الآن، بعد مرور عقدين من الزمان على الانتفاضة الفلسطينية الثانية، تأتي الهجمات في بئر السبع، والخضيرة، بني براك، ومن يدري أين أيضاً، لتذكرنا بأن الكثير مما ابتلي به هذا البلد في ذلك الوقت ما يزال معنا. لم تستطع عملية الدرع الواقي التي شنتها إسرائيل في ذلك الوقت “إنهاء” أي شيء، ولسبب واحد بسيط: لا يمكن حل هذا الصراع بقوة السلاح، ولن يمكن لتفوق إسرائيل العسكري الكامل أن يضمن لإسرائيل السلام أبدًا بما أنها تحتل وتنكر الحقوق الأساسية لشعب آخر.
- * *
ما نزال لا نعرف السبب الصريح الذي دفع المهاجمين في بئر السبع والخضيرة وبِني براك إلى ارتكاب أعمالهم القاتلة خلال الأسبوع الماضي. وبعد مقتل 11 شخصًا من المدنيين وضباط الشرطة، قتلت قوات الأمن الإسرائيلية المهاجمين من دون ترك رسالة واضحة. وربطت رسائل الدعم من طرف ثالث، حماس والجهاد الإسلامي، عمليات القتل بـ”قمة النقب” التي عقدت الأسبوع الماضي، وضمت ممثلين من الدول العربية التي قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل منذ “اتفاقات إبراهيم”.
أطلقت بعض وسائل الإعلام الفلسطينية على الاجتماع وصف “قمة الشر”، حيث كان الهدف منه بوضوح هو إثبات أن القضية الفلسطينية لم تعد ذات صلة، وأن إسرائيل يمكن أن تعيش بسلام إلى جانب العالم العربي -مع حفاظها على نظام الفصل العنصري والاحتلال العسكري. وذكّرتنا هجمات الأسبوع الماضي بأن هذا ليس أكثر من وهم.
كما تقاطعت الهجمات مع حدث آخر لا يقل أهمية. هذه الأيام، تحيي وسائل الإعلام الإسرائيلية الذكرى العشرين لـ”عملية الدرع الواقي”. بل إن بالوسع القول إن وسائل الإعلام تحتفل بالذكرى السنوية، لأنها تمثل انتصار إسرائيل المزعوم في الانتفاضة الثانية -اللحظة التي أعاد فيها الجيش الإسرائيلي احتلال المدن الفلسطينية في الضفة الغربية ووضع حدًا إلى حد كبير للهجمات العنيفة التي خلفت أكثر من 650 من القتلى الإسرائيليين خلال الفترة 2001-2002. وقد استغرق الأمر ثلاث سنوات دموية أخرى حتى انتهت الانتفاضة الثانية حقًا، وكان نجاح “عملية الدرع الواقي” أقل بكثير مما يحب الناس أن يزعموه، لكنها كانت بلا شك نقطة تحول في تلك السنوات.
الآن، بعد عقدين من الزمان، تأتي الهجمات في بئر السبع، والخضيرة، وبِني براك، ومن يدري أين أيضاً، لتذكرنا بأن الكثير مما ابتلي به هذا البلد في ذلك الوقت ما يزال معنا. لم تستطع عملية الدرع الواقي “إنهاء” أي شيء، ولسبب واحد بسيط: لا يمكن حل هذا الصراع بقوة السلاح، ولا يمكن لتفوق إسرائيل العسكري الكامل أن يضمن لإسرائيل السلام أبدًا بما أنها تحتل وتنكر الحقوق الأساسية لشعب آخر.
ومع ذلك، فإن إسرائيل والفلسطينيين هم الآن في مكان مختلف عما كانوا عليه قبل 20 عامًا. فقد استندت عملية الدرع الواقي على الاعتقاد بأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يمكن تقسيمه إلى “هنا” (إسرائيل نفسها) و”هناك” -المدن الفلسطينية حيث تعمل الجماعات المسلحة مثل فتح وحماس. لكن تلك السفينة أبحرت وغادرت منذ فترة طويلة. إن المدن الفلسطينية تحت الاحتلال فعلياً، حيث يدخل الجنود الإسرائيليون وعملاء الشاباك ويخرجون بانتظام لاعتقال المسلحين والنشطاء السياسيين، إضافة إلى الكثير ممن هم غير متورطين على الإطلاق. لقد انهارت ثنائية “الخط الأخضر” بين “هنا” و”هناك” تمامًا.
