يشهد خراب مدينة ماريوبول المطلة على بحر آزوف، والتي تصل الدونباس بشبه جزيرة القرم على وحشية الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية. كما يظهر ما حلّ بهذه المدينة ارتباط الغزو بعملية إعادة هندسة قصدية للجغرافيا السكانية. وهذه عملية متواصلة. من أرقامها حتى الآن ما أعلنته الأمم المتحدة ولم يمض بعد شهر على الحرب الروسية، من اضطرار زهاء عشرة ملايين أوكراني إلى ترك ديارهم، أي قرابة ربع سكان البلد، سواء في إطار حركة النزوح الداخلية أو في إطار حركة اللجوء إلى البلدان المجاورة.
لا يقلل من هذه الوحشية قيد أنملة أن تكون الميليشيات القومية اليمينية المتطرفة قد هجّرت قسماً من مواطني هذه المدينة المنتمين إلى الروس الإثنيين عام 2014، بعد أن نجحت هذه الميليشيات في إخراج الانفصاليين الموالين لموسكو من المدينة. وهو ما لم تتمكن من إنجازه الحكومة المركزية المنبثقة عن انتفاضة ميدان نزلجنوستي الثانية (أورو ميدان) في كييف بواسطة قواتها الشرعية، فشرّعت الباب أمام هذه «كتيبة آزوف» ومشتقاتها، وهذه مجموعات رفعت بالفعل شعارات وشارات تغرف من تركة النازية، قبل أن يتراجع نسبياً إظهار هذه الرموز عندما جرى إلحاق هذه المجموعات بالحرس الوطني الأوكراني.
إلا أن اللاتناسب بين ارتكابات «كتيبة آزوف» وبين تدمير مدينة وتهجير أهلها في سياق اجتياح بلد كبير للبلد المجاور الأصغر منه، هو من النوع الذي لا يترك مجالاً للنسبوية، لأن الخيار لا يمكنه أن يكون بين نسبوية تمييعية لواقعة أن هناك بلدا يجتاح بلداً آخر ويفكّك أوصاله ويهجّر شعبه، وبين سردية اختزالية ليس بمستطاعها جمع معطيات مختلفة في وقت واحد. فلا طائل من المكابرة على أن هناك قوميين أوكران يمينيين متطرفين ما زالوا يباهون بصنيع ستيبان بانديرا وحركته التي تعاملت مع الإحتلال الألماني لمحاربة الجيش الأحمر في أعوام الحرب، والتي سفكت دماء اليهود والروس الاثنيين والبولونيين والشيوعيين الأوكران، علماً أن منظمة القوميين التي قادها بانديرا ظلت تقاوم السوفييت لعشر سنوات بعد زوال الرايخ الثالث، بل إلى أن نجحت الاستخبارات السوفييتية في اغتيال بانديرا نفسه في ميونيخ عام 1959. ويظهر أنه كان يحظى بتغطية بعض الدوائر في ألمانيا الغربية حتى ذلك التاريخ.
في الوقت نفسه، لا يمكن الهبوط كيفما كان على تعقيدات هذا الماضي الأوكراني المنشطر حول «المسألة النازية»، لأنه في هذا الماضي الدموي المرتبط بأهوال الحرب الأهلية الروسية التي كانت أوكرانيا مسرحاً أساسياً لها، ثم المجاعة الأوكرانية في إثر سياسة التجميع الزراعي الستالينية في الثلاثينيات، ثم ويلات الاجتياح الألماني والحرب العالمية الثانية، فإن استقطاباً جهنمياً فرض بالفعل نفسه، ولم يصر بعد ذلك إلى مراجعته بالصراحة الكافية. وهو الاستقطاب الذي جعل قسماً كبيراً من سكان أوكرانيا ابان التصادم بين السوفييت والالمان يجد أنه لا ثالث عملياً بين خيارين، إما أن تكون إلى جانب البلشفية – الستالينية وإما أن تكون إلى جانب النازية.
