مزاعم إيرانية هشة: فقدنا السيطرة على الميليشيات المارقة

مزاعم إيرانية هشة: فقدنا السيطرة على الميليشيات المارقة

تفتح المزاعم التي يتم تبادلها من قبل المسؤولين الإيرانيين بشأن عدم صلتهم بعملية اغتيال رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي بطائرة مسيرة إيرانية الصنع، والإشارة إلى أن بعض الميليشيات المارقة خرجت عن سيطرتها، أكثر من باب عن الخطط التي تضعها طهران لنشاط الميليشيات الشيعية وعلاقتها مع الحكومة العراقية المقبلة.

جلس الجنرال إسماعيل قاآني قائد فيلق القدس الإيراني التابع للحرس الإيراني مساء الأحد الماضي أمام رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي، بطريقة لا تشبه أيا من الجلسات التي كان يتصدر فيها قاسم سليماني المسؤولين العراقيين الشيعة بوصفه الحاكم أو القائد المزكى من مرجعهم آية الله علي خامنئي. وعليهم جميعا الاستماع له بخشوع تام!

لم يكن بمقدور قاآني التصرف بنفس الصفة التي كان يتخذها سليماني، وهو يزور الكاظمي بعد ساعات من نجاته من موت مرسوم له بطائرة إيرانية مسيرة.

وبينما عبر عن إدانة إيران الشديدة لمحاولة الاغتيال، لم يحاول قائد فيلق القدس التلاعب بالكلمات بشأن الجهات المتورطة في عملية اغتيال رئيس الوزراء العراقي، ما يثبت أن الميليشيات الشيعية هي المسؤولة عن تدبير هذا الهجوم.

حاول الجنرال الإيراني، وفقا لمسؤول تحدث لمراسل “العرب” في بغداد، معرفة نوايا رئيس الوزراء العراقي بشأن ردة فعله على استهداف المسيرات لمنزله الشخصي، ملمحا إلى أن إيران لم تكن على علم مسبق بهذه العملية.

وسعى قاآني في كل هذا الكلام الهادئ لإيصال رسالة لرئيس الحكومة العراقية الناجي للتو من الموت، أن إيران لم تعد تسيطر على الميليشيات المارقة في العراق!

ومع أن الكاظمي فهم بوضوح الرسالة الإيرانية، إلا أنه لم يفقد رباطة جأشه وهو يتحاور مع من يسيّر المتهمين بمحاولة اغتياله في الجلسة التي لا تشبه أيا من جلسات المسؤول الإيراني السابقة في العراق.

كان قاآني يعتذر بالطريقة الإيرانية التي تعد “التقيّة” وسيلة سياسية مثلما هي طائفية بالنسبة إليهم، عندما تنصل عن الهجوم.

ونقلت صحيفة وول ستريت جورنال عن دبلوماسي إيراني قوله إنه “كان علينا أن نقول للأميركيين، من خلال العراقيين، إنه لا علاقة لنا بهذه الهجمات”.

لكن من بمقدوره تصديق أن الميليشيات الشيعية المارقة خرجت عن السيطرة الإيرانية؟

وبعد يومين من تقيّة قاآني أمام الكاظمي اعتبر قائد القوة الجو – فضائية بالحرس الثوري الإيراني علي حاجي زادة أن الطائرات المسيرة الإيرانية أصبحت “شوكة في أعين الأعداء اليوم”.

ولفت زادة إلى أن “أعداء إيران حاولوا على مدى السنوات الماضية فرض الحصار التسليحي ضد إيران دون أن يفلحوا في ذلك، واليوم يفرضون الحظر على صادراتنا”.

وأشار إلى أن “الاعداء يدأبون دوما على تقويض اقتدار إيران، وعليه يدعوننا إلى التفاوض بشأن القوة الصاروخية والطيران المسير الذي أصبح شوكة في أعينهم”.

يبدو من العبث السياسي تصديق مزاعم قائد فيلق القدس بأن إيران لا علاقة لها بما حصل من هجوم على منزل رئيس الحكومة العراقية.

ويرى الكاتب السياسي في شبكة بلومبرغ، بوبي غوش أنه لا يمكن التشكيك كثيرا في أن الهجوم كان من صنع واحدة من أدوات إيران.

وقال غوش “من بين مجموعات مسلحة متعددة في العراق، فإن هذه الميليشيات وحدها يمكنها الوصول إلى الطائرات دون طيار التي توفرها إيران لتستخدمها في العالم العربي، بدءا من بيروت وصولا إلى اليمن”.