الأمر لا يتعلق بالأمن
كان أحد المشاريع المركزية في عهد نتنياهو هو محو “الخط الأخضر”، وتوسيع المستوطنات اليهودية وتطبيعها في الضفة الغربية، وإقامة “سلام اقتصادي” مع الفلسطينيين -ومن أجلهم. ولم تجلب سياسات نتنياهو السلام بطبيعة الحال، لكن “الخط الأخضر” تم محوه بالتأكيد.
كان الأصل في بناء الجدار الفاصل أن يكون جزءًا من هذه العملية. وبدأ بناء الجدار والسياج في ذروة الانتفاضة الثانية، وكانا أوضح تعبير عن نموذج الفصل القديم. سوف تكون إسرائيل في جانب والفلسطينيون في جانب آخر. وكان السياسيون والمسؤولون الأمنيون وأغلبية اليهود الإسرائيليين مقتنعين بأن الجدار هو الذي أوقف التفجيرات الانتحارية وعمليات إطلاق النار التي شهدتها الانتفاضة الثانية.
لكن أي شخص يعرف الحقيقة يمكنه أن يخبرك بأن الوظيفة الرئيسية للحاجز كانت آنذاك كما هي الآن، نفسية؛ إنه موجود ليرسم حدودًا في الوعي الإسرائيلي-اليهودي، أكثر من كونه عائقًا ماديًا حقيقيًا أمام الفلسطينيين. ثمة مئات الآلاف من المستوطنين الذين يعبرونه يوميًا. ويبدو هذا روتينيًا بالنسبة لنا، لكن من الواضح أنه من المستحيل أن يصنع عقبة حقيقية في مثل هذا الواقع. وإذا تذكرنا أن عشرات الآلاف من المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل يعبرون الحاجز إلى الضفة الغربية كل أسبوع للتسوق والترفيه والدراسة، فإننا نبدأ في فهم أن الفصل غير موجود حقًا.
ولا يتمتع الفلسطينيون المقيمون في الضفة الغربية بحرية الحركة نفسها، ولكن حتى بالنسبة لهم، لا يشكل الجدار عقبة لا يمكن التغلب عليها. هناك أكثر من 100.000 عامل فلسطيني يحملون تصاريح إسرائيلية، وعشرات الآلاف من العمال من دون تصاريح، والذين يعبرون السياج كل يوم للعمل في إسرائيل. بل إنهم ينامون أحيانًا في إسرائيل ويعودون إلى الضفة الغربية بعد بضعة أيام.
وإذا أضفنا 400 ألف فلسطيني من القدس الشرقية يحملون بطاقات هوية زرقاء، فيبدو أن ما يقرب من نصف مليون فلسطيني من الأراضي المحتلة إما يقيمون في إسرائيل أو يُسمح لهم بالبقاء فيها. وإذا لم تكن هناك هجمات عنيفة تقريبًا، فليس لأن الحاجز هو الذي أوقفها.
كما كتب أمير فاخوري في العام 2020، فإنه بدلاً من إقامة فصل، قامت إسرائيل في الواقع “بابتلاع” الفلسطينيين. وبعد الهجمات في بئر السبع والخضيرة وقبل الهجوم على بني براك، كتب مناحم كلاين في موقع “لوكال كول” أن “الضم الفعلي للضفة الغربية بحكم الأمر الواقع إلى إسرائيل، وخلق نظام واحد بين النهر والبحر، حولت جميعها القضية الفلسطينية من سياسة خارجية إلى قضية تتعلق بالنظام الداخلي لإسرائيل”.
بين المساواة والطرد الجماعي
كانت التداعيات السياسية لهذا الواقع هائلة. في أيار (مايو) 2021 رأينا الفلسطينيين بدورهم وهم يمحون -أو على الأقل يتجاهلون- الخط الأخضر؛ فقد رد فلسطينيو اللد على العنف في الشيخ جراح، وردت غزة على ما حدث في اللد، وردت الضفة الغربية على ما جرى في غزة، وهكذا. وفي ذلك الوقت، كتب أمجد عراقي في “مجلة 972+” أنه على الرغم من أن هذه لم تكن المرة الأولى التي ضمت فيها المظاهرات الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، فإنه “لا يمكن لأي فلسطيني شارك في الاحتجاجات الحالية أو تابع الأخبار من الخارج إلا أن يشعر بأن هذه الموجة ليست مثل الآخريات”. لقد لعب محو الخط الأخضر دورًا مهمًا في هذا التطور.
منذ أحداث العنف في أيار (مايو) 2021، وخاصة منذ تشكيل حكومة تضم حزب “راعم” الإسلامي، حوّل اليمين الإسرائيلي موضع تركيزه. بدلاً من الحديث عن الضم والتوسع، أصبح ينظر إلى الداخل ويصنف المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل على أنهم أعداء داخليون. إن “الجبهة الداخلية” في ما تسمى بالمدن المختلطة في إسرائيل لا تقل أهمية عن -وقد تكون في الحقيقة أكثر أهمية من- المستوطنات والبؤر الاستيطانية في الضفة الغربية.