وهذا لم ينحصر في أوكرانيا، بل امتد إلى الروس الاثنيين أيضاً والروس البيض، لأنه إذا كانت القيادة النازية في بداية عملية بارباروسا غير راغبة في مد اليد لأي حركة قومية سلافية كحليفة محلية لها في المناطق التي جرى اجتياحها من الاتحاد السوفييتي، ما دام هذا النوع من التحالفات من شأنه أن يعرقل مشاريع إعادة تنظيم المجال الحيوي وفقاً للرؤى القومية – الاشتراكية الألمانية على حساب العرق السلافي بكافة تصانيفه، فإن القيادة النازية وجدت نفسها في نهاية المطاف، وبخاصة بعد أن أخذت تدرك مأزق اجتياحها لبلاد السوفييت، تتقبل أكثر نصائح وزيرها للأراضي الشرقية ألفرد روزنبرغ. فالأخير، وهو من ألمان البلطيق (أستونيا) عجز لسنوات عن اقناع القيادة بجدوى مد اليد للقوميين الأوكران والقوميين الروس المعادين للشيوعية، في الوقت نفسه الذي اندهش الألمان بالفعل عند اجتياحهم لهذه البلاد من عدد الذين أرشدوهم لالقاء القبض على اليهود والشيوعيين، في مقابل اندهاشهم شيئاً فشيئا من جمهورية الأنصار في الغابات التي أخذت تكثّف عمليات المقاومة ضدهم. شيئاً فشيئا أخذ النازيون يعون كامل المشهد: الناس ليست كلها ضد الاتحاد السوفييتي وستالين في هذه المناطق المحتلة، الناس منقمسة بحدة. الحرب الأهلية الروسية المفترض رسمياً أنها منتهية قبل إعلان تأسيس الاتحاد السوفييتي عام 1922 لم تتوقف تماماً، أو شكلت الحرب العالمية الثانية مناسبة لاعادة انفجار الحرب الأهلية الروسية من جديد. هذه المرة بشروط الاجتياح الألماني ثم النجاح السوفييتي بصده ثم كامل المسار الذي سيؤدي بالحلفاء شرقا وغربا إلى القضاء على ألمانيا الهتلرية.
وفي هذا الاستئناف للحرب الأهلية الروسية، وجد النازيون الألمان الذين تأثروا في بداياتهم في عقد العشرينيات بما نقله خاسرو الحرب الأهلية الروسية الأولى من سرديات مشيطنة للبلاشفة وبالأخص من سرديات تربط اليهود بالبلاشفة (مقولة اليهوبلشفية)، وجدوا أنفسهم يستعينيون بالقوميين الأوكران يقودهم بانديرا، لكن أيضاً بجيش التحرير الروسي بقيادة الجنرال المنشق اندريه فلاسوف (أعدم في موسكو بعد الحرب)، بل لم يكن سهلاً للقيادة الألمانية التوفيق بين المتعاونين القوميين الروس معها وبين المتعاونين الأوكران.
انبعاث الحرب الأهلية الروسية في أربعينيات القرن الماضي هو بالذات ما عملت الدعاية السوفييتية على طمسه تحت مسمى «الحرب الوطنية العظمى» ومن خلال تغليب التصوير الملحمي للحرب على أي تدقيق وتفصيل في مستوياتها وأبعادها والانقسامات التي استتبعتها في مجتمعات المناطق التي احتلها الألمان. بدلاً من ذلك، قامت السردية السوفييتية الرسمية بفرز القوميات بين الشعوب الوطنية، وفي طليعتها الروس الاثنيين ثم البيلوروس والأوكران، وبين لائحة من القوميات المصنفة غير وطنية التي جرى ترحيلها لسنوات طويلة ومريرة من مواطنها نحو سيبيريا أو كازاخستان لاتهامها ككل بمعاونة النازيين، ومن هؤلاء تتار القرم والشيشان والبلقار والمشكيت والانغوش والقراطشاي والكالموك. لأجل ذلك، استخدام مكافحة النازية للإجرام بحق شعوب بأكملها بدأ منذ نهايات الحرب، مثلما أن السردية الرسمية التي لم يكن من مصلحتها الاثارة العلنية لعمق الانقسام الأوكراني بين ستالين وهتلر أيام الحرب، ومن بعده الانقسام الروسي، كان من نتيجتها الإمعان في خلط الحابل بالنابل بما يسمح بالتزييف الأشد للمعطيات.