مهما يكن من أمر، فإن الضربة بالطائرة المسيرة لمنزل الكاظمي تسلط الضوء على التهديد الذي تشكله الميليشيات الشيعية عندما شعرت أنه سيتم استبعادها من الحصص الموزعة في الحكومة الجديدة. الهزيمة الشنيعة في الانتخابات البرلمانية لقائمة الفتح التي تجمع تحت لوائها الميليشيات الطائفية تجعل من إحداث الفوضى الوسيلة الوحيدة التي صار يملكها لصوص الدولة إذا لم يُسمح لهم بأن يكونوا جزءا من تشكيل الحكومة.

ولا يريد زعماء الميليشيات الشيعية الموالية لإيران الاعتراف بنتائج الانتخابات لأنها تضعهم في حجم سياسي حرج، لا يوفر الغطاء الكافي لأنشطتهم المشبوهة.

من يصدق طهران؟

يقول مراقبون إن جمهور الحشد الشعبي عاقب الميليشيات الشيعية الموالية لإيران خلال الانتخابات بسبب خطابها الخاوي وتعويلها على التصعيد وخطاب المواجهة الأجوف في التحشيد الانتخابي، وهو أمر لم يعد ينطلي على أحد.

ويدرك جمهور الحشد الشعبي قبل غيره أن قادة الميليشيات الشيعية الموالية لإيران يهتمون لتعزيز مكاسبهم الاقتصادية والسياسية فقط.

وإذا كانت إيران قد سعت للتقليل من حجم خسائرها بسبب الفضيحة التي أحدثها فشل تلك المحاولة، فإن قاآني تصرف بعقلية المندوب السامي القادر على ضبط الأمور كما لو أن شيئا لم يحدث. وهو ما يمكن أن يشير إلى أن الحاجز الإيراني لا يزال يقف بين الحكومة وإمكانية الوصول إلى الجناة وتقديمهم إلى القضاء. كذلك يقرأ الكاتب السياسي العراقي فاروق يوسف مشهد محاولة اغتيال الكاظمي وزيارة قاآني للاطمئنان عليه بطريقة “لقد صبت زيارة المسؤول الإيراني في حساب الميليشيات التي إن فلتت من العقاب هذه المرة كما فلتت سابقا، لذا فإن حربها المفتوحة ستشمل الجميع وستتخلى عن خوفها من إمكانية نشوب حرب شيعية شيعية”.

وقال يوسف في تصريح لـ”العرب” “ما قاله قاآني للكاظمي لا يمكن أن يؤخذ على محمل الجد. وليس مطلوبا من الكاظمي أن يصدقه. ولكن هل كان متوقعا من ضابط في الحرس الثوري الإيراني سوى أن يقول ذلك؟ لو لم يفشل الاغتيال لكانت إيران قد تصرفت عكس ذلك. لا من خلال الأقوال، بل من خلال الأفعال. ولكن فشل المحاولة كان صادما، بل يمكن اعتباره هزيمة لمشروعها في العراق القائم على العنف”.

غير أن إحسان الشمري رئيس المركز العراقي للفكر السياسي في بغداد يرى في تصريح لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية “أن قاآني فقد السيطرة على بعض الجماعات”.

ولا تتسق قراءة الشمري مع المؤشرات التي يعرضها يوسف بالقول “الكاظمي استطاع بأضعف أدوات الدولة أن يُهزم ميليشيات إيران. أولا من خلال دفعها إلى اعتماد سياسة رد الفعل وهو ما سيقودها عاجلا إلى موقع الدفاع عن النفس وثانيا نجح في أن يضطرها إلى الاعتراف علنا بولائها لإيران وتخليها عن المشتركات الوطنية، كما أن تصريح قاآني المتعلق بعد علم إيران بالمحاولة يعد اعترافا صريحا بأن الحشد هو جيش احتلال إيراني”.

وتجربة العراق السياسي منذ عام 2003 جعلت العراقيين برمتهم يفقدون الثقة بالسياسيين، هناك فشل مستمر في جعل العراق كدولة يتناسب مع الثروات التي يمتلكها، لذلك حاول الكاظمي خلال فترة رئاسته إعادة الثقة بالدولة وسحبها من سطوة المختطفين، لكن ما هي نوايا وخطط إيران لمستقبل العراق بعد هزيمة أتباعها في الانتخابات الأخيرة؟

يجمع المراقبون على أنه من غير المرجح أن يتخلى القادة الإيرانيون عن العمق الاستراتيجي وخطوط الدفاع الأمامية التي منحها لهم الغزو الأميركي للعراق، لكنهم في المقابل لا يريدون حربا أهلية شيعية شيعة تطلق شرارتها منذ أسابيع الميليشيات الولائية.