حدث ذلك لأن اليمين فهم أن تقويض الفصل بين اليهود والفلسطينيين، وتقوية المساحات المشتركة يمكن أن يؤديا في يوم من الأيام إلى دمقرطة إسرائيل/فلسطين. وخوفًا من فقدان السيادة اليهودية، سعى اليمين إلى إثارة مواجهة متعمدة بين الدولة والمواطنين الفلسطينيين. وكان التحريض المنظم ضد البدو في النقب، بما في ذلك إنشاء ميليشيا مسلحة في تلك المنطقة، جزءًا من هذه العملية.
لا يمكننا أن نقول على وجه اليقين إن الهجمات الثلاث الأخيرة كانت نتيجة اضمحلال الخط الأخضر. لكنها عززت بالتأكيد المعضلة التي خلقتها إسرائيل نفسها بإلغائها ومحوها أي فرق بين “هنا” و”هناك”. وإذا أصبحت القضية الفلسطينية قضية داخلية، كما يكتب كلاين، فإن العدو الخارجي لإسرائيل يختفي. وبعد كل شيء، لا يمكن للمرء أن يعيد احتلال أم الفحم أو الحورة في النقب -لقد كانت هذه المناطق تحت السيطرة الإسرائيلية منذ 74 عامًا. ويمكن للمرء إرسال ضباط أمن متخفين إلى جنين، لكن الجميع يعلم أن هذا لن يقربنا من حل.
ما مِن شك في أن ما رأيناه خلال الأسبوع الماضي يتجه بقوة نحو إضفاء الطابع الرسمي على الفصل العنصري، حيث قررت بعض المدن الإسرائيلية عدم توظيف الفلسطينيين، سواء من الضفة الغربية أو من داخل إسرائيل.
وإذا كانت المشكلة داخلية حقاً، فإنها ستتطلب حلاً داخليًا -وهو أكثر تعقيدًا بكثير من غزو رام الله أو قصف غزة. في هذه الحالة، ثمة خياران: إقامة نظام يقوم على المساواة والشراكة والمصالحة بين جميع الذين يعيشون بين النهر والبحر؛ أو إضفاء الطابع الرسمي على سياسة الفصل العنصري -وربما ما هو أسوأ- في كل ركن من أركان هذه الأرض. إن الحلول القديمة للانتصارات العسكرية أو “إدارة” و”تقليص” الصراع تصبح بسرعة غير ذات صلة.
كما أن الطرد الجماعي للفلسطينيين -أو ما يسميه الإسرائيليون بـ”الترحيل”- مطروح أيضا على الطاولة. في حديث له في القناة 14 اليمينية المتطرفة، قال عوزي ديان، الذي كان حتى لحظة قريبة عضوًا في الكنيست عن حزب الليكود: “إذا وصلنا إلى حرب أهلية، فإنها ستنتهي بكلمة صعبة تعرفونها، وهي ’النكبة‘… إنها نوع من حرب استقلال، والتي يجب علينا أن نكملها”. ولعل المثير للاهتمام بشكل خاص هو أن هذه الكلمات تأتي من ديان، الذي كان كرئيس لمجلس الأمن القومي أحد آباء مشروع الجدار الفاصل. في العام 2002، كان يعتقد أن الفصل سيؤدي إلى حل؛ واليوم يعتقد بأنه من أجل الوصول إلى حل، يجب إبعاد الفلسطينيين بالكامل؛ تمامًا كما حدث في العام 1948.
هذه بالتأكيد لحظة خطيرة للغاية، والتي حتى لو لم تنته بنكبة ثانية أو طرد جماعي، فإنها قد تؤدي إلى عنف قاتل يودي بحياة الفلسطينيين واليهود بشكل عشوائي.
ومع ذلك، ما يزال هناك متسع للتفاؤل. إن دخول المواطنين الفلسطينيين إلى اللعبة السياسية في إسرائيل، واعتراف يسار الوسط اليهودي المتزايد بأن الشراكة مع الفلسطينيين ضرورية، وتوسيع وتعزيز المساحات المشتركة -كل ذلك يمكن أن يشكل قاعدة لجبهة لمقاومة التحريض والتهديدات بالطرد. وتبقى اللحظة الحالية دقيقة وخطيرة، لكن المعركة -من أجل حياتنا ومستقبلنا كيهود وفلسطينيين- لم تُحسم بعد. - الغد