بينما اتخذت بعض الدول الغربية والمؤسسات المالية قرارًا فوريًّا بتجميد المساعدات المالية والاقتصادية للسودان بعد ساعات من إعلان قائد الجيش عبد الفتاح البرهان حالة الطوارئ في البلاد، انتشرت أنباء عن تراجع كبير في أسعار السلع الأساسية في أسواق العاصمة الخرطوم وعلى رأسها وقود السيارات.
وارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية بصورة ملحوظة بعد أسبوعين من إغلاق محتجين ميناء بورتسودان على البحر الأحمر في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، المنفذ البحري الوحيد لحركة الصادر والوارد والتجارة الخارجية للسودان، الذي استمر 37 يومًا.
تأثيرات السياسة
مواطنون وتجار تجزئة قالوا للجزيرة نت أثناء جولتها في بعض أسواق مدن العاصمة القومية واستطلاعها لمدن بولايات أخرى، إن انخفاضًا ملحوظًا طرأ على سلعتي السكر ودقيق الخبز منذ الأسبوع الماضي. وبلغت أسعار السكر في ذروة أزمة الشرق ألف جنيه سوداني للكيلوغرام وتراجعت إلى 400 جنيه، وكانت قبل أزمة الشرق بنحو 300 جنيه للكيلوغرام (الدولار يساوي 438 جنيها تقريبا).
وتراجعت أسعار دقيق الخبز من 800 جنيه سوداني للكيلوغرام إلى 600 جنيه بعد الإجراءات الأخيرة، وكانت قبل الأزمة بنحو 350 جنيها.
وأكد تجار تجزئة للجزيرة نت أن أسعار بقية السلع الاستهلاكية لم يطرأ عليها أي تغير يذكر، كما ظلت أسعار الأدوية على ارتفاعها من دون أي تراجع بعد إجراءات البرهان الأخيرة.
وأعلن بنك السودان المركزي عن تراجع معدلات التضخم في شهري أغسطس/آب إلى 412.7% وسبتمبر/أيلول إلى 387.56%، بعد أن بلغ أعلى معدلاته عقب إعلان برنامج الإصلاحات الاقتصادية ليصبح في يوليو/تموز الماضي 422.75%.
الخبير الاقتصادي الدكتور هندي عوض اتهم المكون العسكري في السلطة الانتقالية المحلولة بالتضييق على الحكومة المدنية مستغلًّا سيطرته على سلع المخزون الإستراتيجي بواسطة شركات الجيش؛ وقال للجزيرة نت إن أسعار سلعتي السكر ودقيق الخبز ستعاود الارتفاع بعد مدة عند نفاد المخزون الإستراتيجي.
وأشار عوض إلى أن لدى البنك المركزي احتياطيا من العملات الأجنبية تجاوز ملياري دولار وكذلك من الذهب، يمكن أن تساعد السلطة الحالية في العمل على تخفيف الضائقة المعيشية لفترة محدودة، مضيفًا أن السلطة الجديدة ستستعين بشركات الجيش وتصدير الذهب لسد الفجوة، ولكنه حذر من عدم فعالية تلك السياسات الاقتصادية على المدى القريب والمتوسط، في ظل تجميد المجتمع الدولي للمساعدات والمنح التي أعلنت في وقت سابق.
وبدورها، لا تتوقع أستاذة الاقتصاد بالجامعة الوطنية الدكتورة منى عباس تحسنًا في مستوى معاش المواطنين بسبب تداعيات الإجراءات الأخيرة لقائد الجيش، وقالت للجزيرة نت إن الوضع الاقتصادي الذي بدأ يشهد استقرارًا في الشهور الأخيرة سيبدأ بالتراجع، مشيرة إلى أنها لم تشهد أي تراجع مؤثر في أسعار السلع.
اختفاء الخبز المدعوم
يقول حامد إدريس، صاحب مخبز في منطقة شمال بحري، للجزيرة نت، إن أسعار دقيق الخبز شهدت ارتفاعًا كبيرًا بسبب إغلاق شرق السودان وتوقف حركة الواردات، ويضيف أن سعر عبوة الدقيق ذات الـ25 كيلوغراما ارتفع من 7500 إلى 14 ألف جنيه.
وكشف إدريس عن تراجع توزيع دقيق الخبز المدعوم بسعر 700 جنيه إلى أقل من طن أسبوعيا للمخبز، في وقت يتوفر فيه الدقيق التجاري بكميات كبيرة. ويبلغ سعر قطعة الخبز المدعوم 5 جنيهات فقط وسعر قطعة الخبز التجاري 30 جنيهًا.