الوصول إلى الجناة

استبعد المحلل السياسي ومستشار مركز العراق الجديد للبحوث والدراسات شاهو القره داغي فقدان طهران للسيطرة على الميليشيات والفصائل الولائية التي تعلن الولاء لمشروع ولاية الفقيه والعمل ضمن الاستراتيجية الإيرانية الأيديولوجية في المنطقة.

وعزا القره داغي ذلك إلى أن هذه الميليشيات تستقوي بالدعم الإيراني وتقوم بنشاطاتها التخريبية والإرهابية بالاعتماد على الغطاء الإيراني الدائم، وحتى تردد الدولة العراقية والحكومة في ضرب وتحجيم هذه الميليشيات سببه الخوف من ردة فعل إيرانية قاسية بما أن طهران تستخدم هذه الميليشيات كأدوات ضغط في مفاوضاتها الخارجية.

وقال في تصريح لـ”العرب” “قد تكون هناك مركزية في صدور التوجيهات ولامركزية في التنفيذ وبالتالي هناك لكل ميليشيا مساحة تستطيع من خلالها أن تعمل بحرية وخاصة في ما يتعلق بتوفير موارد مالية لتغطية نشاطاتها أو التعامل مع بعض الملفات الأمنية والعسكرية التي تستطيع من خلالها اتخاذ ما تراه مناسبا دون العودة إلى الجانب الإيراني”.

ومع ذلك ساهم غياب قاسم سليماني في إضعاف السيطرة الإيرانية على الميليشيات بسبب عجز قاآني عن لعب دور سليماني الذي كان قادرا على ضبط إيقاع الفصائل وإدارتهم بصورة ناجحة وكثرة الميليشيات وتضارب مصالحها أحيانا يتطلب قدرة عالية على تنظيم علاقاتها وهذا الأمر تراجع كثيرا بعد مقتل سليماني وخاصة بعد بروز قيادات ميليشياوية تريد أن تملأ مكان أبومهدي المهندس الذي قتل مع سليماني، وتظهر كقيادات معتبرة، الأمر الذي يزيد من حدة التنافس بين القيادات الميليشياوية على لعب هذا الدور ومن هنا يظهر العجز الإيراني عن التحكم بالميليشيات بصورة ناجحة كالماضي.

ولا تفضل طهران النموذج اللبناني أو اليمني في سيطرتها على العراق، وتعمل على بقاء الحشد الشعبي كقوة عسكرية مدعومة بممثلين سياسيين لها في داخل البرلمان والحكومة العراقية. وفي ذلك يكون بمقدورهم عبر هذا النموذج الهزيل استغلال العراق من وراء دروع مختلفة ومربحة.

الضربة بالطائرة المسيرة لمنزل الكاظمي تسلط الضوء على التهديد الذي تشكله الميليشيات الشيعية عندما شعرت أنه سيتم استبعادها من الحصص الموزعة في الحكومة الجديدة

لكن العراق ليس قضية خاسرة بالنسبة إلى جيرانه من العرب وللولايات المتحدة، إذا أرادت الحفاظ على مصالحها من التهديد الإيراني، ولن يكون بنفس سهولة التهام لبنان كما فعل حزب الله الأداة الأقوى لإيران في المنطقة.

لذلك يبدو أن الرد الفاتر من حكومة الكاظمي على عملية اغتياله يمثل فرصة إيرانية للمزيد من العنف المرتقب، فليس لديها ما تخسره إذا أمرت ميليشياتها بالمزيد من العنف.

وسيكون هدف طهران إلغاء نتائج الانتخابات، إن لم يكن رسميا، فعلى الأقل عمليا بتشكيل حكومة مهادنة تجاه الميليشيات.

لكن ماذا عن معركة الكاظمي مع الميليشيات المارقة؟

يرى دبلوماسيون غربيون تعرفوا عن كثب على المشهد العراقي الملتبس، أنه في النهاية لا يتعين على الكاظمي أن يعمل منفردا، إذ حان الوقت أيضا للولايات المتحدة لتنقل القتال إلى قلب بغداد وطهران، وتلاحق المسؤولين عن الهجمات بالطائرات المسيرة. فهل سيتخلى جو بايدن عن بروده تجاه إيران؟

العرب