الذين يؤمنون بضرورة تبني سياسات نقدية مرنة لتعزيز النمو الاقتصادي كهدف رئيسي.

ويقول المحلل الأميركي إنه رغم أن التضخم المرتفع الآن مشكلة عالمية، فمن غير المستبعد أن تتحرك الدول الكبرى لمواجهته بشكل جماعي كما حدث أثناء انهيار أسواق المال العالمية عام 1985، عندما اجتمع ممثلو الدول الكبرى في فندق بلازا بنيويورك واتفقوا على إعادة ضبط حركة أسواق العملات. فاليوم الظروف المحلية لكل دولة لا تسمح بالتعاطف مع الدول الأخرى المتضررة من التضخم المرتفع، ولا بالتفكير في كيفية مساعدتها.

العرب