واشتكى مواطنون في ولايات كسلا والنيل الأبيض والبحر الأحمر والنيل الأزرق ومناطق أخرى، للجزيرة نت، انعدام الخبز المدعوم، وقالوا إنهم يضطرون إلى شراء الخبز بالسعر التجاري رغم ارتفاع أسعاره.
وقال الوزير المكلف بحكومة ولاية البحر الأحمر محمود علي بشير، للجزيرة نت، إن هناك مؤشرات لعودة الأوضاع إلى طبيعتها بعد فتح طريق الشرق وعودة حركة العمل في الميناء الرئيسي. وتابع أن مدينة بورتسودان تشهد الآن استقرارًا في توفر السلع الأساسية ولكن أسعارها لم يطرأ عليها انخفاض.
وأضاف الوزير أن إغلاق الميناء مدة 37 يومًا أثر على معاش الناس، مشيرًا إلى أن كل أعمال المدنية مرتبطة بحركة العمل في الميناء، وكشف عن خسارة الميناء نحو 25 مليون دولار يوميًّا بسبب الإغلاق.
وحسب وزارة المالية، فإن السودان يستهلك مليوني طن سنويًّا من القمح، وينتج محليًّا نحو 17% من الاستهلاك الكلي، ويستورد أكثر من 80% من احتياجاته.
في السياق، لم يطرأ تغيير على أسعار منتجات النفط، بعد أنباء عن تراجع غالون البنزين إلى 800 جنيه من نحو 1500 جنيه، وقال أحد العاملين في محطات خدمة تزويد السيارات بالوقود إن أسعار المنتجات النفطية مرتبط بالأسعار العالمية بعد قرار تحرير سعرها، لذلك سيكون انخفاض سعرها مرهونا بالأسعار العالمية.
ويضطر السودان إلى تغطية فجوة تبلغ 60% من احتياجاته النفطية عن طريق الاستيراد، وينتج السودان 70 ألف برميل نفط يوميًّا ويحتاج إلى مضاعفة الإنتاج لتغطية الفجوة الكبيرة في الاستهلاك، حسب وزارة الطاقة السودانية.
الديون والدعم الدولي
أول الملفات التي ستواجه البرهان والسلطة الجديدة هي كيفية إعادة ثقة المجتمع الدولي والمؤسسات المالية للمضي قدمًا في خطط الدعم الاقتصادي التي وعد بها السودان. وكان المجتمع الدولي أبدى ترحيبًا كبيرًا بالتحولات التي حدثت في السودان عقب انتصار ثورة ديسمبر/ كانون الأول وسقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير في أبريل/نيسان 2019.
وبدأ السودان استعادة وضعه الطبيعي بين دول العالم بخروجه من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وهو الباب الذي فتح له الدخول إلى الاستفادة من منح المؤسسات المالية وعودة التعاملات المصرفية إلى طبيعتها والوصول إلى إعفاء الديون المتراكمة التي قاربت 60 مليار دولار.
وكشفت مؤشرات اقتصادية عدة عن بداية انتعاش الاقتصاد السوداني واستقراره بعد الشروع في تنفيذ خطة الإصلاحات، واستقر سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبية وأخذ مؤشر معدل التضخم يتراجع.
ويقول هندي عوض للجزيرة نت إن المؤسسات المالية وبعض الدول شرعت فعليًّا في تجميد المساعدات والمنح التي صادقت عليها من قبل، وتابع أن ألمانيا أصدرت قرارًا بوقف تعاملها مع البنوك السودانية بعدما وصفته بـ”الانقلاب العسكري” في السودان.
وجمدت الولايات المتحدة مساعدات بقيمة 700 مليون دولار، وتبعها البنك الدولي بتجميد منحة بقيمة ملياري دولار، في وقت أعلن فيه صندوق النقد الدولي مراقبة وضع السودان من كثب لاتخاذ الخطوة القادمة.
وتوقع عوض تجميد الخطوات التي بدأت في اتجاه إعفاء السودان من ديونه الخارجية التي قطعت شوطًا بعيدًا، بعد إعلان مجموعة نادي باريس إعفاء 19 مليار دولار من جملة 23 مليار دولار على السودان وجدولة الباقي على مدى سنوات.
وقالت الدكتورة منى عباس للجزيرة نت إن “أهم إنجازات ثورة ديسمبر/كانون الأول هي انفتاح السودان الاقتصادي على العالم، وعودته إلى النظام المصرفي، والإعفاء من الديون الخارجية” حسب تعبيرها.
وحذرت من عودة البلاد إلى ما قبل الثورة بعد الإجراءات الأخيرة لقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، وقالت إن السودان يحتاج إلى المجتمع الدولي من أجل دعم مشروعات تأهيل البنية التحتية والتكنولوجيا للنهوض الاقتصادي واستقرار الأوضاع الذي سينعكس على معاش الناس، على حد وصفها.
المصدر : الجزيرة