القوميون الأوكران لم يقطعوا بالشكل الكافي مع تراث فضّل هتلر على ستالين؟ نعم. هل كان الأفضل أن يقطعوا مع هذا التراث؟ طبعاً، وبخاصة إذا كانوا يريدون البحث عن شروط مؤاتية لبناء وطن يتسع للتعددية اللغوية والإثنية والمناطقية على أرضه. آثروا بدلاً من ذلك اعتماد نظرة تجعل من الاختلاف بينهم وبين الروس اختلافاً حضارياً بين أوروبيين وبين أسيويين، وتسببوا في إضعاف مناعة الفكرة الأوكرانية نفسها بذريعة إكسابها صلابة ووضوح في الولاء. لكن كل هذا في مقام، واجتياح البلد الكبير للبلد الأصغر منه والعمل على تفكيكه وتهجير سكانه بهذا الشكل في مقام آخر. فما يجري هو مسخ روسيا لسردية «الحرب الوطنية العظمى»، التلفيقية بالأساس في جانب غير قليل منها، وتطبيق هذه السردية على الأوكران كما لو كانوا نازية جديدة على روسيا الانتصار عليها إذا أرادت تخليص نفسها، وتخليص العالم. بدعوى وقف إبادة جماعية يتم الإجهاز على شعب بأكمله. بدعوى أن الحكم في كييف ينكر على هذا الشعب تعدديته التكوينية يجري العمل على تفكيك بلد بحجم أوكرانيا.
وماريوبول؟ هذه المدينة المنكوبة المسماة على اسم مريم العذراء ما كانت في الأساس موطناً لا لروس إثنيين ولا لأوكران عندما تأسست في أعقاب انتصارات الإمبراطورة يكاترينا الثانية (الألمانية المولد والنشأة والمتروسنة بعيد زواجها ممن يصبح بطرس الثالث التي عادت وقتلته) على خانية تتار القرم والعثمانيين نهاية القرن الثامن عشر. كانت مستوطنة للروم، اليونانيين الهاربين من القرم فترة الحرب، ومن مناطق عثمانية أخرى، لأن يكاترينا كانت تشجع على استيطان هذه المناطق المستولى عليها على حساب التتار والعثمانيين، ومعظم المدن التي انشئت في هذه النواحي شيدت أساساً لاستقبال الروم العثمانيين، أي اليونانيين، وفي سياق ما سمي وقتها «المشروع اليوناني» للامبراطورة، هذا المشروع الذي كان يتحمس له فولتير في مراسلاته معها، ويهيب بها أن تقضي على السلطنة العثمانية، وتبعث الحضارة اليونانية من جديد. وفي مناطق أخرى من أوكرانيا شجع القياصرة على توطين صرب لاجئين من السلطنة، مثلما شجعوا عدداً لا يستهان به من الألمان. وكل هذا يناقض أحادية السرد عند القوميين الروس كما الأوكران، لكنه يناقض قبل أي شيء آخر عملية التدمير الجارية حالياً لحق أوكرانيا في الوجود الحر مثلما أنه، إذا استعدنا للحظة السردية الروسية التي ترى في أوكرانيا جزءا من بلادها، فإن الحرب الحالية، ستكون استئنافا جديدا للحرب الأهلية الروسية.
القدس العربي